/ كاتب كردي عراقي
تركت دولة " البعث " في العراق إرثاً ثقيلاً على صدر الجميع ، ولم يتخلص العراقيون من أطياف اللاطمأنينة بمجرد سقوط تلك الدولة وملحقاتها المتعددة التي أظهرت قدرتها الفائقة على إقامة إحتفالات الموت بأشكال لم يبتدعها نظام سياسي آخر ، أو فكر سياسي آخر بالأحرى . وبقيت المآسي بالتالي كفضاء واسع تتآكل فيه روافد الضحايا والمعتقلين والمؤنفلين والمعدومين ومجهولي المصير ، فبعد أن عاشت هذه الروافد أيام الإنتظار والصمت والخوف أصطدمت بهول المقابر الجماعية وتحولت الى جسد ثقيل حزين لا تدركه جغرافيا السياسة والإعلام والثقافة ولا يدركه أصحاب نظريات " المقاومة البعثية " .
سأركز هنا على مأساة " الأنفال " وآثارها الإجتماعية والنفسية في كردستان ، بالإضافة الى التركيز على الأسئلة التي طرحها حجم تلك العملية الإستئصالية ضد المجتمع الكردي في ظل صمت دولي وإقليمي سمح لجماح الرغبة في القتل لدى البعث بالتوسع عبر جميع الوسائل المتاحة . وكانت الوسيلة الفعالة في تنفيذ " الأنفال " على أرض كردستان عام 1988 وبعد أسبوعين فقط من جريمة قصف مدينة " حلبجة " بالأسلحة الكيمياوية ، هي خوض معركة وجودية خارجة عن منطق الحروب التقليدية التي تعتمد المال والسياسة والجغرافيا والدين ، رغم أنه أستخدم الصبغة الدينية وأستعار منها إسم الأنفال لعمليات الإبادة التي أقترفها في كافة أنحاء كردستان وراح ضحيتها 182000 ألف شخص من النساء والشيوخ والأطفال وتدمير 4500 قرية وبلدة .
وضعت الأنفال المجتمع الكردي أمام تجربة تاريخية قاسية مع خيالات نظام فاشي تمت مقاربتها مع الواقع وفق مشروعية الجسد الكردي للتنكيل ، وكان " المُحال " في تلك المقاربة بين خيال البعث والموت والواقع هو بقاء شيء من الواقع ولهذا قال "علي كيمياوي " في إجتماعه مع دوائر الأمن والمخابرات العسكرية والفرق البعثية في مدينة أربيل عام 1987 : ( لايبقى منزل واحد في القرى الكردية في سهول أربيل بأستثناء القرى العربية . أنا أشرف بنفسي على العملية وإذا بقي منزل واحد سأعرف ماذا أفعل يالقيادة لبمسؤولة للعملية ) . وقد تم تنفيذ جميع أوامر " الكيمياوي " بعد أن نصبه صدام حسين القاتل الأول في كردستان بقرار رسمي صادر من مجلس قيادة الثورة .
على مستوى التقني للعملية أستخدم البعث " الرعب القياسي " في تنفيذ خطته العسكرية ، وقصف للوهلة الأولى القرى قصفاً جوياً وبرياً ثم بدأ بهجوم شامل شاركت فيه القوات العراقية النظامية والحرس الجمهوري والإستخبارات العسكرية والفرق البعثية بالإضافة الى قوات المرتزقة الكردية " الجحوش " وتم تطبيق قول البعث التاريخي في العملية وهو " التصفية أو التجميع " .
كانت الخطوة الأُولى التصفية وإعتقال المجموعات البشرية نحو الجنوب العراقي " سجون نقرة سلمان الواقعة في الصحراء الغربية حصراً " في جو من السرية والكتمان بحيث لم يعرف مصير هؤلاء الأطفال والنساء والشيوخ الاّ بعد سقوط البعث ومقابره الجماعية . ولابد من الإشارة هنا الى العثور على دمى الأطفال في إحدى المقابر الجماعية قرب مدينة كركوك وكانت الجثث للنساء والأطفال فقط .
أما الخطوة الثانية فكانت " التجمبع " في مجمعات سكنية قسرية تم تأسيسها قبل وأثناء الأنفال ، وهناك الآن أكثر من 20 مجمعاً في كردستان تعيش فيه نساء بلا رجال ، رجال بلا نساء وأطفال ، وأطفال بلا آباء وأُمهات ، ونساء أصبحن الأرامل مع كشف المقابر الجماعية .
لقد عاشت تلك النسوة أكثر من 14 عاماً من الإنتظار بأمل عودة أطفالهن وأزواجهن يوم ما ، وتحملن ظروف قاسية بين ثقل الأيام وأسئلة الصغار الذين ولدوا في المجمعات دون أن يتعرفوا على وجوه الآباء والركض وراء الحصادات الآلية في كل صيف يأتي للحصول على باقة من السنابل وبالتالي على كسرة خبز تبث الحرارة والدفئ في الغرف المجردة من التدفئة والضوء . وكانت السنابل والصيف والتهرّب من أسئلة الصغار حول عودة الكبار شكلاً من أشكال مقاومة الحياة التي تجسدت صورها في إنتظار مطلق ، إنتظار لم يشبه الاّ الوباء والشيخوخة المبكرة والتلاشي في الحرّ البعثي ، وأنهاه الإنهيار البعثي ايضاً .
نحن هنا أمام مأساة في أوجها وتشكل عناصرها ، القوت اليومي لشخصياتها المقتلعة من محيطها التاريخي والإجتماعي والروحي ، مأسآة تعلن موت الجميع في دوائر متداخلة ووفق سياسة التنحيت على الجسد أو ذاكرة البقاء كمرارة أبدية في الحياة . فالرجل الذي أعدم نفسه في اليوم الأول من العيد – لا أتذكر إن كان عيد رمضان أوالأضحى – هرباً من حزن أولاده وبعد زوجته التي كانت معتقلة في نقرة سلمان ، كان يبغي إبعاد جسده من التنحيت والبقاء كمهانة يومية أيضاً ، أما النساء اللواتي أخترقن العزلة بالبحث عن الصيف والسنابل و نشرات الأخبار اليومية و " عفو عام " ، فاكتسبن حلم عودة المبعدين أو المدفونين " المؤنفلين " وتطعيم الباقين والناجين والهاربين في مجمعات الأبد البعثية ، وكان عملهن بالتالي إلتفافاً حول الزمن والتاريخ والواقع والمدن – المجمعات – التي بُنيت كي تصبح معسكرات للأرامل مع مرور الأيام .
للدخول الى تفاصيل هذه المأساة في مجمعات الأرامل واليتامى التي تشكلت في رحم القتل المجاني وموسم حصاد البشر ضمن إحتفال دموي أقامه " العوام " في الكتمان ، لا نحتاج الى الكلمات بقدر إحتياجنا لصور تؤسلب المحنة كإطار تاريخي لحدث " التأرمل " و " التيتم " دون شهادات وفاة عن حدث موت الأزواج والآباء . ففي وقت كانت تتحرك صور " المُنتظِرين" في المجمعات وفق إيقاع البحث عن باقات من السنابل بغية تقليل أيام الإنتظار وتليين جدران الغرف المتصلبة ، أصبح " اللاحدث " أو " اللاخبر " بالأحرى المعنى الوحيد والمطلق للحياة ، لكن الجميع تظاهر بإمتلاك أمل عودة " الغابئين "المؤنفلين وتم إختصار الزمن من خلال رواية الأشياء المتعلقة بما قبل الأنفال ( الأغاني ، الأعراس ، مواسم الحصاد ، المعارك التي كانت يشعلها الأطفال وتتورط فيها النساء ، الهروب الجماعي من القرى خوفاً من أسراب طائرات هيليكوبتر .. الخ ) ، ومرّ على هذا الإيقاع عقد ونيف دون حدث واحد في حياة تلك النسوة اللواتي طُلقن حسب رغبة أصحاب مزرعة الجثث وفصلن عن أزواجهن عبر الإفناء والقتل والسجن والدفن والتقبير .
وفي هذه الفترة ذاتها بدأ المجتمع الكردي يعاني من ثقل المأساة التي ترفدت في ذاكرة الناس والحياة الإجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية . إذ ظهرت مدن أفقية – المجمعات القسرية – كأورام خبيثة في جميع مناطق كردستان ، وأصبحت بخشونتها وغلاظتها المعمارية جزءاً من تفاصبل الحياة اليومية تضم في أحشائها مجتمع معزول عن العام والتاريخ ، مجتمع قُطعت أوصاله عبر فكر أستئصالي تمخض عن خيال وتراث سياسيين تجسدا في التجربة البعثية بكافة أشكالها العلنية والمخفية . علماً ان هذه المدن كانت نموذجاً لأسلوب العمارة الحديث في ستراتيجيات الهندسة العسكرية والأمنية للتجميع . وإذا نظرنا لبناها الأساسية نرى أنها تخضع للمراقبة والسيطرة الكاملتين من حيث موقعها الجغرافي وبهذا أستطاع البعث إبعاد الناس عن أسلوب عمارتهم العفوي والمنسجم مع طبيعة الوديان والجبال التي تضمن الأمن وسلامة الناس وفق ثقافة الموروث وغرائز الحياة . أما الخطوة الثانية بعد إختيار الموقع فكانت خريطة " المجمع " وكيفية تجسيد فكرة " التجميع " التي تلت التصفية كرؤية كليانية تتطلبها يوميات دولة البعث .
إذ تم تشريع قانون هندسي خاص يضمن الأفكار التي بُنيت من أجلها المجمعات ، وتجسدت الرؤية وفق هذا القانون في أشكال بناء البيوت وإقامة الشوارع وتوزيع المياه والحصص التموينية الغذائية ومداخل ومخارج المجمع .
أن المشكلة المستعصية التي تواجه الجميع هنا هي حجم المأسآة وقدرتها على إنتاج ذاتها على المستوى الإجتماعي والنفسي والثقافي ، ففي الوقت الذي تخبرنا صور المقابر الجماعية عن موت ذوينا وتسدل ستارة الإنتظار الجميل الذي كنا نعيشه ، تتجذر ظاهرة " التأرمل " التي أعلنها سقوط البعث لآلاف من الكرديات ، وتتأصل مظاهر التراجيديا في دوائر أُخرى تختلف عن سابقاتها التي تجسدت في مونولوج طويل في سرد إنشطار الذات بين باقات من الإنتظار وأيام من جمع السنابل وسنين كبرت معها أسئلة المؤنفلين على أرضهم .
تبقى مشكلة المجموعات التي نجت من الأنفال وبشكل خاص النساء والأطفال كتراث متجدد لخيالات السياسة القوموية البعثية في المنطقة ولا تتوقف في إدامة الحزن التاريخي وإقامة جسر بينها وبين جيل لم يتعرّف على هويتها الاّ من خلال الأنفال والطروحات ( الإفنا – عرقية ) التي شرّدت الأسماء عن أمكنتها عبر سياسة التأرمل والتيتم والتقبير في إحتفالات دفن الأحياء .