لا للحرب:
منشورات ومظاهرات
إنّ الفعل العسكريّ المؤسس للقرن الجديد ليس انهيار البرجين التوأمين، ولا هو السقوط غير الجميل ولا المشهدي لتمثال صدّام حسين. لقد انطلق القرن الحادي والعشرون مع عبارة «لا للحرب» التي أعادت للبشرية جوهرها، وجمعتها حول قضية. لقد هزّت تلك الـ «لا» الكوكب كما لم يحصل سابقاً في تاريخ البشرية.
من المثقفين متنوعي الانتماء إلى السكان الأميين في مجاهل الأرض، تحوّلت تلك الـ «لا» إلى جسرٍ ربط التجمعات البشرية من قرى ومدنٍ صغيرة ومدنٍ كبرى وأرياف وبلدان وقارات. في المنشورات والمظاهرات، تقدمت كلمة «لا» على المطالبة العقلانية بمواجهة القوة.
على الرغم من أنّ تلك الـ «لا» قد انطفأت جزئياً مع احتلال بغداد، إلاّ أنّ الأمل الذي يولّده صداها أقوى من العجز. مع ذلك، تحرّك البعض على الأرضية النظرية، وغيّروا سؤال «ما العمل لإيقاف الحرب؟» بحيث أصبح «أين سيكون الغزو القادم؟»
هناك من يساندون بصراحة نظرية أنّ إعلان الولايات المتحدة عدم نيّتها بالقيام بشيءٍ ضدّ كوبا يبرهن على أنّ العمل العسكري الأمريكي الشمالي ضدّ تلك الجزيرة الكاريبية ليست أمراً يخشى. إنّ رغبة الحكومة الأمريكية في غزو واحتلال كوبا حقيقية، لكنّها تتجاوز الرغبة بقليل. لقد أصبحت خططاً وتوقيتاً واحتمالاتٍ ومراحل وأهدافاً جزئية ومتتابعة. كوبا ليست أرضاً ينبغي الحصول عليها وحسب، بل هي، فوق ذلك كلّه، إهانة. إنّها حدبةٌ لا يمكن احتمالها على ظهر العربة الفاخرة للحداثة النيوليبرالية. و«المارينز» هم سائقو تلك العربة. وإذا ما تجسدت تلك الخطط، فسوف يتوضّح، كما هي الحال اليوم في العراق، بأنّ الهدف لم يكن إزاحة السيد كاسترو روث، ولا حتى فرض التغيير على النظام السياسي. إنّ غزو واحتلال كوبا (أو أيّة بقعةٍ أخرى من الكرة الأرضية) ليس لهما علاقة بالمثقفين «المندهشين» من عمليات المراقبة الداخلية لدولةٍ وطنية (ربما كانت الأخيرة الموجودة بصفتها تلك في أمريكا اللاتينية).
وإذا كانت الحكومة الأمريكية الشمالية لم تحرّك ساكناً تجاه الرفض الفاتر للأمم المتحدة ولحكومات العالم الأول، كما لم تهتزّ لها شعرة بسبب الإدانة الصريحة التي وجهها ملايين البشر في كافة أرجاء كوكبنا، فإنّ كلمات الرفض أو التأييد من المثقفين لن تؤثر فيها أو توقفها عند حدّها (بالحديث عن كوبا، فقد تمّ منذ فترة وجيزة الكشف عن عملٍ «بطولي» قام به الجنود الإسرائيليون: فقد أعدموا فلسطينياً برصاصةٍ في النقرة. كان عمر الفلسطيني سبعة عشر شهراً. هل صدر تصريحٌ أو بيانٌ جمعت فيه توقيعات الاستنكار؟ هل الاستنكار انتقائي؟ هل هو تعبٌ في القلب؟ أم أنّ عبارة «نحن ندين ما يجري من أيّ مصدرٍ كان» تشمل كلّ جرعة رعبٍ يكبّدها أولئك الذين في الأعلى حتى الغثيان لأولئك الذين في الأسفل؟ هل يكفي أن نقول «لا» مرةً واحدة؟).
كما أنّ مظاهرات الاحتجاج، مهما كانت كبيرة ومستمرة، وحتى داخل الاتحاد الأمريكي، لن توقفها.
أقصد: ليست وحدها.
هناك عنصرٌ أساسي: قدرة المعتدى عليه على المقاومة، والمهارة في تركيب أشكال المقاومة، بالإضافة إلى أمرٍ قد يبدو «ذاتياً»، وهو قرار البشر المعتدى عليهم. ينبغي بهذه الصورة أن تتحول الأرض المستهدفة (سواءً كان اسمها سورية أو كوبا أو إيران أو جبال الجنوب الشرقي المكسيكي) إلى أرضٍ مقاوِمة. وأنا هنا لا أقصد كمية الخنادق والأسلحة والأفخاخ وأنظمة الأمن (التي ستكون ضرورية مع ذلك)، بل أقصد استعداد هؤلاء البشر للمقاومة (قد يدعوه البعض بـ «المعنويات»).
المقاومة
الأزمات تسبق إدراك وجودها، غير أنّ التفكير في نتائجها أو المخارج من تلك الأزمات ينقلب إلى أفعال سياسية. إنّ رفض الطبقة السياسية ليس رفضاً للسياسة، بل شكلاً من أشكال ممارسة السياسة.
إنّ غياب أيّ تعريفٍ لشكلٍ جديد من أشكال ممارسة السلطة في الأفق المحدود للغاية على أجندة السلطة لا يعني بأنّ السياسة لا تتقدم في البعض أو العديد من أجزاء المجتمعات في كافة أرجاء العالم.
لقد بدت كافة أشكال المقاومة في تاريخ البشرية غير مفيدة، وليس فقط عشيّة حصول الاعتداء، بل في نفس ليلة حدوثه. لكن المفارقة تكمن في أنّ الوقت يلعب لصالح تلك المقاومة إذا ما صمّمت لهذا الهدف.
يمكن أن يسقط العديد من التماثيل، لكن إذا بقي قرار الأجيال وتغذى، فإنّ انتصار المقاومة ممكن. لن يكون لهذا الانتصار تاريخٌ محدد، ولن تصاحبه استعراضات فخمة، غير أنّ جهازاً يحوّل ميكانيكه الخاص إلى برنامجٍ ذي نظامٍ جديد سينتهي به الأمر ليستهلك بالكامل.
لست أتنبأ بأملٍ دون أساس، لكنني أذكّر فقط ببعض التاريخ العالمي، وببعض التاريخ الوطني في كلّ بلد.
سوف ننتصر، ليس لأن ذلك سيكون قدرنا، أو لأنّ ذلك مكتوبٌ في ألواحنا المتمردة أو الثورية، بل لأننا نعمل ونناضل من أجل ذلك.
وللوصول إلى ذلك الهدف، يتوجّب علينا بعض الاحترام للآخر المختلف في مكانٍ مختلف، وأن يكون لدينا الكثير من التواضع لنتذكّر بأنه لا يزال لدينا الكثير لنتعلّمه من ذلك الشخص المختلف، والكثير من الحكمة كيلا ننسخ عنه، بل ننتج نظريةً وممارسةً تستبعد الجوهر في مبادئه، لكنها تعترف بآفاقه والدروب التي تؤدّي إلى تلك الآفاق.
ليس المطلوب تقوية التماثيل الموجودة، بل العمل من أجل عالمٍ لا تفيد فيه التماثيل إلاّ لكي تقضي العصافير حاجتها عليها.
عالمٍ سيكون للمقاومة مكانها فيه. لا أقصد أمميةً للمقاومة، بل رايةً متعددة الألوان، لحناً من الأنغام المتعددة. وإذا ما بدت نشازاً، فذلك فقط لأنه لا يزال من مهام أولئك الذين في الأسفل توزيع النغمات بحيث تجد كلّ نغمةٍ مكانها، وحجمها، وبشكلٍ خاص ارتباطها مع النغمات الأخرى.
لا يزال التاريخ بعيداً عن النهاية. سيكون التعايش ممكناً في المستقبل، وليس ذلك بفعل الحروب التي حاولت الهيمنة على الآخر، بل بفضل «اللاءات» التي أعطت للبشر، كما حصل في فترة ما قبل التاريخ، قضيةً مشتركة، ومعها الأمل: أمل الحياة... للبشرية ضدّ النيوليبرالية.
من الجبال الجنوبية الشرقية في المكسيك
نائب القائد المتمرد ماركوس
أيار 2003