عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 1972 - 2007 / 7 / 10 - 11:19
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كيف بنى محمد أول مسجد في المدينة , وكيف كان يعيش وبأي طرقة استقبله أهل المدينة ؟ 0
( 000إذا خرج المسافر من المدينة قاصداً إلى مكة , رأى على يساره قرية بينها وبين المدينة نحو ميلين , ( إن الميل في اصطلاح الأولين يزيد على الميل الانكليزي المعروف اليوم ما يقارب نصفه تقريباً ) , يقال لها قباء , بضم القاف مع المد 0 وهي إذ ذاك دار لبني عمرو بن عوف , وهم بطن من الأوس , وكان إذ ذاك شيخهم كلثوم بن الهدم 0
إن الدليل الذي خرج مع محمد وأبي بكر لما ارتحلا من الغار ليلاً , قدم بهما قباء – كما قال ابن إسحق – لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول /406/ يوم الأثنين , حين اشتد الضحاء , وكادت الشمس تعتدل (1) 0 وكان ارتحالهم من غار ثور ليلة يوم الأثنين أيضاً , على ما جاء في بعض الروايات , فيكون بقاؤهم في الطريق ثمانية أيام (2) 0 وهذا يدل على أنهم ساروا سير حثيثاً متواصلاً , لأن الطريق بين مكة والمدينة عشر مراحل , وهم قطعوه بثمان مراحل , هذا مع أن الدليل لم يسلك بهما أقصر الطرق بل سلك بهما على السواحل , كما ذكره الرواة 0
قال ابن إسحق : فنزل رسول الله فيما يذكرون على كلثوم بن الهدم , أخي بني عمرو بن عوف (3) 0 فأقام بقباء يوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس (4) وركب يوم الجمعة يريد المدينة 0 ومع نزوله على كلثوم بن الهدم , كان مدة إقامته بقباء إذا أراد أن يجلس للناس أو يحدث أصحابه , يجلس في بيت سعد بن خثيمة لأنه كان عزباً لا أهل له هناك , وكان منزله يسمى منزل العزاب (5) 0
وقد ذكرنا فيما تقدم كيفية ذهابه من قباء إلى المدينة , وذكرنا كيف بركت ناقته في محل من محلات بني النجار , عند باب أبي أيوب الأنصاري , وذلك فيما كتبناه تحت عنوان " صور الوحي " فانظره هناك , فلا حاجة إلى إعادته هنا 0"
ولما بركت ناقته في فناء أبي أيوب الأنصاري , واسمه خالد بن زيد الخزرجي , نزل عنها وأمر بحط رحله ؛ فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته , ثم قال : أي بيوت أهلنا أقرب , ( يعني أهل تلك المحلة من بني النجار ) , فقال أبو أيوب : داري هذه , وقد حططنا رحلك فيها , فقال المرء مع رحله (1) , فأرسلها مثلاً 0 ثم قال لأبي أيوب : اذهب فهيئ لنا مقيلاً , فذهب فهيأ ذلك , ثم جاء فقال : يا نبي الله قد هيأت مقيلاً , فقم على بركة الله , ونزل معه مولاه زيد بن حارثة (2) 0 / 407
ومكث في بيت أبي أيوب إلى أن بنى مسجده وبعض مساكنه , وقد مكث في بناء ذلك من شهر ربيع الأول , وهو الشهر الذي قدم فيه المدينة إلى صفر من السنة القابلة , وذلك اثنا عشر شهراً , وقيل : مكث في بيت أبي أيوب سبعة أشهر (3) 0
وحدث ابن إسحق عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : لما نزل عليّ رسول الله في بيتي , نزل في السفل , وأنا وأم أيوب في العلو , فقلت له : يا نبي الله , بأبي أنت وأمي , إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي , فاظهر أنت فكنّ في العلو , وننزل نحن فنكون في السفل 000 قال : فكان رسول الله في سفله , وكنا فوقه في المسكن 0 فلقد انكسر حُب لنا ( بضم الحاء الجرة الكبيرة ) فيه ماء , فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا , ما لنا لحاف غيرها , ننشف بها الماء , تخوفاً أن يقطر على رسول الله منه شيء فيؤذيه 0 قال : وكنا نصنع له العشاء , ثم نبعث به إليه , فإذا رد علينا فضله , تيممت أنا وأم أيوب موضع يده , فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة , حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلاً أو ثوماً , فرده رسول الله , ولم أرَ ليده فيه أثراً , قال : فجئته فزعاً فقلت : يا رسول الله , بأبي وأنت وأمي , رددت عشاءك , ولم أرَ فيه موضع يدك , وكنا إذا رددته علينا , تيممت أما وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة 0 قال : إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة , وأنا رجل أناجي , فأما أنتم فكلوه 0 قال : فأكلنا ولم نصنع له تلك الشجرة بعد (4) 0
وقد جاء من رواية غير ابن إسحق عن أبي أيوب قال ولم أزل أتضرع للنبي حتى تحول في العلو (5) 0 وفي السيرة الحلبية : وعند نزوله في بيت أبي أيوب صارت تأتي إليه جفنة سعد بن عبادة, وجفنة أسعد / 408 / بن زرارة كل ليلة 0 قال : وكانت جفنة سعد بن عبادة بعد ذلك تدور معه في بيوت أزواجه , فقد جاء : كانت لرسول الله من سعد بن عبادة جفنة من ثريد , عليه لحم أو خبز في لبن أو في سمن أو في عسل أو بخل وزيت , في كل يوم تدور معه أينما دار مع نسائه 0 قال : وصار هو في بين أبي أيوب يأتي إليه الطعام من غيرهما , فقد جاء : وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله الثلاثة والأربعة يحملون الطعام , يتناوبون حتى تحول رسول الله من منزل أبي أيوب 0 وفي لفظ : جعل بنو النجار يتناوبون في حمل الطعام إليه مقامه في منزل أبي أيوب 0 قال : وأول طعام جيء به إليه في دار أبي أيوب قصعة أم زيد بن ثابت (1) 0
فعن زيد بن ثابت ,أول هدية دخلت على رسول الله في بيت أبي أيوب , قصعة أرسلتني بها أمي إليه , فيها ثريد خبز بسمن ولبن , فوضعتها بين يديه وقلت : يا رسول الله , أرسلت بهذه القصعة أمي , فقال له : بارك الله فيك , ودعا أصحابه فأكلوا , قال زيد : فلم ارم الباب ( أي أرده ) حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة, ثريد وعراق ولحم ( بفتح العين عظم عليه لحم , فإن أخذ عنه اللحم قيل له عراق بضم العين ) (2) 0
بناء المسجد
أول عمل قام به النبي بعد قدومه المدينة هو بناء المسجد ؛ وليس المسجد كما نفهمه اليوم محلاً للعبادة فقط , بل هو محل لكل ما يتعلق بالدعوة إلى الإسلام , وكل ما يهيئ أسباب النهضة ويمهد طرقها 0 فكما كان النبي يصلي فيه بالمسلمين الصلوات الخمس , كان يجمعهم فيه كلما عني خطب وعرض له أمر , فيقوم فيهم خطيباً , وذلك عدا يوم الجمعة الذي هو يوم اجتماع عام , والصلاة فيه لا تكون إلا مقرونة بخطبة 0 فالمسجد باعتبار هذا يكون ردهة للخطابة /209 / في الاجتماعات العامة التي تدعو إليها الحاجة 0
وكان يجلس فيه للقضاء وفصل المخاصمات بين المسلمين , فكان يترافع إليه فيه أهل الخصومات فيقضي بينهم في المسجد 0 فبهذا الاعتبار يكون داراً للقضاء أو محكمة كما يقال اليوم 0
وكان في المسجد يرتب السرايا , ويبعث المبعوث , وعقد الألوية لمن يؤمرهم عليها , فهو بهذا الاعتبار دار إمارة 0 وكانوا يأتونه بالغنائم والأسرى وبالسبايا في المسجد , فيقسمها عليهم بعد أن يأخذ منها الخمس لله ورسوله , فهو بهذا الاعتبار ثكنة عسكرية 0
وقد جعل فيه صفة يأوي إليها من لا مأوى له من المساكين وفقراء المسلمين , فهو بهذا الاعتبار ملجأ للفقراء والمساكين 0 وكان يجلس فيه إلى أصحابه يحدثهم ويحدثونه , كما يجلس فيه أصحابه بعضهم إلى بعض , فيكون باعتبار هذا نادياً 0 وكان تجبى إليه أموال الصدقة فتخزن إن كانت عيناً , فهو بهذا الاعتبار بيت مال 0 وكما يكتب فيه الوحي المنزل , كان يكتب فيه الكتب إلى الملوك وغيرهم , فهو بهذا الاعتبار ديوان رسائل 0 وكان تقام فيه الحدود كالجلد والقطع والرجم كما دلّ على ذلك قصة رجم الغامدية التي اعترفت بالزنا , واستدل ابن القيم بذلك على جواز إقامة الحدود في المصلى 0 فهو بهذا الاعتبار دار عقوبة 0 وكان يجلس فيه للوفود ويجيزهم بالعطايا , فهو بهذا الاعتبار بلاط ملوكي 0
والخلاصة هي كما قلنا آنفا أن المسجد محل عام للصلاة وغيرها من الأمور المتعلقة بالدعوة والممهدة لطريق النهضة 0
وقد استمر المسجد محلاً لهذه الأمور كلها في عهد الخلفاء الراشدين أيضاً , ثم أخذ نطاق التنظيمات في الحكومة الإسلامية يتسع رويداً رويداً /410/ حتى انفصلت هذه الأمور من المسجد , وأصبح الناس لا يأتون المسجد إلا للصلاة , كما في زماننا هذا الذي قل فيه المصلون حتى أصبح عددهم لا يتجاوز الخمسة في المائة , وسنتكلم عن أسباب ذلك فيما سنكتبه عن العبادات في دين الإسلام 0
بني محمد مسجده في المحل الذي بركت فيه ناقته , فكان محل بروكها باباً للمسجد وكان المحل الذي بركت فيه مربداً ( محل يجفف فيه التمر) لغلامين يتيمين من بني النجار اسمهما سهل وسهيل ابنا عمرو , وكانا في حجر معاذ بن عفراء , على ما يقول ابن إسحاق (1) , وفي حجر أسعد بن زرارة أو أبي أيوب على ما يقوله غيره (2) 0
وقد ذكروا أن رسول الله سأل عن المربد لمن هو ؟ فقال له معاذ بن عفراء : هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو . وهما يتيمان لي , وسأرضيهما منه (3) , وأبى رسول الله أن يأخذه إلا بثمنه فابتاعه بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر (4) 0
وكان في تلك الأرض قبور جاهلية فأمر بها فنبشت , وأمر بالعظام فألقيت , وفي رواية : فأمر بالعظام أن تغيب , وجاء في رواية أخرى , أنه كان في موضع المسجد نخل وخرب ( أي حفر ) ومقابر للمشركين , فأمر بالقبور فنبشت , وبالخرب فسويت , وبالنخل فقطعت 0 وكان في المربد ماء مستبحل فسيروه حتى ذهب , والمستبحل الذي ينشع ويظهر من الأرض (5) 0 ) يتبع000
(1) سيرة ابن هشام , 2 / 492 0
(2) أنظر السيرة الحلبية , 2 / 52 – 54
(3) سيرة ابن هشام , 2/ 492 0
(4) سيرة ابن هشام , 2/ 494
(5) سيرة ابن هشام , 2/ 493
(1) السيرة الحلبية , 2 / 63 0
(2) المصدر نفسه 0
(3) السيرة الحلبية , 2/ 64 0
(4) سيرة ابن هشام , 2/ 498 – 499 0
(5) السيرة الحلبية , 2/ 81
(1) السيرة الحلبية , 2/ 81 0
(2) المصدر نفسه 0
(1) سيرة ابن هشام, 2/ 496 0
(2) السيرة الحلبية , 2/ 65 0
(3) سيرة ابن هشام , 2/ 496
(4) السيرة الحلبية , 2/ 65 0
(5) السيرة الحلبية , 2/ 65 – 66 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب – معروف الرصافي 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟