|
الدين في النطاق العام
عصام عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 1982 - 2007 / 7 / 20 - 10:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يردد هابرماس دائما : أن العنف هو " عطل في الاتصال "، وفقا لنظريته في الفعل التواصلي. فالمدار الأخلاقي والسياسي الذي تفترضه الحداثة يملي تبادلا عقلانيا ما بين أصحاب التصورات والعقائد المختلفة ، يكون حرا من التعتيم أو التحريف المعرفي، وبما ييسر السبيل إلى بلوغ المعرفة العالمية التي يمكن للعقل أن يصادق عليها. بيد أن الحداثة لا تقضي الالتزام بهذا التبادل فقط، وإنما تتطلب من شركاء المدار العام، وهم غالبا أصحاب رؤي وقناعات مختلفة، إدراج تصوراتهم ونظرياتهم هذه في سياق نسبي، وعلي قدم المساواة مع بعضها البعض، و دون أن يعني ذلك التفريط بزعم المصداقية المطلقة التي قد ينسبها كل صاحب نظرية أو تصور إلى رؤيته الخاصة. والأبعد من ذلك ، أن من المتوقع من صاحب النظرية أو التصور أن يحتكم إلى منظور الآخرين في تقييم نظريته أو تصوره المعني بما يجعله، أو يجعل النظرية أو التصور، جديرا باحتلال موقع مناسب في مدار التبادل العقلاني الحداثي. هذا ما لا تطيقه الأصولية – حسب هابرماس - أو تقدر على الامتثال به. فالأصولية من حيث إنها الإطار النظري لأفعال العنف المنظمة اليوم هي ردة فعل ضد الحداثة، حتى وان كانت ردة فعل حديثة، فهي ، وخلافا لما تقتضيه الحداثة ، لا يمكن أن تسلم بإمكانية الاندراج النسبي لعقيدتها الدينية في مدار تتجاوز فيه التصورات والعقائد المختلفة من دون أن تضحي بالحقيقة المطلقة التي تزعم ملكيتها، فضلا عن انها غير مستعدة أن تدنس عقيدتها من خلال النظر إليها من منظور الآخرين.
غير انه في إبريل عام 2004 قدم هابرماس طرحا مبتكرا لدور الدين في المجتمع المعاصر، في مؤتمر دولي عن "الفلسفة والدين" في جامعة بولانزر لودر. وكان من أبرز ما طرحه في بحثه المعنون : "الدين في النطاق العام" هو أن " التسامح " أساس الثقافة الديمقراطية اليوم ، مسار باتجاهين دائما، ولهذا لا ينبغي فقط أن يتسامح المؤمنون إزاء اعتقادات الآخرين، بما فيها عقائد غير المؤمنين وقناعاتهم، فحسب، بل إن من واجب العلمانيين غير المتدينين أن يثمنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني ". ووفقا لنظريته في الفعل التواصلي فإن هذا القول يوحي بضرورة أن نتبنى وجهة نظر الآخر. ولعله سيكون من غير المعقول ان نتوقع أن يتخلى المتدينون بالمرة عن قناعاتهم الراسخة عند الدخول في النطاق العام الذي يصير فيه الاستدلال العقلاني نمط خطابنا الأساسي. بيد أنه أكد في محاضرة عامة مؤخراً: "إن قوة التعاليم الدينية وقدرتها على صياغة البديهات الأخلاقية فيما يتعلق بأشكال الحياة الإنسانية الفاضلة ،تجعل من التمثلات الدينية المتعلقة بالقضايا السياسية ذات الصلة ، مرشحا جاداً لمضامين حقيقية ممكنة . ومهما كانت مفاهيمنا الفلسفية العلمانية قوية ومقنعة ـ كفكرة حقوق الإنسان على سبيل المثال ـ فإنها تستفيد، من حين لآخر، من اتصالها المتجدد بأصولها المقدسة. والواقع أنه حتى عهد قريب كان هابرماس معروفاً بأنه مفكر علماني خالص، ورغم أنه تناول في كتاباته موضوعات دينية متعمقة، فإنه يصعب إدراجه في خانة الفلاسفة المتدينين. ففي خريف عام 2001 تلقي هابرماس جائزة السلام من رابطة بائعي الكتب الألمانية، وكان لعنوان كلمته في الحفل" الإيمان والمعرفة " وقعاً دينيا ً. كما شدد الخطاب الذي ألقاه بعد مدة قصيرة من هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أهمية التسامح المتبادل بين المقاربتين العلمانية والدينية في الحياة.
والواقع أننا إذا تتبعنا مسار تطور هابرماس الفكري لا نجد غرابة في ذلك. وإذا ألقينا نظرة على أبرز عمل فلسفي عند هابرماس (مجلدي كتابه العمدة " نظرية الفعل التواصلي " عام 1981) نجده يِؤكد أن المفاهيم الحديثة من قبيل المساواة والعدل هي صيغ علمانية لمفاهيم يهودية ـ مسيحية قديمة. وبالمثل، فان فكرتنا عن القيمة الجوهرية للمساواة بين البشر ـ التي هي مهاد حقوق الإنسان ـ تنبع مباشرة من المفهوم المسيحي لمساواة الرجال والنساء كلهم عند الله. ولو اختفت هذه المصادر الدينية القيمة من الأخلاق والعدالة ، لكان من المشكوك فيه ان تستمر المجتمعات الحديثة في الحفاظ عليها. ولخص هابرماس، في مقابلة أجريت معه مؤخراً، هذه الرؤى على النحو الآتي: "في الفهم الذاتي المعياري للحداثة عملت المسيحية كأكثر من محض مبشر أو محفز، أما نزعة المساواة الشمولية التي منها نبعت مفاهيم الحرية والحياة الجمعية المتضامنة وسلوك الحياة المستقل والانعتاق، وأخلاق الفرد وضميره، وحقوق الإنسان والديمقراطية فهي الإرث المباشر لأخلاق العدالة اليهودية وأخلاق المحبة المسيحية".
#عصام_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما قبل ويست فاليا .. بعدها
-
خطوط الانفلات
-
الدين في حدود العقل
-
تحولات عميقة
-
عنف لا أحد
-
الصمت بين الكلمات
-
دريدا والإله تحوت
-
إعادة محاكمة سقراط
-
ثقافة الانتقام
-
التعصب وسنينه
-
تفكيك الأصولية والهوس الديني
-
الأصولية .. هنا وهناك
-
الهوس الديني والفتن الطائفية
-
الإيمان والعلم
-
موت الحداثة في مصر
-
اختفاء البكوش
-
الفعل التواصلي
-
جزيرة العقلاء
-
يوتوبيا ما بعد الحداثة
-
لا وعي اليوتوبيا الباطن
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|