الجمعة 26/ 9/ 2003
بشكل استثنائي تماماً كادوارد سعيد نفسه يتواجه سعيد مع نفسه والعوالم التي شكلته بجرأة لاذعة، صارخة البوح، فياضة المشاعر والالم، تحمل الطفولة المركبة المعقدة للطفل ادوارد الذي حقد على اللامكان الذي شكله طفلاً ليصبح اللامكان هو مكانه المفضل في سنواته الاخيره.
هكذا يكتمل سعيد في دوائر نقصان وخيبة لطفولة جارحة معذبة ينقلها بمواجهة قاسية مجددة مع كل من احاط به ورسم وشماً او بقر جرحاً لا يندمل مع سنين طفولته وشبابه الاولى متنقلاً مع عائلته من مكان الى مكان ومن بيت الى آخر ومن مدرسة الى اخرى ومن معارف الى معارف.
لقد بحث سعيد في كتاباته المتميزة طوال السنين الماضية عن الحقيقة والتي اعتبرها الخلاصة للمثقف الحقيقي ويأتي عمله هذا تجلياً لهذا البحث المستمر الا انه هذه المرّة يتواجه مع ذاته يعريها ويعري كل من تعامل معه وحفر على جسده وروحه وعقله وقلبه بصمات.
تشدك الذكريات من السطور الاولى التي يتم بها تقديم الشخصية والتي تذكرني بشكل او بآخر بشخصية " سعيد ابي النحس المتشائل" بطل رائعة اميل حبيبي " المتشائل". سعيد يبدأ خارج مكانه وينتهي خارج المكان ايضاً. هذا الاحساس الذي يرافقه اكثر من ستين عاماً ولا يتحرر منه الى ان اصبح ظله الملازم فها قد " وقع خطأ في الطريقة التي تم بها اختراعي وتركيبي في عالم والديّ وشقيقاتي الاربع..كان شعوري الدائم اني في غير مكاني". ص 25.ويتوقف سعيد عند اسمه الذي احتاج اكثر من خمسين عام ايضاً ليعتاد على " هذا الاسم الانكليزي الاخرق الذي وضع كالنير على عاتق سعيد الاسم العربي القح".
سعيد يحمل فترات التنقل المثيرة من مكان الى مكان من القاهرة، القدس، بيروت الولايات وفي الطالبية في القدس لدى عمته نبيهة يعترف سعيد انها شكّلت باباً هاماً في وعيه السياسي وقضية فلسطين حيث اختبر فلسطين من خلالها تاريخاً وقضية خلال قضية اللاجئين التي ادخلتهم هي الى حياته. ص 158.
سعيد ينقلنا الى عالمه الصغير حيث هو : كسول وشيطان" وحيث يتوجب عليه الانصياع للنظام الصارم والعادات ولسوط ابيه واهاناته المتكررة التي اشعرته بالخزي وغرست به عدم الثقة بالنفس. يكرس سعيد صفحات طويلة لشرح علاقته غير المتكافئة بوالده القوي وبسطوته على الطفل الفزع المرعوب سعيد. على العيش في روتين حياتي قاس يسد باب الحريه والتعطش الى الانفلات:
" لم يسمح لي بأن ازور امكان اللهو العامة او المطاعم.. وكان والدي يتناوبان على تحذيري دائماً من الاقتراب من الناس في الباص ومن تناول المشروبات او الاطعمة من محل او بسطة والاهم انهما صورا لي بيتنا والعائلة على انهما الملجأ الوحيد في زريبة الرذائل المحيطة بنا" ص54.
يصف سعيد بتفصيل شديد يبعث بالدهشة والاكبار على القدرة من مكاشفة ادق خفايا التفاصيل الجارحة والمؤلمة كمن يضعها على طاولة التشريح عارية حقيقية تماماً عن التعامل مع الطفل سعيد ككيان"بشع مشوه يكثر من كل العلل" الى صفعات والده الجسديه:"كان بمقدوره ان يكون عنيفاً من الناحية الجسدانية فيصفعني صفعات قوية على وجهي وعنقي فأنكمش عنها او تجنبها بطريقة تشعرني بمذلة كبيرة. اسفت لقوته وضعفي اسفاً لا تستطيع الكلمات التعبير عنه".(96).
يعترف سعيد ان هذه التجارب لم تخلف لديه اي غضب وهو في طور متقدم من حياته وإن تكن خلفت لديه بعض الحزن، "وما يفاجئني انها رسخت في حباً لاهلي مترسباً وعجيباً في قوته" ولكنه يعترف ايضاًَ " ولكني لن استطيع ان اغفر له ذلك التنازع على جسدي، وفرضه الاصلاحات والعقوبات الجسدانية عليه، رسخا لدي شعوراً عميقاً بالخوف العميم الذي قضيت معظم حياتي احاول التغلب عليه"ً97.
ولكن لا خوف لدى سعيد اكبر من فقدان حب امه له ولا قلق اكبر من انغلاقها عليه الامر الذي يؤكد ان الام كانت الوحيدة في عوالم سعيد المتقلبه والمتهدمة والمتشكلة من جديد مصدر الحب والامان الوحيد وان كانت به اشكالية هي الاخرى يبرزهما سعيد في تجربتين مرعبتين الاولى تتعلق بأكثرموضوع كرهته واحتقرته امه: الجنس.
ببراعة روائي قضى حياته بين الحروف والتعابير يصف سعيد اكتشافه لجسده ويصور رغباته الجسدية المتفتحة في ظل وجود عيون صارمة مرعبة تراقب حركاته في كل خطوة. سعيد يحاول ان يفهم اصل الوجود، اصل الرغبه، اصل المرأة والجنس والشهوة فلا يلقى غير هذا الجمود والنظرات المستنكرة من والدته التي تتنكر له وتشارك والده في الازدراء لمحاولات الابن الوحيد بين الاخوات الاربع اكتشاف ما يعني الجنس.
"اين تعلمت العبث بجسدك؟" يسال الوالد وتسأل الوالده بدورها:" لماذا ترتكب هذه الافعال الشريرة التي تؤذينا"؟ ص103.
بهذا يصف سعيد "الكبسة الشرسة" على غرفته وكان تجاوز الرابعة عشرة بقليل ليطل والده ملوحاً بقرف بمنامته التي تركها في الحمام كمن يمسك " بأداة اجراميه" قائلاً:"انا وامك لاحظنا انك لم تستحلم وهذا يعني انك تعبث بجسدك" ويطل من خلف والده وجه والدته الممتقع مما بعث في نفسه حالة من "الرعب والذنب والعيب والهشاشة".
والمثال الآخر الذي يورده بدهشة على تخلي امه عنه حادثة في ال"ضهور" اللبنانية حيث سافرت العائلة لقضاء الصيف وسافر الوالد للولايات لأعماله. كان لا يتجاوز العاشرة حين كانت امه ترسله لسلسة من المهمات الى الحانوت والسمكري والخباز التي كان يخشاها كثيراً مرة بعد مرة من الصباح حتى المساء "الى ان اجدني عند المغيب منهك القوى ..على ان التعب لم يكن مبعث اضطرابي الاكبر، بل الجفاء الراعب الذي تبديه امي تجاهي" كان قمتها حمل مكواة كهربائية الى صديقة والدته في فندق يبعد ساعة ونصف مشياً انهك فيها سعيد واضناه العطش في طريق قحلة جرداء معتمراً خوذته الثقيلة التي اشتراها له والده واصر على ان يعتمرها. ولكن الحادثة لم تنته في هذا المشوار فما كاد يصل حتى وجد امه في الشباك لتعلمه ان عليه العودة ثانية للفندق اللعين لانها نسيت ان ترفق معه شريط المكواة. ." ما خبرته من حميمية داعمة من طرف امي اخذ يتحول الى شيء آخر تماماً"ص 198.
على طول صفحات الكتاب يعرض سعيد الكثير من المفارقات المؤلمة والتي تدل على ذاكرة صاخبة صافية وذهن مرتب لشخصيات اعترضت طريقه واثرت عليها بنواحي معينة. يعرض ثراء والده من ناحيه والبيوت المستأجره بأثاثها الرديء من ناحية اخرى. بامتلاك والده آلة تصوير سينمائية وانشغاله بتسجيل مشهد متكرر لادوارد والعائلة كرهها الطفل اشد كره. الى احساسه المتراكم بأنه بلا هويه او باشكالية هويته في المدارس الانجليزية والامريكيه كطالب مشاكس بدرجات منخفضة يتعرض لانتقاد اساتذته الامريكيين بصورة لاذعة." كان الشعور العام المسيطر عليّ هو شعوري بإمتلاك هوية مضطربة، انا الامريكي الذي يبطن هوية عربية اخرى لا استمد منها اية قوة بل تورثني الخجل والانزعاج". وفي مكان آخر:" انا ادوارد ذا الهوية المزورة..".ص 125.
في جامعة برينستون يقارب سعيد لاول مرة الموضوعات السياسية الدارجة والتي " ستؤثر بطريقة او بأخرى في منظوري الفكري والسياسي لبقية حياتي". ص 341. في اواخر دراسته في الجامعة يعترف سعيد :"اكتشفت اني كائن غير ناضج ومتردد ومتخبط ومتعدد الشخصيات: انا العربي وعازف الموسيقى والمثقف الشاب والهامشي المتوحد والطالب المجتهد والمشاغب سياسياً". ص 343.
ولعل من اجمل الصفحات في كتاب سعيد هي الصفحات الاخيرة التي يقفز فيها قفزاً من الطفولة وسنين الصبا الاولى الى ايامه الحالية في صراعه مع مرض السرطان وتذكره لايام امه التي توفيت 1990 ايضاً بمرض السرطان فيقول:
"ظلت امي تشكل مرجعاً لي معظم الاوقات وبطرائق لا اعيها تمام الوعي ولا افهمها على نحو محدد"(ص:355)، ذلك ان شعوري بأني ابدأ حياتي بأمي وبها انهيها".
واقواله ك:
"الارق حالة مباركة"،358 و"نزعة التشكيك هي احدى الثوابت التي اتشبت بها بنوع خاص، تعلمت ان اؤثر الا اكون سوياً تماماً وان اظل في غير مكاني".
لا بد ايضاً الى الاشارة بأن القاريء محظوظ بهذه الترجمة الراقية والرائعة والتي تطبع الشعور بأن سعيد كتب مذكراته بالعربية فعلاً وليس بالانجليزية.
بقي تعليق صغير استوقفني احياناً : هل يجوز والى اي حد مكاشفة بعض الشخصيات(بالذات اللاتي اقمن علاقات جسدانية مع سعيد) بهذه الصراحة، الم يكن من الافضل بعض الخصوصية للشخصية وطرحها كما طرحت بدون اسماء او تفاصيل؟ ولكن سعيداً بحسياسية المفرطة لم يكن ليهمل شعور الاآخرين الا انه اجاب على هذا السؤال حين اختار ان " واجبي الاول ان اكون وفياً لذكرياتي وتجاربي واحاسيسي". ص 23.
يستحق هذا الكتاب اكثر من قراءة واكثر من مراجعة له والكتابة عنه. تفاصيل كثيرة تحمل في طياتها قضايا كبرى عن الهوية العربية والاسرى البطرياركية القامعة وعن الهوية المتشكلة في اماكن وازمنة مختلفة. وربما تمنيت في بعض اللحظات العابرة وانا عالقة بين السطوروذكريات سعيد لو ان هذا الطفل الشاب قد نعِم بما كان من الاجدر ان ينعم به اي طفل من الامان ومساحة للحرية والفرح على ان يتحول الى هذا المفكر المتميز الذي صنعته هذه التجارب المؤلمة ولكن في هذه الحالة كان شعبنا بالذات والعالم لم ينعم به وهكذا فإن خسارته الذاتية تحولت الى كف للعطاء الرائع لنا جميعاً. وتبقى ملاحظة سعيد التي يفاجيء بها القاريء المتلهف في نهاية مقدمته للمذكرات فيقول:" هذا الكتاب هو كل ما نويت ان اكتبه في هذا النوع الادبي". وانا اسأل كعشرات الالاف (بل الملايين) الذين قراوا وسيقرأون الكتاب لماذا الى هنا؟ نريد المزيد. سعيد ليس قضية شخصية بل حالة خاصة متميزة تحوي اشكاليات هوية وقضية ووطن وإنسان.
نقلا عن موقع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
http://www.aljabha.org/