|
مثقف أردني يتحدث عن نفسه
جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 1981 - 2007 / 7 / 19 - 12:39
المحور:
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
ولدت في بيئة تحترم الحرية والعمل الإجتماعي وكانت عائلة أبي برجوازية لأبعد الحدود ولكنني قد وصلت متأخرا جدا بتاريخ 12--5-1971 حيث كانت عائلتنا قد فقدت آخر معاقلها البرجوازية لذلك نشأت كادحا أدرس في المدرسة وبعد الدوام أذهب للعمل مع النجارين والطوبرجية والعمال والشغيلة كي أتمكن من شراء رغيف من السندوتش في أثناء الفرصة المدراسية .
ولم أكن أقبل أن آخذ من أمي العظيمة مصروفي المدرسي فقد بدأت أمي في العمل عام 1983 ميلادي شغالة في إحدى المدارس الثانوية وهي السنة نفسها الذي إشتد بها المرض على أبي وبقي مريضا لغاية عام 1984 ميلادي حيث وافته المنية وهو يحتضنني بين جوانحه في تمام الساعة 1 الواحدة ليلا من آخر ساعات يوم الجمعة من عام 1984 .
وأذكر كلماته الأخيرة والرائعة التي ما زالت إلى اليوم تحفر في وجداني آبارا من الدموع وكان كلما نطق بحرف رفع رأسه ليقبلني وكلمة كلمه وحرف حرف وقد بلغت عدد القبلات التي قبلني إياها أكثر بكثير مما تكلم معي وكان يتكلم ويقبلني ويبكي وأنا أبكي ودموعي لا تظهر حياءا من كبار السن الذين كانوا يقولون : عيب والله عيب إلزلمه يبكي ولكن أبي كان يبكي أجل يبكي ويقول : يا جهاد أخوتك في رقبتك وقد دعوت الله أن ينصرك على كل معتدي يا جهاد لا تخف ألله سيكون معك أينما ذهبت وأنا سأتابع أمرك من علياء الله يا جهاد أمك صبوره وحنونه وتستحق الإحترام يا .....وإنقطعت أنفاسه الأخيرة وشهقنا بالبكاء وصرت أحس بيدي ترتجف والزبد يخرج من فمه أما أختي الكبيرة فقد تعلقت في الحائط حين مدت أظافرها على جدران المنزل والكل يسبح ويقول : الله أكبر مات في آخر ساعات يوم الجمعة يوم الجمعة . كان ذلك يوما مشؤما وحتى هذا اليوم لديي مبررين كي أكره يوم السبت : أولا بسبب وفاة أبي في صبيحته والثاني بسبب نظام التعليم القهري حيث كان أستاذ الرياضيات والحساب يخرج أقلاما من جيبه ليضعها بين أصابعي لأتفه الأسباب فقد كانت حصته الدراسية في يوم السبت لذلك كرهت أيضا المدرسة والدراسة وأصبحت متمردا على نظام التعليم النمطي ومحبا لنظام التعليم القهري ومما زاد كرهي للنظام التعليمي أن إسلوب التدريس كان فيه نوع من الجهل فقد كان أستاذ اللغة العربية يفرض على الطلاب حفظ القصائد الشعرية وكنت أنا دائما ما أحفظ الأشياء غير المطلوبة مني وغالبية الأشياء المطلوبة كنت أترك حفظها لأنها لا تقع من نفسي موقعا أستلذ به فأنا منذ تلك اللحظة عرفت ما هو معنى القمع والإرهاب وما هو طعم اللذة فأنا أحفظ القصائد التي أتلذذ بها وكانت لديّ أيضا نفس الرغبة في حفظ آيات القرآن فالذي لا أستسيغ فهمه لا أحفظه رغم أنه منهاج مقرر لذلك رسبت في المدرسة في المواد التي كنت أحبها فعلا رسبت في اللغة العربية والتربية الإسلامية وتلاحقت السقوطات الواحدة تلوى الأخرى حتى جاءت سنة 1987 م وهي السنة التي تركت بها آخر صفوف الدراسة الإعدادية بدرجة راسب 100% وبدرجة راسب ممتاز .
وقد كانت لثقافة العيب في المجتمع الأردني والعربي أثرا كبيرا أيضا في كرهي لنظام التعليم وأذكر أنني كنت بارعا جدا في كتابة المواضيع الإنشائية وخصوصا عن الأيتام وكنت أتفلسف كثيرا في شرح القصائد الأدبية أما الطلاب الغيورين من شرحي وتعليقاتي فكانوا يمسكونني بعد الدوام وبين الحصص بقولهم : إنت مش زلمه بتشرح إلقصائد الشعريه وأمك بتشتغل وبتصرف عليكو والله ما إنت زلمه .
وكانوا أخوالي يقولون مثل هذا الكلام وكانوا في كل يوم يفكرون بسحب وتصدير أمي من منزلنا بحجة أنها تعمل والعمل عيب للنسوان . وهذه أمور كانت تنكد علينا أنا وإخواتي وأخي الوحيد لي صفوى حياتنا وكنا نبكي وتدمع عيوننا حينما نرى الناس يقولون مثل هذا الكلام أما جدتي أم أمي فقد كانت هي المحامي القانوني والإجتماعي عن قضيتنا أمام أخوالنا ولولاها لتشردنا بالشوارع أكثر من هذا التشريد القمعي . وهذه الأمور جعلتني أيضا محبا للمرأة العاملة ومحبا للحرية الفكرية وأكبر نصير للمرأة وحينما كبرت وصرت أقرىء لنوال السعداوي كنت أشعر أنها طفلة أمام قدرات جدتي وأمي الدفاعية عن المرأة وكانت حينما تتحدث جدتي أشعر وكأنها المتنبي أو قس بن ساعدة لفصاحتها التي كانت تصدر من دوافع الحزن والألم.
ومضت بي وبإخوتي السنون والأعوام وتركت مراكز التعليم وذهبت للعمل مع العمال والشغيلة وكنت أقطع من أجرتي بما يعادل 10 % منها لأشتري كتبا أحبها وروايات وكنت أعمل بنشاط وكد وتعب وكنت أقرىء بنهم وشغف كبيرين ولا أقرأ إلا ما يعجبني وما لا يعجبني لا أقرأه من هنا إستحدثت لنفسي مدرسة من مدارس المقهورين فقرأت سارتر وطه حسين والعقاد ومما كان يدفع بي العزيمة هو أنني قرأت عن سارتر أنه رسب في المرحلة الثانوية في مادة الفلسفة ومع ذلك أنشأ مدرسته الوجودية الخاصة به وكنت أعلق في غرفتي الكبيرة صورا لفنانين ومبدعين وكتاب فمن بين المطربين : محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وكارم محمود وأم كلثوم وشاديا وسعاد حسني ومن بين الأدباء : العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم والشاعر الأردني عرار ....إلخ
أما أكبر عوامل القهر الإحتماعي فقد كانت تتصور لي عبر ما أراه من أبناء الجيران وهم يحتظنون آباءهم ويضحكون وما يعطيه الآباء لأبنائهم من هدايا وقبل لذلك كنت وأنا ألعب مع أولاد الجيران كنت كلما شاهدت مشهدا من ها النوع كنت أذهب إلى المقبرة لأحتظن قبر أبي وأقرأ عليه سورا من القرآن وكنت أحتظن القبر وأبكي بكاءا عاليا لأنه لا يراني أحد فالبكاء ليس للرجال وإنما للنساء وذات مرة حضرت سيدة من نساء البلدة إلى قبر أبيها ولم أنتبه لحضورها وكنت أبكي بصوت عالي حتى سمعت صوتا يبكي بمثل بكائي فأدرت رأسي وإذا بها لا تبعد عني عشرة أقدام فقلت لها أنا لا أبكي لااني يتيم أنا ابكي لأنني قد وطأت هنا على شوكة ومسمار أنا ابكي لأنني مجروح جرحا طبيعيا . فزادت المرأة من بكائها وبدل أن أتوقف عن البكاء عاودت أبكي فإحتظنتني المرأة وذهبت بي إلى أمي وقالت لأمي ما جرى وكان ذلك يوما مشأوما فأصبحت جدتي أم أبي تبكي وكأن أبي مات اليوم علما أنه لم يمض على وفاته بضعة أشهر ومن يومها وأنا أذهب إلى المقبرة كل يوم سبت علما أن الناس تذهب في يوم الخميس ولكنني كنت أذهب يوم السبت كي لا أصادف من أقربائي أحدا لأن البكاء عيب للرجال. ومع ذلك كانت عواطفي أكبر من قدراتي التحكمية بها لذلك إزداد قلبي رقة وشاعرية حتى أصبحت أعد عند أهلي من أنني حنون جدا أكثر من النساء وعاطفي جدا وحساس فهذه الأمور رفعت من درجة حرارتي العاطفية وغذتها بالحنان قبل أن أعرف ربات الفنون الأثينية وقبل أن أعرف تمثال : ربة الينبوع الشرقية .
وبما أن ابي لم يكن مصليا لله كثيرا حتى وبصراحة نادرا ماكنت أراه يقف خلف مصلوة للصلاة وهو يتوجه بوجههي إلى القبلة وكنت أسأله لماذا لا تصلي يا أبي كان يقول لي : الله لا ينظر إلى وجوهنا ولا إلى أجسامنا ولكنه ينظر إلى قلوبنا وأفكارنا وعواطفنا لذلك نشأت نشأة غريبة حيث أنني لم أكن أميل للطقوس الدينية ولم أكن أهتم بالصوم وكنت أشعر دائما أنني في حالة صوم أبدي لأنني كادح ودائما في حالة جوع ويأس من الناس.
وقد بقيت على هذه الحالة حتى عام 1988م فقد بدأت في هذه المرحلة من العمر التعرف على المسيحيين الذي يعمل عندهم خالي بيوتا من حجر وكنت أعمل مع خالي وبدأت أتعرف على النصارى الطيبين جدا سواء أكانوا كاثوليك أو إبروستنت أو إرثوذكس وبدأت أقارن بينهم وبين حياتهم العامة وحياتنا نحن المسلمين العامة وكنت لا أرى منهم إلا طيبا وكانوا ودودين معي لأبعد الحدود وكنت أشعر بغربة إذا أرسلني خالي للعمل عند المجتمعات الإسلامية فقد كانت تعجبني طريقة تقديمهم للطعام والشراب والشاي والقهوة والغداء والفطور وكانت نساؤهم بصراحة أكثر شيء زرع في نفسي حب الجمال فكانت غالبية نسائهم وبناتهم جميلات جدا ومتمدنات وهذا ما جعلني أتعرف على المجتمع المدني الحديث لقد كانت لحياتهم طعم لذيذ في جسدي وما زلت أشعر بإختناق عاطفي كلما نظرت إلى مسيحية جميلة .
وكانت سماحتهم وودهم ودماثة خلقهم يدفعاني للإيمان بمقولة أبي : إن الله لا ينظر إلى وجوهكم بل ينظر إلى قلوبكم.
وقلوبهم بجد طيبة وممارستهم للحياة بجد ممتعة ولذيذة فلا يوجد عقد بينهم مثل العقد النفسية ورغم أنهم شرقيون فإن ما يميزهم هو الجمال الذي ينتشر بين النساء وأطباق الطعام اللذيذة وكنت أقارن سلوكهم معي مع ما تعلمته في المدرسة عن النصارى من أنهم أهل النار لذلك كانت هذه الفترة من حياتي بداية المرحلة الأولى من التمرد على الموروث الديني غير الصحيح وبدأت أميز حقا بين المجتمع المدني وبين الدين وكيف تتشابه الحياة في المجتمع الإثني الواحد رغم إختلاف الديانات لأنني رايت أيضا في مدينة الحصن المسيحية عائلات مسلمة متأثرة بعادات وتقاليد المسيحيين وهذا ما جعلني محبا للحرية الفكرية والفصل بين الدين والعادات قبل أن أذهب للجامعة وأتعلم العلمانية سنة 1992م
وكانت تمتد فترة عملي مع خالي عند المسيحيين أكثر من 4 سنوات وكنت أشاهدهم وهم يحترمون الرأي والرأي الآخر فقد كان خالي رجلا ملتزما بالدين وطقوسه وكانوا في رمضان لا يطبخون طعاما تخرج منه الروائح علينا ولا يشربون الماء أمامنا وكانوا يحضّرون لخالي إبريق الوضوء كي يتوضأ ويصلي وكانت هذه المشاهد قد زرعت في نفسي إحترام الرأي والرأي الآخر وعلمتني هذه المشاهد ما هي الديمقراطية قبل أن أتعلمها في الأحزاب السياسية سنة 1993 م وقد وهبتني الحياة العامة عندهم التعددية الفكرية قبل أن تهبها الحكومة الأردنية للشعب الأردني سنة 1989م.
فقد كنت أتحدث مع غالبيتهم وكنت أشاهد في المنزل الواحد أكثر من رأي سياسي وثقافي وهذا ما جعلني ديمقراطيا في المنزل مع شقيقاتي ومتسامح جدا مع الإتجاهات العاطفية لهن وكانت الناس في حارتنا الضيقة وعماتي وجاراتنا يقلن عني : مش زلمه جهاد مش زلمه ليش ما بضرب خواته زي الزلم لازم يورجيهن إلعين الحمرا لا زم بس يفوت على إلدار يرجفن منه خوف لا زم يكتلهن عشانه هو إلزلمه ....إلخ ولم أكن أعير لمثل هذه الهرطقات أي إعتبار وكنت وما زلت سموحا وودودا جدا معهن حتى اليوم ما زلت أحتظن أطفالهن أكثر مما أحتظن أولادي : علي وبرديس ولميس
وأذكر مرة في يوم شديد الحر أنني وجدت في إحدى غرف المسيحيين إنجيلا فأخذته دون أن يعلموا وقلت في نفسي : سامحني يا رب عشان هاي سرقه ... وبدأت أقرأ في الإنجيل وتعاليم المسيح وحفظت منه كما كنت أحفظ من القرآن حيث وجدت نفسي تحفظ كل كلام جميل وكل ما هو جميل .
جهاد علاونه : من ذكريات عامل في الريف والمدينة
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشيوخ يزدادون ثراءا والمثقفون يزدادون جوعا
-
الديانات السماوية
-
فقدان البكاره موضوع تافه
-
إنهم يتآمرون على العمال والشغيله
-
إهداء إلى الزميله ماغي خوري
-
الإعجاز القرآني
-
الانسان يجهل حقيقته
-
بدأوا حياتهم بخيانة وإنتهت بخيانة
-
الأدب العربي الكاذب
-
التمثيل الثقافي
-
أدباء أحرقوا كتبهم
-
أحب وأكره وأعشق
-
المسلمون يكذبون على الله
-
الصحافة الكثيرة الأدب
-
الشاعر محمد الحيفاوي1
-
صحيفة الحوار المتمدن صحيفة قليلة الأدب
-
أساتذة الجامعات العرب
-
العقاد 1889-1964
-
الدولة الديمقراطية والدولة الديكتاتورية
-
بناء المساجد
المزيد.....
-
لماذا انهار الائتلاف الحاكم في ألمانيا؟
-
م.م.ن.ص// هل كان ممكناً ألا تسمع اصواتهم؟ ...انتفاضة العاملا
...
-
عمر محمد علي يقضي عيد ميلاده العاشر خلف القضبان
-
الهدنة تعيد الجنوبيين إلى قراهم اللبنانية
-
مكافحة الإرهاب في لندن: ستة أشخاص رهن الاعتقال بسبب صلاتهم ب
...
-
مسلمو بريطانيا قلقون من اليمين المتطرف
-
العاصمة مغلقة والإنترنت مقطوع وسط اشتباكات بين متظاهرين والش
...
-
النهج الديمقراطي العمالي يساند ويدعم النضالات والاحتجاجات ال
...
-
أهالي بلدات وقرى جنوب لبنان يسارعون للعودة إلى مساكنهم رغم ا
...
-
بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
...
المزيد.....
-
نَقْد شِعَار المَلَكِيَة البَرْلَمانية 1/2
/ عبد الرحمان النوضة
-
اللينينية والفوضوية فى التنظيم الحزبى - جدال مع العفيف الأخض
...
/ سعيد العليمى
-
هل يمكن الوثوق في المتطلعين؟...
/ محمد الحنفي
-
عندما نراهن على إقناع المقتنع.....
/ محمد الحنفي
-
في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
هل أنجزت 8 ماي كل مهامها؟...
/ محمد الحنفي
-
حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى ( المخطوط ك
...
/ سعيد العليمى
-
نَقْد أَحْزاب اليَسار بالمغرب
/ عبد الرحمان النوضة
-
حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى - ضد رفعت الس
...
/ سعيد العليمى
-
نَقد تَعامل الأَحْزاب مَع الجَبْهَة
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|