رام الله المحتلة
تقدمت الجبهة الشعبية بمبادرة بعنوان" الخروج من الازمة الوطنية الحالية" ودعت لمناقشتها، يوم 23 ايلول 2003 عدداً من ممثلي الفصائل الوطنية ومن المثقفين، وذلك في قاعة غرفة تجارة رام الله.
وقد تكون هذه المرة الاولى التي يناقش المرء فيها بشكل علني ورقة مقدمة من حركة سرية حيث الاحتلال موجود في كامل البلد. كما ان مناقشة أمر كهذا ربما أفضل في مجلة كنعان الفصلية وليس في النشرة الالكترونية، ولكن بيننا وبين صدور العدد القادم ثلاثة اشهر. اما المنابر المحلية فلا تنشر إلا لأحبائها.
قدم السيد عمر شحادة عضو المكتب السياسي للجبهة مداخلة قصيرة عن دواعي التقدم بالمبادرة، وتلاه نائب الامين العام في الجبهة الديمقراطية قيس ابو ليلى حيث شرح المبادرة بطريقة تتبنى محتواها، دون ملاحظات إضافية أو نقد. وهذا يعني من مُجرِّب مثل ابي ليلى ان الجبهة الديمقراطية موافقة على المبادرة. والمهم، ان الرفيقين غادرا الجلسة بعد حديثهما مباشرة لاجتماع طارىء مع رئيس السلطة الفلسطينية قبل ان يبدأ النقاش.
ولا يسعني هنا سوى إيراد ملاحظاتي على جوانب اساسية في المبادرة متجنبا تطويل المقالة بإيراد مقتطفات من النص الاصلي.
اولاً: من ناحية مبدئية، فإن الخروج من الازمة يعني حلها. وفي اعتقادي ان هذا تنطحٍ او حَمْلٌ لحملٍ ينوء به كاهل الجبهة بل الجبهتين معاً، لأنه في عالم مأزوم كما هو اليوم، يدور الحديث عن "إدارة الازمات" وليس حلها لأن الازمة مستعصية ومستحكمة ومتحكمة بالوضع، وبالتالي فإن ما هو ممكن هو "إدارتها باتجاه حلها". صحيح ان العمل الثوري هو اقتلاع الازمة، ولكن لا ملامح في هذه المرحلة لقدرة عمل ثوري تقوم بالمهمة. وعليه، إن إدارة الازمة تعني تناول الجوانب الممكن التحكم فيها وحصرها ومن ثم الانتقال لغيرها. صحيح ان انظمة الحكم تفضل إدارة الازمات لأنها لا تريد حلها او لا تستطيع، ولكننا لا نتحدث عن دولة.
ولكن، يُخَيل لي ان كل فصيل فلسطيني يتعاطى دائما، ومنذ ايام بيروت، وكأنه دولة وليس تنظيما جماهيريا يضع معظم جهده في الاوساط الشعبية. لذلك نجد التنظيمات مشغولة في السياسة الدولية والاقليمية، وهي تحدد ان تتحدث مع الاوروبيين ولكن ليس الامريكيين او تأخذ مساعدات عبر منظماتها غير الحكومية من هذه الدولة الامبريالية وليس من تلك، وتتحدث عن حل الازمة السياسية، دون التفات الى الازمات الاجتماعية والاقتصادية...الخ. وفي اعتقادي ان هذا هروب من الازمات: الحقيقية، والتي يمكن الانجاز فيها، والتي هي واجب التنظيمات ولا سيما الجبهتين. ولذلك، لماذا لا تترك الازمة السياسية للذي صنعها، اي ازمة أوسلو لسلطة أوسلو ولامريكا والكيان الصهيوني؟ هذا اذا كانت أوسلو في أزمة، او كما يعتقد البعض أن أوسلو انتهى؟
يا لَلْعُزَّى! كيف انتهى اوسلو؟ ان ما هو في الاراضي المحتلة هو نظام اوسلو. وإذا كان قد انتهى فيه شيىء فهما امران:
الاول: انتهى المفهوم او الزعم الرسمي الفلسطيني لأوسلو الذي كان يتحدث عن استقلال.
والثاني: الزعم الفلسطيني الرافض لأوسلو والذي انتهى بقيادات الجبهتين في الارض المحتلة وهما ترفضان أوسلو.
اما خريطة الطريق، فهي الطبعة الثانية لأوسلو، ولا إخال ان احدا في قيادات كافة الفضائل صادق إذا زعم غير هذا! ان كل حلقات التسوية صناعة امبراطورية العولمة بدءاً من مؤتمر مدريد وصولاً وليس انتهاء بخريطة الطريق.
صحيح اننا تحت الاحتلال، ولكن في فترة السلطة الفلسطينية لم تعد هناك نضالات عمالية ولا طلابية، بل لم يعد هناك اي نضال طبقي مجتمعي، ولا نقصد هنا بناء الاشتراكية لا سمح الله، ولكن على الاقل لوضع حد ادنى للاجور، لتوفير شواغر عمل للعمال لتوعية العمال، للحفاظ على مستوى علمي لتلاميذ المدارس (تصوروا موظف كبير في التربية والتعليم يُحاضر ايضا في جامعة بير زيت وصله طلبة إعدادية يشتكون على معلم لا يعلم، ويقول لهم اريد التقاعد لان شغلي افضل...ماذا أجابهم؟ باسلوب عثماني: حل حزامه وطردهم ضرباً به!!" ومستوىً علمياً للطلبة في الجامعات التي تخرج أميين حقاً بينما اساتذة الجامعات مشغولين في كتابة التقارير ومقترحات التمويل Proposals للدول الاجنبية تمويل المنظمات غير الحكومية وليقبضوا طبعا مقابل ذلك، ومشغولين في منظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني وتعليم الديمقراطية وتعليم ...الخ. ما من أحد منشغل في حقوق المرأة حتى المرأة نفسها، فقد تمت "أقطعة" المرأة للمنظمات النسوية غير الحكومية الممولة من العدو الرأسمالي الغربي اي تريد لنا سيدات ala frank ومدفوع لهن، وهل هناك الطف من هذا؟.
من الذي عليه متابعة هذه الامور؟ من الذي عليه مسائلة مؤسسة مجتمعية قطاع عام فيها سرقات واختلاسات بعشرات ملايين الشواكل؟ ليست هذه مسؤولية السلطة لأنها نفسها متهمة بالفساد. هذه مسؤولية "المجلس التشريعي او ما يسمى بِ" لكن هذا غير تشريعي ومضى على انتهاء مدته أكثر من مدته نفسها ولم يستقيل، وهذا بحد ذاته فساداً. هذه مسؤولية التنظيمات السياسية ولو فعلت ذلك لكسبت اكثر من مقعد وزاري هنا أو هناك. قد يقول قائل ان المطالب الاجتماعية والاقتصادية هي صنعة اليسار والماركسيين، والجبهتين اصبحتا تدعوان نفسيهما، ومعهما كل من كان يسارياً في الاراضي المحتلة ب: القوى الديمقراطية. نعم، لا بأس، فحتى بعض البرجوازيين يهتمون بالنضال الاجتماعي الاقتصادي الثقافي.
لقد ركزت المبادرة على ضرورة تفعيل م.ت.ف ودمقرطتها. وهكذا نعود لنفس المعزوفة المكررة منذ اربعة عقود. محاذرين قول الحقيقة، ان م.ت.ف لم تكن ولن تكون ديمقراطية، وهي غير موجودة الآن إلا على الورق. لا وجود لأية مؤسسة فلسطينية لا في الخارج ولا في الداخل، ما هو موجود فعلا هو رئيس السلطة الفلسطينية الذي هو كل شيىء، والجبهة تعرف ذلك. وعليه، فالحديث عن م.ت.ف هو فقط لتعبئة الاسطر. ولسوء لحظ والعار، أن اي تقليص في صلاحياته لا ياتي إلا بالضغط الامريكي وليس بضغط القوى الوطنية!
اما جوهر المبادرة فهو الدعوة لتشكيل قيادة وطنية موحدة الى ان تتم انتخابات رئاسية وبرلمانية!. وهذا يعني بوضوح ان الجبهتين تريدان مدخلاً او مبرراً للعودة العلنية والمباشرة للانضواء تحت قيادة السلطة الفلسطينية والحصول على حصة فيها!
سامحكم الرب! كنت ستحصلون على افضل من هذا عندما حصلت الانتخابات السابقة. كانت الصورة اوضح، والشعبية أوسع!. وعلى اية حال حبذا لو تشرح الجبهتان للناس، لماذا كانتا ماركسيتين وغادرتا ذلك، ولماذا كانتا ضد الانتخابات وقررتا المشاركة. فالشرح هنا واجب ديمقراطي من طقوى ديمقراطية" حتى لو كان فيه نقداً للذات.
لا شك ان العجز عن النضال الطبقي، وغياب برنامج طبقي، والتخلي عن الفكر الاشتراكي الطبقي، كل هذه تغري بالاقتراب من السلطة واعتماد المحاصصة في كل شيىء كما هو تاريخ م.ت.ف. ولكن، هل يمكن اقامة وحدة وطنية؟
ببساطة، فإن القوى الفلسطينية المشاركة في السلطة تعتبر نفسها هي الدولة، وقيادة وطنية موحدة لا تكون إلا عبرها وباسمها وتحت قيادتها وهي الوزارة. ان لقيادة وطنية موحدة مكاناً لو لم تكن هناك سلطة، وعليه لن تسمح السلطة الفلسطينية بهذا، ولو سمحت فسيكون امرا شكلياً كالشعار سيىء الصيت "الحوار الوطني الشامل" والذي لم يكن لا حواراً ولا وطنياً ولا شاملاً.
هل يمكن بلورة قيادة وطنية موحدة بين ثلاثة استراتيجيات فلسطينية:
الاولى: استراتجية التسوية ممثلة في مدريد، اوسلو، واي ريفر، طابا، وخريطة الطريق! وهي التي تعتبر مجرد كتابة مقال ضد الاحتلال وامريكا إرهاباً؟ (مثلا متابعة التحريض الفكري اكثر ما يقلق "الجار العزيز" شمعون بين بيرس!) طال عمره.
والثانية: قوى الاسلام السياسي التي ترفض التسوية جملة وتفصيلاً، وهذه نقطة قوة. ولكنها لا تبالي باي مشروع مجتمعي وتختصر وجود المرأة، وهذا خلل محزن!
والثالثة: مؤسسات غير جماهيرية وغير قاعدية ولكنها "زورانة" بأموال الغرب الاستعماري الرأسمالي، وهي التي تعتبر نفسها "سراً بالطبع" رصيد امريكا في البلد، والمكونة من المنظمات غير الحكومية، ومنظمات "المجتمع المدني" وحقوق الانسان، وحقوق المرأة، وغربنتها وثيابها وطولها وتعليمها وفقرها وغناها...الخ.
في مناخ كهذا، لا وحدة وطنية لأن لا اتفاق على مشروع وطني.
من بين المناقشين وقف سيد وقال فيما قاله: "لن تحصل حربا أهلية لأن الدم الفلسطيني مقدس". كلام جميل، ولكنه غير منطقي. حبذا لو كان الدم الفلسطيني مقدساً. يكون مقدساً لو كان هناك مشروعا وطنياً موحداً. ومع ذلك لا اعتقد ان حرباً أهلية ستقع ولكن لاسباب أخرى، وهي أن معارضي التسوية او رافضيها بالتحديد، لن يلقوا بأنفسهم في مواجهة مع جيش التسوية والجيش الصهيوني وجيش العدو الاميركي. قد يلجأون الى العمل السري، كما كان الامر قبل 1967، وكما فعل الرئيس العراقي صدام حسين. وبالتالي يحقنون الدم ويقدسونه، ولا إخال انهم يعتقدون بإمكانية التحرير في هذه المرحلة، ولذا، لِمَ لا يكون النضال تكتيكياً، وحتى بعمليات اقل، ولكن دون توقف طويل ولا نهائي، مما يعطي الشعب فرصة للتنفس، طالما ان لا أحد يسأل في هذا الشعب!
كنعان