يعمل المغرب منذ بداية عقد الثمانينات وفقا لتوجيهات المؤسسات المالية الدولية، وطبقا لاتفاقيات الكات والمنظمة الدولية للتجارة ولأحكام اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، على تحرير اقتصاده وتأهيله للدخول في منطقة التبادل الحر في أفق سنة 2010. مستهدفا في نفس الوقت تدبير أزمته الاقتصادية والاجتماعية المزمنة عبر التحكم في التوازنات الماكروا اقتصادية وكذا تأهيل نسيجه الاقتصادي وتقوية قدراته التنافسية استعدادا لموعد 2010. وفي هذا الاطار عمل المغرب عبر حزمة من التدابير على ما يلي:
فعلى المستوى المالي والنقدي تواصل البحث جاريا للحفــاظ علــى التوازنات المالية الكبرى، كحصر عجز الميزانية فــي حدود دنيا لا تتجاوز 2,5 % من الناتج الداخلي الاجمالي والحفاض على مستوى منخفض من عجز الحساب الجاري لميزان الأداءات والحفاظ نتيجة لكل ذلك على مستوى منخفض من التضخم. كما تم اعتماد اصلاحات مالية وبنكية وتحريركامل لمعدلات الفائدة وتحديث لبورصة القيم بالدار البيضاء وانشاء الوديع المركزي للسندات وتأسيس نظام عام للاكتتاب في حساب بعض القيم وتأسيس سوق للصرف بهدف تحسين شروط تمويل الاقتصاد وتنمية ميكانيزمات تغطية مخاطر الصرف وانعاش سوق النقد الأجنبي الداخلي، كما تم العمل على منح القطاع الخاص اصلاحا جبائيا مغريا وتمت الزيادة في معامل تقسيم المخاطر من 7 الى 10 % بهدف تشجيع الأبناك على زيادة التزاماتها اتجاه المقاولات.
أما على مستوى التجارة الخارجية فقد وقع المغرب على اتفاقيات الكات واتفاقية المنظمة الدولية للتجارة ووافق على تفكيك التعريفات الجمركية بهدف الغائها تماما وقد تم الشروع في تنفيذ برنامج التفكيك منذ يناير 1998 كما تم التقليص من الحصص الجمركية من 13 الى 6 بهدف تبسيط اجراءاتها وجعلها تتماثل مع المقاييس الدولية وتم تحرير تجارة الحبوب والسكر والزيوت وتحديث القانون المتعلق بتجارة المحروقات وتوزيعها.
وفي اطار تأهيل المقاولة المغربية تم العمل على تفكيك الكثير من الأنظمة والقوانين المقيدة لحرية التعاقد والمبادرة الخاصة، وتمت المصادقة على مدونة الاستثمار سنة 1996 لتعميم وتبسيط امكانية الحصول على الامتيازات، والغاء الترخيص المسبق للادارة، والاعتماد القانوني للحوافز الجبائية و تحديث البيئة القانونية للمقاولة عبر المصادقة على مدونة التجارة والقانون الخاص بالشركات ونظام ا لحماية الصناعية و مدونة المنافسة والأسعار كما تم الشروع في بناء مناطق صناعية جديدة ومناطق حرة واقامة نظام الاستيداع الحر وتم تتويج كل ذلك بالتوقيع على "ميثاق شرف" بين الحكومة وأرباب العمل والنقابات، لتحسين المناخ الاجتماعي وتأمين السلم الاجتماعي ووضع ميكانيزمات للحوار والتفاوض الجماعي (ميثاقي فاتح غشت و19 محرم).
أما على مستوى جذب الاستثمارات الاجنبية الخاصة فقد عمل المغرب على فتح بابه مشرعا أمام تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات الاجنبية الخاصة وعلى توسيع مجال تدخل القطاع الخاص عبر تخويله امتياز تدبير مرافق عمومية في مجال الانتاج الكهربائي وتوزيع الماء والكهرباء ومستقبلا، بناء و/أو استغلال البنيات التحتية الطرقية والمينائية والمناطق الصناعية. وقد تم سنة 1999 تخويل الرخصة الثانية للهاتف النقال و اصلاح قطاع الاتصالات والنقل بهدف تحريرهما كما تم منذ 1993 تفويت العديد من المقاولات العمومية وفروعها وعدد من الفنادق والمناجم والأبناك الى ملكية القطاع الخاص الوطني والأجنبي.
أمام هذا المجهود الكبير الذي بذل من أجل تأهيل الاقتصاد المغربي وتقوية تنافسيته لولوج منطقة التبادل الحر في أفق 2010، كيف يمكن تقييم النتائج على مستوى الأداء الاقتصادي؟
هناك العديد من المؤشرات تدل على عدم استطاعة تلك الجهود لحد الآن تحريك عجلة التنمية وأنها تعمل أكثر لفائدة الواردات والشركات الأجنبة الكبرى دون أن يكون لها وقع على النسيج الاقتصادي والاجتماعي المغربي. فقد سجل المغرب خلال هذه الفترة أسوء المؤشرات على مستوى التنمية البشرية حيث احتل المرتبة 126 سنة 1997 والمرتبة 123 سنة 1999، كما تشير بعض التقارير (أنظر تقرير الوكالة الفرنسية للتنمية غشت 2000) الى أن كل المجهودات التي بدلت للتحكم في التوازنات الماكرو اقتصادية لا يمكنها أن تخفي هشاشة المكتسبات المحققة مما يجعل الاقتصاد أقل دينامية في بيئة دولية تتسم بحدة المنافسة. وقد تم التأكيد في هذا الصدد على التباطئ الاقتصادي الحاصل خلال العقود الثلاثة السابقة، والذي يكشف عنه تراجع نسبة نمو الناتج الداخلي الاجمالي غير الفلاحي حيث انتقلت وتيرة هذا النمو من 6,5 % ما بين سنة 1971 و1978 الى 4 % مابين سنة 1979 و1990 ثم الى 2,8 % منذ 1991.
فتباطئ النمو الاقتصادي لم يتح مواجهة التطور المتسارع للسكان النشيطين الناجم عن ارتفاع الخصوبة خلال عشرين سنة الفارطة. فمعدل بطالة السكان الذين يبلغون أكثر من 15 سنة بلغ سنة 1999 22,3 % في الوسط الحضري. وتمس البطالة الحضرية على الخصوص الشباب (15-24 سنة) والنساء حيث بلغ معدل هذه البطالة سنة 1999 28,3 %. بينما بلغ معدل بطالة حاملي شواهد التعليم العالي 28,7 % سنة 1999.
وقد كان من نتائج تزايد البطالة في الوسط الحضري وخسارة التشغيل في الوسط القروي بسبب التقلبات المناخية انعكاسات على مستوى الفقر. الذي بلغ معدله سنة 1998-1999 19,0 % من مجموع السكان وهو ما يشكل 5,3 مليون نسمة. ويبدوا أن الفقر أكثر حدة في الوسط القروي حيث يمس 27,2 % من السكان مقابل 12,0 % من الأشخاص في الوسط الحضري.
أما على المستوى الأداء الاقتصادي فتشير الدراسات الى أنه دون مستوى أداء الكثير من الاقتصاديات المماثلة كتونس واليونان وتركيا والبرتغال سواء على مستوى الصادرات الصناعية (2,4 مليار دولار سنة 1995) أو على مستوى حصة المغرب في التجارة العالمية التي لم تتجاوز 0,14 % .
وتحاول المؤسسات المالية الدولية ارجاع هذا القصور في الأداء الاقتصادي الى بعض العوامل التقنية الادارية وتحفيزية أولعدم كفاية الطلب أولضعف البنيات التحتية أو لضعف تأهيل اليد العاملة المحلية. متجاهلة العواقب الوخيمة التي تحدثها حزمة السياسات الليبرالية المعتمدة والتي تزيد من هشاشة النسيج الاقتصادي والاجتماعي المغربي.
لكن هل استطاعت هذه الحزمة من السياسات أن تأهل على الأقل المقاولات المغربية للإستعداد للدخول في منطقة التبادل الحر سنة 2010؟
إن حدة المنافسة ستتزايد على مستوى السوق الداخلي بين السلع المحلية والسلع المستوردة مما سيرغم المقاولات المغربية على احترام المعايير الدولية في مجال السعر والجودة. وسيتطلب ذلك البحث أكثر عن سبل تقليص الكلفة خصوصا على مستوى كلفة اليد العاملة وإلا سيؤدي ذلك حتما الى الخروج من السوق. فانخفاض اسعار المنتجات المستوردة، المواكب لتفكيك الرسوم الجمركية، سيؤدي بدون شك الى تزايد الاستهلاك الخاص والى اغلاق العديد من المقاولات التي لا تقوى على منافسة هذه السلع. كما أن هذا الانفتاح سيهدد بانخفاض انتاجية قطاعات واسعة بناء على اعتبارات ترتبط بتحويل اليد العاملة وبالمنافسة النشيطة للمنتجات المنتهية المستوردة.
ومع تزايد الانفتاح يجب أن نتوقع على المدى القصير اختفاء جزء مهم من النسيج الاقتصادي المغربي خصوصا المقاولات الصناعية غير المصدرة أو التي يقل معدل تصدير منتجاتها عن 10 % ، والتي تشكل 64 % من المقاولات المغربية، وتعمل على انتاج أكثر من نصف القيمة المضافة. وبطبيعة الحال سيكون لهذا الاختفاء عواقب على التشغيل، مما سيدفع بالمقابل الى البحث بالضرورة عن تليين أكبر لمدونة الشغل والتي ستكون لها انعكاسات وخيمة على سوق الشغل وتساهم في تفاقم حدة البطالة. فحسب منطق التبادل الحر لن يكون لتحرير المبادلات ونمو الصادرات أي أثر ايجابي على التشغيل الا في اطار مرونة متزايدة لسوق الشغل التي ستقلص من الكلفة التي تتحملها المقاولات بينما ستلقي في المقابل بأعداد كبيرة من العمال الى الشارع.
إن عملية تأهيل المقاولات لكي تصبح تنافسية لن يكون كافيا. رغم أن هناك بعض القطاعات الجديدة التي ستجد في اتفاقية الشراكة مجالا للمزيد من النمو، ونشير هنا الى قطاع الآليات الكهربائية والصناعات الغذائية والخدمات. لكن قطاع الخدمات الذي سيصبح بدون شك في السنوات المقبلة مصدر ا لاعادة تنظيم جديد للتقسيم الدولي للعمل نظرا للمكانة التي تخولها اياه كبار الدول المتقدمة، والذي بلغ نصيبه في الناتج الداخلي الاجمالي المغربي حوالي 45 % سنة 1998 لا يؤكد سوى على نوع من التشوه الحاصل في الهيكل الانتاجي للبلاد، حيث يبدوا أن هناك اختلال واضح بين نمو قطاعات الانتاج المادي (الزراعة 19 % والصناعة 36 (%ونمو قطاع الخدمات. ويعود هذا الاختلال على الخصوص الى تراجع الانتاج الفلاحي والاعتماد الكبير على الخارج في تدبير السلع الاستهلاكية والصناعية والانتاجية. ورغم الحصة الكبيرة لقطاع الخدمات في بلادنا فإنها لا تشكل سوى نسبة ضئيلة في الصادرات المغربية مما يجعل من المغرب مستورد صاف للخدمات، وليس من المتوقع في الأجل القصير أو المتوسط منافسة الدول الأوروبية في هذا المجال.
إن دور الدولة في تحديث النسيج الاقتصادي يضل محدودا جدا بسبب سياسات التقويم الهيكلي التي تقوم على تراجع دور الدولة الاقتصادي والمالي. كما أن تفاقم معدلات المديونية الخارجية والداخلية، والتراجع المحسوس في مداخيل الدولة بسبب تحرير المبادلات، والضغط المستمر لتكريس التقشف بإسم التحكم في التوازنات والمحافظة على حد أدنى من عجز الميزانية ... الخ. لن يمكن من تحصيل الموارد المالية الكافية لتحديث النسيج الاقتصادي.
أما بالنسبة للمساعدات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي في اطار برنامج ميدا الوارد في اتفاقية الشراكة المغربية الأوروبية فتضل جد انتقائية، كاشتراط أن تكون المقاولة وحدة صناعية أو مصالح مرتبطة بالصناعة، وأن تكون قد قضت ثلاث سنوات من الوجود، وأن لا تكون مقاولة صغرى أو تعرف عجزا بنيويا. وإذا كان الهدف المعلن هو التقليص من المقاولات التي ستندثر عند فرض منطقة التبادل الحر سنة 2010، فالملاحظ أنه في سنة 1998 كان هناك طبقا لهذه المعايير 270 مقاولة مرشحة بينما لم يتم اعتماد سوى 120 من بينها. وهو ما يعني أن هذا الرقم لا زال بعيدا عن عدد المقاولات المعرضة للإقفال.
إذن فرغم حزمة اجراءات تفكيك الأنظمة الحمائية وسيادة المنافسة الحرة وفسح المجال أمام المبادرة الحرة والوثوق في ميكانيزمات السوق، لا يمكن رؤية نهاية النفق لتدارك التخلف الحاصل. فعلى المقاولة المغربية في ظل الشروط القائمة لكي تصبح منافسة لمقاولات دول الاتحاد الأوروبي أن تجري بسرعة تفوق أربع مرات المقاولات الأوروبية التي تسبقها بعشرات المسافات والتي لن تتوقف لإنتظارها. من هنا يمكن التساؤل ألا يمكن اعتبار أن اخضاع اقتصاديات ذات قدرات انتاجية متفاوتة للمنافسة الحرة، مما يؤدي حتما الى اقصاء سريع للطرف الضعيف من السباق، ليس الا خدعة استعمارية قديمة في قالب جديد؟.