عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1979 - 2007 / 7 / 17 - 04:52
المحور:
القضية الكردية
2- تكمن الصعوبة الأصلية لأجل مشروع الدمقرطة لدى الكرد - حتى ولو تم حل القضايا بالثورة الذهنية والضميرية - في عدم هضم مؤسسة الدولة للمؤسسات الديمقراطية, بل واعتبارها خطر يهدد كيانها, فكل تكاثف جماهيري اعتُبِر في تقاليد الدولة في الشرق الأوسط تهديداً يستهدف سلطتها وسيادتها. وكأنها (أي الدولة) تطالب بشعب أشبه بالنمل. بينما ينبع تفوق الحضارة الغربية من اعتمادها أساساً على الفرد والشعب المتمأسس بالأفراد. بينما في الشرق الأوسط تعتبر الشخصية الحرة عناداً ضد الدولة, فلا يتم تفضيلها. أما العبد فيتم ترجيحه كلما زاد خنوعه, ويؤخَذ الشعب التابع أساساً كلما زادت تبعيته. أما الديمقراطيات الغربية فقد تكونت بتحطيمها لهذه التقاليد. رغم أن تركيا هي الأقرب إلى المعاصرة من جانب الدولة في الشرق الأوسط, إلا أنها عاجزة عن حل مشكلة الديمقراطية لديها لهذه الأسباب. ذلك أنها تنظر بعين الشك إلى الغليان الديمقراطي وتمأسسه وكأنه خطر ستحدى سلطتها ويهددها في يوم ما. كما أن التطبيق الفظ والقاسي للدولة القومية المتصاعدة في القرن التاسع عشر على أساس النزعة القومية, يزيد من ثقل المسألة أكثر. وتعاني إيران والدول العربية من المشاكل نفسها, ذلك أن الشريحة المهيمنة في كافة مؤسسات الدولة هي الفرع الذي يمكننا تسميته بالدين الرسمي والقومية الحاكمة. أما المجموعات الإثنية والدينية الأخرى، فسيتم إبعادها عنها قدر الإمكان. بل والأبعد من ذلك يقومون بزرع العراقيل المختلفة أمام مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الديمقراطية التابعة لمن يسمونهم بـ"الآخرين". وبذلك فإن مفهوم الأيديولوجية الرسمية والقومية الرسمية يترك بصمته على كل الميادين، بما فيها اللغة الرسمية والسياسة الرسمية, ويعتبر كل من هو خارج هذا النطاق مجرماً, وربما يتلو ذلك إعلانه كخائن للوطن والقومية والدولة. وتتأتى معضلة الدمقرطة بالأساس من هبذا الخليط النصف شرقي- نصف غربي في الدولة. لذا فتمأسس الديمقراطية يستلزم بدوره تجاوز هذه البنية في الدولة، أو توخي الحذر لأجل التمأسس الديمقراطي على أقل تقدير. ويجب النظر إلى كافة الطبقات الاجتماعية عموماً والطبقات والشرائح الشعبية وتنظيماتها خصوصاً، على أنها بنى تنظيمية لا بد منها لحل القضايا الموجودة، وضرورة من ضرورات العصر؛ لا كتهديد مسلط على السلطة والسيادة. هذا ويجب التخلي عن الأيديولوجية الرسمية ومؤسساتها المفروضة.
تعتبر الأجواء التي تسودها حرية الثقافة واللغة شرطاً أصغرياً لدمقرطة تركيا, مثلما هي حال سيادة مفهوم الدولة والوطن الأكثر علمية. ويجب النظر إلى الانتماء الكردي أو التركي، أو إلى أية بنية إثنية أو عقائدية أخرى, على أنه حرية فكرية. ولا فرق بين أن يمنح الدين الحاكم المزايا والإمكانيات في العصور القديمة, وبين أن تقوم القومية الحاكمة بذلك اليوم. فكلا المفهومين متماثلان مضموناً, وكلاهما لا يتطابقان مع الديمقراطية. وبينما يُنتَظَر مثل هذه التغيرات في مفهوم الدولة من ناحية تقربها لمسألة التمأسس, من المهم هنا ألا تقوم التمأسسات الديمقراطية بمقايسة نفسها بالدولة. فالمؤسسات لم تتواجد للتنافس مع الدولة, بل لأن لها أدوارها الموكلة إليها. وبإمكان إحالة منسوبي المؤسسات الديمقراطية مصالحهم إلى الدولة، ولكن عليهم ألا يعتبر ذلك فتحاً للدولة. فأكثرها يمكنهم طلبه من الدولة هو إبدائها الاحترام والحساسية اللازمة تجاه إردتهم وحقوقهم.
لا يزال التقرب قائماً بعين الشك, ليس على المستوى المؤسساتي فحسب، بل وتجاه أبسط التطورات الطبيعية على الصعيد الذهني الفني. ولا تنقص المراقبة عليها, رغم كل التجارب الأليمة المعاشة قديماً في القضية الكردية. وحتى البحوث والتمثيل بشأن الكيان الثقافي, لا تزال تمارَس ضمن حدود ضيقة جداً, وغالباً ما يتم طبعها بطابع النفصالية. حيث ينظر إلى كل ظاهرة كردياتية بشكوك وضمن مجمل الظواهر التي قد تؤدي إلى الانفصالية. وبدون تجاوز هذه النقاط التي ركزتُ عليها بإصرار, بشكل متبادل؛ فستستمر الدمقرطة في التسمُّر وستبقى عالقة. فطائرة الديمقراطية لا يمكنها أن تطير بجناح واحد. قد تكون الدولة محقة من زاوية الديمقراطية لدى مطالبتها بالنزع الكامل لسلاح PKK-KADEK، ولكن هذا المطلب لن يكون صحيحاً إلا بسيادة الديمقراطية التامة. بالتالي ثمة خطوات يجب على الطرفين أن يخطياها. وبيمنا يتم الإفصاح عن هذه الخطوات بالنسبة للدولة, من الضروري أكثر إيضاحها بالنسبة لكافة الكرد أيضاً بشكل أساسي. ذلك أن إطار التجربة والنظرية لديهم محدود, سواء من الناحية الذهنية والثقافية أو من الناحية المؤسساتية. والكل يعتقد أن الديمقراطية ليست إلا انتخابات تجري كل أربع سنوات, ومناصب وامتيازات. وبدون تجاوز هذه الذهنية والممارسة الديماغوجية والمَرَضيّة، لا يمكن قطع المسافات على طريق الدمقرطة. فالديمقراطية هي طراز سياسي يسلكه الوطنيون الحقيقيون الذين يؤمنون بحرية الشعب ويضفون المعاني على فضائلهم كنظام، ولا علاقة لها البتة بالمناصب أو المنافع, ولا تؤدي إلى السمسرة. وتتضمن الهدف إلى تكليف أفضل الناس بالمهام عبر الانتخابات المنتظمة القائمة لتلبية الاحتياجات المشتركة الضرورية للشعب. وباختصار، فهي تعني التعليم الصحيح والكثيف.
يعاني الشعب الكردي من قضايا ومشاكل مشابهة مع سلطات الدول في كل البلدان التي ينتشر فيها. فهو عندما يسعى للتخلص من عبودية العصور الوسطى (الآغوية, المشيخة, البكوية), من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، فإنه لا يفعل ذلك لأجل الانصهار ضمن الدول القومية الحاكمة. ومطالبته بذلك لا يعني سوى السقوط في وضع أسوأ من عبودية العصور الوسطى. ولهذا السبب بالذات لا يتم تجاوز الأيديولوجيات والمؤسسات الإقطاعية, وكأنه منحصر بين فكي كماشة (أو بين مصيدتين). والدمقرطة تعني بالذات إمكانية النجاة من هذين الفكين دون آلام أو إراقة دماء. وإذا لم تتوفر هذه الإمكانيات، فهذا يعني أن الأزمة والتمردات وأساليب القمع لن تنقطع ولن تتناقص.
انطلاقاً من هذه الحقائق فأنا مضطر لطرح "مشروع المؤسسات الديمقراطية الكردية" كاقتراح مملموس وحاسم. ويهدف هذا المشروع إلى احتضان الكرد لشعب في كل المناطق بالأغلب. وإلى جانب عدم إبعاده للطبقة الفوقية فهو لا يأخذها أساساً, ذلك أنها تصب اهتمامها على الحلول المتطلعة إلى الدولة. هذا ويعد المشروع منفتحاً للأقليات الموجودة في كل جزء من كردستان ولأفراد الدولة القومية أيضاً, ولا يتخذ من النهج القومي الضيق أساساً له في إرشاداته.
ثمة حاجة ضرورية لـ"مؤتمر شعبي" عام يتضمن كافة أجزاء كردستان. فالمؤتمر الوطني الكردستاني (KNK) الموجود لا يحتوي هذا الإطار المشروح شكلاً أو مضموناً, بل يلاحَظ أنه بقي ضيقاً وناقصاً وقاصراً، ولم يقم بتفعيل ذاته حسب الاحتياجات الموجودة. هذا بالإضافة إلى أن تعبيره الوطني ينمّ عن حلول قومية تنادي بالدولة. لذا من الأنسب وضع مصطلح "الشعبي" بدلاً من "الوطني" لأنه يتلاءم أكثر مع الواقع. وهناك بعض المؤسسات الأخرى الشبيهة لهذا الأسم. الخاصية الأخرى الهامة هي مشابهته لـKADEK اسماً, فالإثنان مؤتمر ولهما نفس القاعدة, وتوحدهما سيكون أكثر واقعية. ويمكن اقتراح اتحادهما من خلال عقد مؤتمر طارئ.
إن "المؤتمر الشعبي الكردستاني KGK" لا يهدف بناء دولة (التدول), بل بإمكانه أن يعرّف بنفسه على أنه يسعى إلى حل المشاكل مع الدول القومية الموجودة ضمن أجواء سلمية وحسب أسس السياسة الديمقراطية. وقد تمت صياغة هذا التعريف حصيلة جهود نظرية وممارسات عملية جدية وصائبة. ويجب العمل على استيعابه بكل دقة. يمكن اقتراح أن يكون عدد أعضاء "المؤتمر الشعبي الكردستاني KGK" ما بين 250 و300 عضواً يتم اختيارهم حسب النسبة السكانية. ويتم انتخاب الأعضاء بأساليب ملائمة، مع الأخذ بعين الاعتبار القوانين الموجودة في كل دولة. ومن مهامه أيضاً أن يعقد اجتماعاته السنوية وينتخب مجلسه التنفيذي الذي يتراوح بين 25-30 عضواً. وهو مخوَّل باتخاذ القرارات ووضع السياسات اللازمة في كل قضايا الدمقرطة لدى الشعب.
وهو يعتمد أساساً على ممارسة نشاطاته بالأحزاب القانونية, وليس الأحزاب غير القانونية, ضمن الدول التي يسكنها الكرد. هذه الأحزاب القانونية ليست مقتصرة على تمثيل إرادتها الذاتية فحسب, بل وهي أحزاب صديقة أيضاَ. وتتميز من الأساس بانسجامها مع قوانين وأنظمة الدول. و KGKلا يمكن أن يلعب دوره إلا بالتحليل الصحيح لمؤسسات الدمقرطة الشعبية والإقرار بها مع الدولة القومية. وفي حال أذِنتْ بذلك يمكنه أتخاذ وضعية قانونية بذاته ضمن كل دولة قومية. وعليه أن يخوض النضال في سبيل ذلك. ويمكن التوجه إلى تكوين لجان تحت المجلس التنفيذي حسب الحاجات الأساسية. ويمكن أن تتشكل هذه اللجان بداية على النحو التالي: السياسية (الداخلية والخارجية), الاجتماعية, الاقتصادية, العلوم والفنون, النشر والإعلام. ويمكن اقتراح تأسيس هذه اللجان الفروع والوحدات حسب الحاجات، وأن تهدف إلى تنظيم الجماهير. أما تنظيمات القاعدة فيمكن أن تكون على شكل مشاعية (كمونة) أو رابطة كطراز أساسي, ذلك أن كل هذه التنظيمات علنية ومفتوحة, وتؤدي نشاطاتها بمقتضى المعايير الأساسية للديمقراطية.
إن وصول الشعب الكردي إلى مخاطب مسؤول على هذا النحو الذي رسمتُه بخطوطه العريضة وحاولتُ تبيان هيكله باقتضاب موجز وتقديمه كاقتراح؛ يجب ألا يبث المخاوف والقلق لدى الدول القومية. بل إن الخطر الأساسي الباعث على الخوف، هو تسربل تنظيمات إلى صفوف الشعب, بحيث تكون مجهولة الصلاحيات والطراز, وليس محدداً أي سبيل ستسلكه في أي لحظة كانت, وتعبث فيها أيادي اللامبالين والأغرار غير المحترفين، وقابلة للتحول إلى عصابات بسرعة. وإذا ما أضيف عنصر العنف والشدة إلى ذلك, تظهر حينئذ إلى الوسط أوضاع فوضوية خطيرة, مثلما حصل في الماضي ولايزال حتى الآن. وإذا ما وضعنا نصب العين الأوضاع الخطيرة والمستعصية الناجمة عن مثل هذه البنى بين صفوف الشعب بالنسبة للدولة أيضاً, ستتجلى مدى واقعية طراز KGK وكونه موديلاً محفِّزاً على الحل وساعياً إليه. لو أن المسألة كانت مقتصرة على جزء واحد ون كردستان، لما كانت هناك حاجة عندئذ لمثل هذا الطراز من التنظيم. ولكن ثمة حاجة ماسة لممثلية سياسية وتنظيمية على هذا المنوال, لأن كل الأجزاء والدول القومية المعنية تؤثر على بعضها البعض لدرجة بليغة.
لربما كانت المسألة مخيفة إن قورنت بالماضي, إلا أن مثل هذا الطراز من التكوينة سيكون الوسيلة الأمثل للحل، لأنه يعتمد أساساً على الدولة الموحدة, ويهدف إلى ديمقراطية مصاغة ومعرَّفة على أفضل نحو؛ وذلك تجاه الكيان المنفتح للتدوُّل, والذي تؤسسه القومية الكردية المتطرفة على القرب منها. وفي حال العكس سيلتف الشعب على موجات متتالية حول الانفصالية القومية. ومهما تكن الضمانات التي تمنحها القومية البدائية فلتكن, إلا إن مجريات العمليات العسكرية الأخيرة على العراق، دلت بما لا غبار عليه أن هذه الحقيقة هي التي ستحصل على أرض الواقع. وبينما ترى تركيا المشكلة الكردية ضمن نطاق مسؤولياتها، فعليها أن ترى مثل هذا التنظيم مخاطباً صديقاً يجب دعمه وتحفيزه لأجل الوفاق, لا أن تعتبره مصدراً للشكوك والقلق. أما نبذه ومناهضته فسيعزز من النزعة القومية المنادية بالدولة من جهة, وسيحرّض القوى الشعبية على امتشاق السلاح واللجوء للعنف وسلوك الانفصالية مُكرَهَةً. ولدى مقارنة هذا الموديل مع الكثير من الأمثلة الموجودة في العالم, سيلاحَظ أن هذا الموقف هو البناء والأمثل. حتى الشيشان وكوسوفو الصغيرتان, لا ترضيان بأقل من بناء دولة منفصلة, لكن هذه المواقف تزيد المسألة تعقيداً واستفحالاً. أما إذا أجمعت الأطراف على هذا الاقتراح ورأته مناسباً, فحينها قد تطرح مشكلة توحد كل من KNK وPKK-KADEK على جدول الأعمال. ويمكن تطوير المواقف المبدئية والعملية بناء على ذلك.
وخارج إطار هذا المشروع العام, تحظى الوسائل المؤدية إلى الحل بأهمية قصوى. ويجب عدم النظر إلى كل من منظمات المجتع المدني والمؤتمر الشعبي الكردستاني KGK والأحزاب القانونية على أنها بديلة لبعضها البعض. بل من الأصح تداول كل واحد منها ضمن ساحته وتكوينته على حدة. فكل كيان تحدده الاحتياجات وترسم أطره. ذلك أن التنظيمات البيروقراطية والشمائية (الهيكلية) لا تخدم الأهداف المبتغاة إطلاقاً, بل وتترك المشاكل عديمة الحل. يمكن تطوير وتصعيد منظمات المجتمع المدني بشكل منتشر للغاية على المستوى المحلي والمركزي, بدءاً من تلك المتميزة بالمضمون الاقتصادي, إلى تلك المعنية بالمجال الاجتماعي, الثقافي, الأيكولوجي, الفني, العلمي, الرياضي, التعليمي, الصحي, التاريخي, وغيرها. ففي أي ميدان تكون هناك حاجة، يجب التقرب منه وفق مبدأ تأسيس منظمات المجتمع المدني فيه. ولا يمكن قطعياً إهمال الشخصيات والوظائف المناسبة لتحقيق هذه الأهداف.
تحظى الأحزاب الديمقراطية القانونية أيضاً بأهمية عظمى وتؤول إلى الحل بالنسبة للكرد. وإلى جانب كون مفهوم تأسيس حزب مقتصر على الكرد أمراً يؤدي إلى ظهور الأخطاء, إلا أن تأسيس الأحزاب الديمقراطية الكردية في المناطق التي تزداد فيها كثافة سكانية كردية ويعانون فيها من مشاكلهم الخاصة بهم, هو أمر ممكن قانونياً ويقوم بوظيفته.
وعلى مثل هذه التنظيمات أن تقف بعيداً عن الأسس القومية والنزعات العرقية، وألا تقوم بالتمييز القومي، لكن انفتاحها على الأشكال المستقلة منها أو التابعة في مناطق الأغلبية السكانية يحظى بأهمية كبرى لأجل تفعيل الطراز الديمقراطي. وهذا هو الطراز الشائع بكثرة في الغرب وفي العديد من أرجاء العالم. وطبيعياً بمقدور هذه الأحزاب الوصول إلى السلطة على شكل تحالفات ائتلافية ديمقراطية أو التأثير عليها. أما تحركها على نحو منفرد فيضعف من تأثيرها ويصيبها بالهزل حتماً. أما التحرك على شكل منظومات أو منسقيات ديمقراطية وأيكولوجية، فهو الأسلوب الأمثل والأصح.
هذا ومن الضروري التنويه أيضاً إلى أهمية تمأسس الكرد في الميادين العلمية والفنية والتعليمية والإعلامية على وجه الخصوص. إذ من الساطع أن هذه المؤسسات تلعب دوراً رئيسياً على صعيد حرية التعبير الثقافي. وعلى الدولة القومية أن تدعم مثل هذه المؤسسات بدلاً من التردد بشأنها. وما دمنا نتكلم عن التعليم والتفعيل الواسع النطاق للغة الرسمية، فلا بد من التشجيع على تعليم اللغة الكردية في المستوى الدراسي الابتدائي، والنظر إلى تعلم لغتين في آن معاً كثروة وغنى للمجمتع. فتعليم المئات من اللغات في الهند، وتواجد أربع لغات أساسية رسمية في سويسرا لا يعيق من فاعلية الدولة أو تأديتها لوظائفها، ولا يعطل أو يشوه تكاملها الوطني.
الساحة الهامة الأخرى للتمأسس الديمقراطي, هي البلديات والمدن والقرى الجبلية. وتشكل التمأسسات الديمقراطية القائمة في هذه المناطق أرضية النظام الديمقراطي المتينة, لما لهذه المناطق من علاقة مباشرة بالأرضية الجغرافية, وبالتالي بالأيكولوجيا. وبدون دمقرطة القرى والمدن لا يمكن للمؤسسات والإدارات المركزية أن تقوم بالدمقرطة بمفردها مهما ازداد عددها فوق المجتمع. انطلاقاً من مضمون الديمقراطيات, فهي تتسم بمزايا الانطلاق من القاعدة الشعبية لتمثيل إرادتها في الإدارة الجماعية. ومن هنا تتأتى أهميتها. لذا من الضروري التوقف والتركيز على البلديات في المدن, وعلى المشاعيات والمراكز والرابطات في القرى كمصطلح وكمؤسسات (ذلك أن المختار وهيئات المسنين ضيقة النطاق وغير ديمقراطية بما فيه الكفاية(, ولا يمكن نعت إدارات القرى والمدن بأنها "ديمقراطية" بمفردها. بل إن دمقرطتها تشكل معضلة بحد ذاتها. فمن جانب يتوجب رفع القوات الساحقة للدولة من على هذه المناطق, فيما عدا الحالات الضرورية أو احتياج عموم الوطن؛ ومن جانب آخر يتوجب تأسيس المشاعيات (الكمونات) و"مجالس المدن" عبر تفعيل إرادة الشعب لتقوم بالإشراف والمراقبة على الممارسات الموضوعية القائمة على شكل الآغوية في البلديات والقرى, والتي تعد من رواسب المجتمع الإقطاعي.
وكمفهوم أعمّ, نرى تصاعداً متزيداً في أهمية الثقافة المحلية والأيكولوجية على الصعيد العالمي, مما يجعل من الاهتمام الفكري الشامل وبأرفع المستويات لهذه التمأسسات وتنظيمها في هذه الميادين، من أولويات مسائل السياسة الديمقراطية. وإذا ما قمنا بتطبيق التمأسسات في القرى والبلديات, والتي رسمنا إطارها وعرّفناها آنفاً, على خصائص المجتمع الكردي؛ سنرى أنه من الأنسب تسميتها بـ"حركة البلديات الحرة" في المدن, و"حركة المجمعات (كمونات) الحرة" في المناطق الريفية الجبلية. ذلك أن تركها لإنصاف ورحمة الآغا أو زعيم طريقة باطنية أو مختار أو حارس أو مرتزقة ما, لا يعني سوى التنكر للديمقراطية. وبدون تجاوز هذه المفاهيم والممارسات والتمأسسات اللاديمقراطية التي عملت بها القوى الإقطاعية المحلية وفرضتها الدول المركزية على الشعب قروناً طويلة, من الواضح جلياً استحالة الدمقرطة العامة أيضاً.
من المهم بمكان أن يتدب الشعب الكردي ممثلين عنه ضمن إطار القوانين المرسومة إلى برلمانات الدول القومية المهيمنة والبرلمان الكردي الفيدرالي، في سبيل البحث عن الوفاق الديمقراطي. فكل البرلمان التي لا تعترف بوجود وحرية الشعب الكردي، لا همَّ لها من قبيل تمثيل حرياته. إذ لا يمكن الحديث قطعياً عن البرلمانات الكردية في الأجواء التي يتم الحد فيها من إمكانيات التمتع بأبسط حقوق الإنسان كحق الحياة وتعليم الأطفال الكرد باللغة الأم وتسميتهم حسب الأعراف والتقاليد الثقافية. أما تسمية المتغاضين عن لغتهم وثقافتهم بأنهم "ممثلو الشعب" فلا يمكن مصادفتها في أي قانون سياسي. لربما رأوا أنفسهم مكلفين بذلك باسم الدين والقومية الحاكمة مثلما حصل في التاريخ، ذلك أن هذا هو الواقع الاجتماعي لذوي الأصول الكردية. بالتالي سيحظى البحث عن أشكال جديدة بأهمية قصوى في المرحلة المقبلة، سواء بالنسبة لعموم الدولة أم بالنسبة للمؤسسات الممثلية الوطنية. وتبرز الديمقراطية كقضية هامة شكلاً ومضموناً كممثل حقيقي للشعب الكردي، وخاصة في البرلمانات التركية والإيرانية والعربية وفي البرلمان الفيدرالي الكردي. وتكمن هذه الأهمية في الحاجة الماسة للوفاق الديمقراطي.
النقطة الهامة الأخيرة الواجب ذكرها بالنسبة لتمثيل تمأسس الديمقراطية، هي الأهمية الحيوية التي لا غنى عنها لبناء التمأسسات والتنظيمات الجماهيرية الخاصة لكل من المرأة والشبيبة والمجموعات الإثنية والدينية، باعتبارها القطاعات الأساسية في المجتمع. إذ لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حرة متساوية كلياً، ما لم تؤسس هذه القطاعات تنظيماتها الجماهيرية الديمقراطية، باعتبارها من أولى ميادين المجتمع المدني.
هذا وتعد صياغة النظام الداخلي والأحكام العامة القادرة على تلبية مستلزمات آلية النظام الديمقراطي، من المواضيع والمشاكل الواجب حلها بأهمية فائقة بالنسبة للمؤسسات الديمقراطية. أضف إلى ذلك مطابقة تلك المؤسسات مع أطر القوانين العامة المرسومة.
هذه المرئيات التي تقدمتُ بها بشأن التمأسس الديمقراطي كاقتراحات ملموسة، إنما هي ضرورية، ويمكن تعديلها وتطويرها إن سنحت الفرصة.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟