د. بهجت عباس
الطبع والتطبع
**********
شغلت مسألة الطبع والتطبع أفكارَ مئاتِ الفلاسفة وعلماء النفس والإجتماع عشرات القرون، فكانتْ نتيجة ذلك نظريات متعددة متناقضة، تـؤيد إحداها الطبع الموجود أصلاً في الإنسان عند ولادته، بينما تـؤيد الأُخرى التطبع المكتسب من البيئة والظروف الإجتماعية التي يسبح في لججها. فمِنْ قائلٍ إنَّ الإنسانَ مُسَيرٌ وليس مُخَيَّراً، فإذا عمل شيئاً، فذلك مكتوبٌ على جبينه عند ولادته، سواء أواتاه حظ أمْ سوءُ طالع. كان أبرزُ دعاة هذه النظرية قديماً الأشعرية (نسبة إلى حسن الأشعري المتوفى عام 340 هجرية والذي كان من تلامذة المعزلة وانقلب عليهم ). الإنسان عند المعتزلة مخيرٌ وليس مسيراً، فهو ذو عقل وإرادة حرة وهو مسؤول عن أعماله، لأنً عقله يُريه الصواب من الخطأ، وهذا مضاد للجبرية التي تقول إنً كلً شئ مسببٌ مباشرة من الله، وعلى هذا ذهب الأشاعرة
ألقاه في اليمً ِِمكتوفاً وقال له إيًاكَ إيًاك أن تُبتَـلَّ بالماءِ
إنً إحلالَ الروح في الجسد أو إمتزاجَ الروح بالمادة كان جوهر الفلسفات الهندية والبونانية القديمة، والتي طورها الفلاسفة المسلمون، وظهرتْ في كثير من الشعر العربي قديماُ وحديثاً والتي حبذ أكثرُها الطبعَ، كقول بشار بن برد مثلاً
خُلِقتُ على ما كُنتُ غيرَ مُخيرٍ هواي، ولو خُيرتُ كنتُ المُهذَبا
أُريد فلا أُعطى، وأُعطى ولمْ أُردْ وتكره نفسي أنْ أكونَ المجربا
وقوله أيضاً
والشيخُ لا يترك عـاداتـِه حتّـى يُـوارى في ثـرى رمسه
وقول شاعر آخر
ومُكلفُ الأشياءِ غيرَ طباعها مـُتطـلِّـب في الماء جذوةَ نـارِ
ولكنً أبا العلاء المعري يناقضها
كذب الظن، لا إمامَ سوى العقـلِ مُـشيراً في صبحه والمساءِ
وكذلك
وينشأ ناشئُ الفـتـيان فـينا على ما كـان عـلـًمـَهُ أبـوهُ
وما دانَ الفـتى بـتقىً ولكِنْ يُعلًـمه الـتـديـًنَ أقـربـوهُ
ولكنً الحيْرة تنـتابه فيقـول:
كمْ وعـظ الواعظون فينا وقـام في الـناس أنـبـياءُ
فانصرفوا والبلاءُ بـاقٍ ولـمْ يـزلْ داؤك العَـياءُ
حكمٌ جرى للمليك فـينا أمْ نحن في الأصل أغبـيـاءُ؟
أما الشيخُ إبراهيم اليازجي فقد مزج الطبع والتطبع معاً
ألِفتمُ الهونَ حتى صار عندكمُ طبعا،ً وبعضُ طباعِ المرءِ مُكتَسَبُ
والأمثلة كثيرة جداُ، وما ذُكر لا يُعَدٌ إلا النزْر منها.
الجـيـنات
******
فإذا أخذنا (الطبع) بالمَفهوم العلمي حالياً، وجدنا (الجين) يرافقه. هذا الجين المسؤول عن المظهر الخارجي للكائن الحي سواءٌ أكان جرثومةً، حشرةً، نبتةً، حيواناً أو إنساناً، يلعب الدور الرئيس في العمليات الجارية (داخل) هذا الكائن الحي. فكما (يمنحه) الهيكل الخارجي، أو (البنية الخارجية)، يمنحه أيضاً (البنية الداخلية أو التحتية). الجين الذي يعطي الفرد ملامحه الشخصية مثل الطول، لون البشرة أو الشعر أو العينين وغير ذلك يكون مسؤولاً أيضاً عن الإفرازات الداخلية التي تسيطر على وظائف الجسم كلها، كالخمائر والهورمونات والبروتينات الفعالة وغيرها. فإذا كان للجين (قابلية) تحديد المظهر الخارجي، أليست له (قابلية) تحديد فعالية الإنسان أيضاً؟. وهنا يجب أن نعرف عن الجين طبقاً لمشروع الجينوم البشري الذي أنتج مسودة الخريطة الجينية في 21 حزيران 2000.
الخريطة الجينية أو ما سُمًِيتْ بـ (كتاب الحياة ) نصًتْ على ما يلي:
1. كل إنسانٍ على سطح الأرض يشترك في 9و99% من الجينات.
2. تُكوِّن البكتريا (230) جيناً من جيناتنا.
3. إنً 95% من الجينات تافهة (غير فعالة) و5% فقط فعالة. أما التافهة، فيُظنًُ أنها تسيطر على وقت عمل البروتين ومكانه.
4. إنً عدد الجينات الفعالة 31 ألف جين.
5. قد يُكَوِّن الجين 3 أو 4 بروتينات وليس بروتيناً واحداً، كما كان يُعتقد من قبلُ.
فالإختلاف إذاً هو1.% فقط بين الأفراد. وهذا يعني أنَّ في كل سلسلة وحدات جينية (نيوكليوتيدات ) تتألف من ألف قاعدة، هناك قاعدة واحدة مختلفة و999 قاعدة متشابهة.
وإذا عرفنا أنً ثمة 3 بلايين قاعدة زوجية تُكَونُ جزيئة الـ دي. أنْ. أي ( دنا ) DNA ، يكون ثمة 3 ملايين قاعدة زوجية مختلفة بين أي فردين ( عدا التوأمين المتناظرين – من خلية مُخَصبة واحدة ). فماذا يعني هذا الإختلاف؟ لا يعني شيئاًً في أكثر الأحايين وقد يكون قاتلاً في بعضها. فمثلاً إبدال قاعدة ثايمين ( T ) بقاعدة أدنين (A ) في الكودون السادس من قطعة الجين الذي يُكَون هيموغلوبين الدم ( الكودون يتألف من ثلاث قواعد ويدون حامضاً أمينياً واحداً في صنع البروتين )، أيْ أنً الكودون ( GAG ) الذي يدون الحامض الأميني كلوتاميك Glutamic Acid تغيًر إلى الكودون ( GTG ) الذي
يدوًن الحامض الأميني فالين ( Valine )، مما نتج عنه تركيب هيموغلوبين متغير. ذلك أنَّ إحلال الحامض الأميني فالين محل الحامض الأميني كلوتاميك في سلسلة الهيموغلوبين سبَّـب مرض (فقر دم الخلية المنجلية)، وهذا يعني أنَّ خلية الدم الحمراء أصبحتْ منجلية الشكل تتجمع في الأوعية الدموية الدقيقة مسببةً إعاقةَ الدورة الدموية، كما وإنً عمرَها أصبح نصفَ عمر خلية الدم الحمراء الطبيعية، وهذا ما يسبب فقرَ دم ٍخاصاً للمصاب ووفاتَه قبل سن البلوغ إذا لم يعالج. يكثر هذا المرض عادة في الأميركان السود. وهناك أمراض جينية كثيرة تلازم أعراقاً خاصة، مثل التليًف الكيسي الذي يصيب القفقاسيين والثلاسيميا ( سكان منطقة البحر الأبيض المتوسط ) ومرض كاوشر ( اليهود الأشكينازيين ) وغير ذلك.
الإختلاف بين الأفراد
************
سبق أنْ ذكرتُ أنً ثَمًـةَ 3 ملايين نقطة (وحدة جينية) مختلفة بين الأفراد. والأخطاء الحاصلة في الجينات المنفردة نتيجتها مسؤولة عن أكثر من أربعة آلاف مرض (سبق ذكرُ بعضها). وكما توجد الكروموسومات في ازدواج، توجد نسختان من أكثر الجينات أيضاً، ويُستـثْـنى من هذا بعض الجينات الواقعة على الكروموسومات الجنسية، مثل الكروموسوم الذكري ( X ) فهو مفرد، ولذا فهو يحتوي على جينات منفردة، كما لا يوجد مُناظِر لكروموسوم ( Y ) الذكري.
ويبقى ثَمّة سؤالٌ هام، وهو: هل تُؤدي الجينات الموجودة والمتشابهة نفسَ الوظيفة والعمل؟
إذا عرفنا أن الشمبانزي يشترك في 7و98% في جينات الإنسان، فإنً مجلة ساينس ذكرتْ في عددها الصادر في 21 نيسان 2001 أنَّ الجينات في دماغ الإنسان تعمل بطريقة مختلفة عن الجينات الموجودة في الشمبانزي. وهذا يُعطي الإنسان سبقاً كبيراً في القوة العقلية على ما يقاربها من القرود. فعند فحص أكثر من ستة آلاف جين فعالة في دماغ الإنسان، وُجِدَ أن 175 جيناً منها تنتج من البروتينات خمسة أضعاف ما تُنتج مثيلاتُها في الشمبانزي. إنً هذا التركيبَ المُتغير لهذه الجينات أعطت هذا التمايزَ الذي منح الإنسانَ المعرفةَ. ويظهر أنً الفرق 3و1% من الجينات ضئيل عدداً، ولكنه في الواقع يُمثل خمسين مليون وحدة مختلفة في التدوين الجيني الذي يتكون من ثلاثة بلايين قاعدة زوجية. ورغمَ أنَّ أكثر هذه النقاط ليس ذا أهمية كبيرة، ألا إنَّ بعضَها ذو تأثير كبير على آلية عمل الدماغ. إنً ثمة حقيقةً وجب ذكرها، وهي أنَّ الجينات الموجودة في البشر ليستْ مُتساويةً في الفعالية منْ حيث إنتاجُها البروتينات. والبيئة تلعب دوراً هاما فيهاً. الجينات قد تستنسخ ذاتها إذا اقتضت الحاجة وبذا يكثر الإنتاج. فمثلاً في البيئة الملوثة بمادة الكادميوم (مادة سامة تكثر في التربة) يحتاج الجسم إلى مادة ( متالوثايونئين ) لمعادلة التسَـمِّم به. فالجين المُكلف بإنتاج هذه المادة يُضاعف (يستنسخ) نفسه مرات كثيرة ليلـبِّـي الإنتاج المطلوب، وقد يصل عدد نسخ هذا الجين إلى ألف نسخة إذا لزم الأمر. وقد تنعدم وظيفة هذا الجين وحتى قد يختفي إذا عاش الفرد في بيئة خالية من الكادميوم، حيث تنعدم الحاجة إليه. وهكذا تتصرف غالبية الجينات الأخرى الفعالة. وإذا كانت هذه الجينات (المتغيرة) في الخلية الجنسية للفرد، يرثها أطفاله وتكون في أجيالهم.
وهذا أحد الفوارق بين جينات البشر الذين يعيشون في بيئات مختلفة وظروف متباينة.
الجين وتصرفات الفرد
*************
الدراسات المتتالية أثبتت أن الجينات تلعب دوراً هاماً في تصرفات الفرد وحاله العقلية. فالتوائم المتناظرة، مثلاً، الذين يشتركون في جيناتهم وليس في بيئاتهم، متشابهون في الشخصية والذكاء والتركيز العقلي أكثر من إخوانهم غير التوائم الذين يشتركون معهم بنصف الجينات، ويرثون أيضاً الأمراض، مثل انفصام الشخصية والكآبة. لكن الجين يجب أنْ (يعمل) مع جينات أخرى في عمليات معقدة ليُظهـِرَ فعلَه. إنً عمل الجين يرجع إلى فعل البروتين الذي يُنتجه. فمثلاً نقصان مادة السيروتونين من الدماغ يُؤدي إلى الكآبة، لأنً السيروتونين يسيطر على مزاج الإنسان وعاطفته وتصرفاته في المجتمع. السيروتونين يكبح الإعتداء والغضب، ويسيطر على الشهية والرغبة في تناول المشروبات الروحية، وينظم النوم ويُحسًنه، فلذا يُحسًن النشاط والحيوية. وهو موجود في الغدة الصنوبرية ويُنتَج أثناء النهار ويتحول إلى مادة الميلاتونين بتوسيط (cAMP ) ليلاً. فتركيزه يرتفع إستجابة للضياء. أما الميلاتونين فيرتفع في الظلام. وهذا الأخير يسيطر على الساعة البيولوجية في الإنسان ويتناقص مع التقدم في العمر، إذ ينخفض تركيزه ليَصلَ 10% عندما يبلغ الإنسان ثمانين عاماً من عمره نسبة إلى ما هو موجود منه في من هو في العشرين. وهو يساعد على النوم المنتظَم، فلذا يكون كبار السن عادة أكثرَ أرقاً من الشباب، والشباب أكثر مرحاُ، إن كان ثمة مرح، إذا كانوا في ظروف متشابهة.
وثمة مادة أخرى تُـفرز في الدماغ كناقل كيمياوي هام هي الدوبامين. هذه المادة التي تـفرزها جينات معينة في خلايا (منطقة الإنشراح) الدماغية، وتكون مسؤولة عن الطرب والإنشراح وإنً نقصانها يسبب مرضَ الرُعاش ( باركنسون ) والكآبة.
وهناك ناقلٌ كيمياوي هام وهو أوكسيد النتريك (NO ) الذي يُنتَج كغاز يدوم بضعَ ثوانٍ فقط مسبباً انبساط الأوعية الدموية، ومن هنا يأتي عملُ العقار المعروف بـ (فياغرا).
إنً قلة وجود أوكسيد النتريك في الدماغ أو قلة إفرازه نتيجة خلل في خميرة نايتريك أسيد سينثيز التي تتوسط إنتاجه، يسبب الغضب والعنف، كما يقول مكتشفه د. سنايدر وزملاؤه (1993) من جامعة جون هوبكنز. هذه الخميرة هي نتاج جين مُعـَين والخلل الذي يصيب هذا الجين أوعدم وجوده أصلاً يقود إلى العنف.
وهناك حقيقة وجب ذكرها، ذلك أنً كثيراً من الجينات لا يظهر فعلها ما لمْ تجابه ظروفاً ملائمة. فالشخص الذي يرث جين مرض السكر النوع الثاني من أبيه أو أمه ليس محتماً عليه أن يصاب بمرض السكر إذا التزم بنظام صحي في الغذاء ومارس الرياضة والتمارين البدنية المنتظَمَة، فالجين في هذه الحال ( نائم)، ولكن (استفزازه) بالإنغماس في الطعام والشراب وزيادة وزن الجسم وعدم الحركة أو قلة النشاط البدني (يوقظه) وهذا ما يؤدي إلى الإصابة به.
لذا يمكننا القول إنً الجينات تلعب دوراً في تصرفات الإنسان بالتناغم مع البيئة. الظروف الإجتماعية والإقتصادية والسياسية تلعب دوراً كبيراً في (تحفيز) أو(تثبيط) الجينات التي تسيطر على العنف، الغضب، الكآبة وغيرها. أما الفوارق بين الأفراد فهي في درجة هذه الحال من حيث شدًتها أو ضَعـفها، فقد يعود إلى عدد ( نسخ ) هذه الجينات التي تعود بدورها إلى الظروف التي تجابهها أو قوة الإثارة أو الإثنين معاً ومدى استعداد الفرد لتحمُلِ هذه الظروف.
النواقل الكيمياوية التي تتوسط جينات الخلايا العصبية في الدماغ بإفرازها، تلعب الدور الأساس في تصرفات الإنسان. فقلة إفرازها أو كثْرته تعتمد على (فعالية) الجين المختص (الموجود) أصلاً أولاً وعلى (تفاعله) مع البيئة ثانياً. لذا تكون إستجابة الأفراد الذين يعيشون في بلدان مختلفة لأحداثٍ متشابهة، متباينةً، نتيجة تصرف الجينات التي أثًرتْ عليها البيئة.