د. سيّار الجميل
مؤرخ عراقي واستاذ جامعي / كندا
نعم ، لقد صدقت العرب عندما قالت : " ما أهون الحرب على النظّارة " ، اولئك القوم من النظّارة الذين يركبون شرفا من الارض ولا عمل لهم الا التمتع بالنظر منه الى القتال الذي لا يدخلون فيه .. فما اهون الحرب على هؤلاء وليذهب الذين يقاتلون فيقتلون ويقتلون الى الجحيم – كما جاء في امثال العرب القديمة - ! ان ما يضيرنا فعلا تبرع هذه الاغلبيات العربية بالمزايدة على وجودنا ومصيرنا نحن العراقيين ! فلماذا يتدخل الكثير من الساذجين والبلهاء والاغبياء والخطباء والاعلاميين والمراسلين والمعتوهين والمنافقين والمرتزقة في شؤوننا ويوزعون الاحكام والاراء السمجة باسمهم على قضيتنا ؟ لقد شاركوا في صناعة كل المآسي والقساوات والأهوال التي مرت بالعراق على امتداد نصف قرن سواء كان ذلك من خلال الاذاعات المهيجة للعواطف ام الصحف والمجلات المثيرة للشغب ام الفضائيات المشاركة مشاركة فعلية في الخصومة السياسية المريرة بين العراقيين والنظام السابق ؟
جوقات عربية مشوهة
هل أصدق نفسي وأنا اسمع اقصوصات يتجاذبها بعض المجانين الذين كانوا وما زالوا يعيشون خارج التاريخ ويعيثون بكلامهم فسادا وان تربوياتهم الخاطئة وتكويناتهم البليدة واساليبهم المتخلفة والسمجة قد نجحت في إلغاء كل ما يصلهم بالحكمة وطول البال وبعد النظر ؟ ومن مصائب القدر ان يتبجح قصار الرؤية والنظر بقضيتنا المعقدة في مقالاتهم او في تصريحاتهم ومقابلاتهم التلفزيونية وخصوصا على الفضائيات الداعرة ! وأن يأتي كل ما يفعله أولئك الجهلة والسفهاء من الارهابيين باسم المبادىء والاعتبارات والقيم الوطنية والقومية والدينية ليلقوا علينا النصائح والدروس الهوجاء على شاشات الفضائيات . لقد قضوا على كل صاحب حكمة ورأي في الحياة والمصير . والمصيبة الأعظم أن يسكت العقلاء والمستقلون الاحرار على ما يحدث هنا في منطقتنا من دون أي فضح لتلك الأعمال المشينة التي أساءت بالدرجة الأولى لحياتنا وسمعتنا ومقاصدنا العليا في الحياة ! لقد غدت قضيتنا العراقية ومصيرنا القادم بأفواه كل من هبّ ودبّ ! كلّ يدلي بدلوه من سابق معرفة ولا اطلاع ولا اية تفاصيل ، بل ويلقي بالتهم والاحكام جزافا على العراقيين على شاشة فضائية يسمعها الملايين وهو الذي يدّعي بأنه مفكر اسلامي يتشدق بعباراته المهيجة وسفاهته المنكرة ويدعو للحرب والارهاب وتفجير كل مواردنا العراقية الحية وقتل الابرياء وهو يطقطق بمسبحته السوداء المبسكلة!
ولو امعنا النظر في هذه الجوقات العربية المريبة لوجدناها حزمة مشوهة فيها كل الالوان ، فالكل لهم ارتباطاتهم المعينة بانظمة ودول واحزاب وجماعات ومنظمات ومذاهب واصوليات .. اقول لكم ايها العراقيون وانتم تمرون اليوم بأقسى محنة في تاريخكم الصعب ان يكون العراق .. عراق المستقبل المنظور والبعيد هو مصيركم .. كونوا لحمة واحدة ضد كل الذين يريدون نحر العراق عند القارعة ! فكروا في انجع الحلول العاقلة والحكيمة التي تجنبكم الكارثة واهوالها ! الكل طامعون في ذبحنا ولا استثني منهم احدا الا القليل والنادر ! ولم تنفع الشعارات وليس هذا وقت التمنيات ، فان لم يكن هناك مؤسسات عراقية قوية وخصوصا امنية بوليسية وعسكرية دفاعية وحراسة درك حدودية يمكنها ضبط الامور في الدواخل وعلى الحدود اثر رحيل قوى الاحتلال والتحالف ، فستعم الفوضى والدمار بالعراق – لا سمح الله - ! وسيدخل العراق مرحلة لا يحسد عليها ابدا ، وربما كانت لبنان السبعينات والثمانينيات مثلا بسيطا لهول التناقضات العراقية ومخاطر تدخلات الاخرين في شؤونه الداخلية !
خمسون سنة من صناعة الاكاذيب
خمسون سنة يتنطعون بالقومية العربية بكل مهارة شوفينية واتخذوها شماعة يعلّقون فوقها كل ادرانهم المؤدلجة وتدخلاتهم السياسية السافرة ، اما العروبة النقية بكل اساليبها الاجتماعية المدنية فلقد بقيت مسجونة بلهاء لا تدري لماذا احضروها وفضوا بكارتها ولعبوا بها ذات اليمين وذات الشمال ! خمسون سنة وهم لا يعرفون اساليب التعامل مع انفسهم .. فكيف باستطاعتهم اليوم التعامل مع الاخرين ! خمسون سنة وحكامهم يتنابذون ويتهاترون ويتشاتمون ويستهترون في قاعات مغلقة ولكنهم يعلنون عكس ما يبطنون باسم وحدة الصف العربي والتبجح باسم الامن القومي العربي وضرورة الدفاع العربي المشترك ! خمسون سنة مرت والجميع يكذبون على بعضهم البعض باسم الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير فلسطين وبقية الكليشيهات والشعارات التمجيدية ! خمسون سنة والاقوياء يريدون افتراس الضعفاء والفقراء يطمعون بثروات الاغنياء كأننا في داعس والغبراء ! خمسون سنة من تراكم احقاد في النفوس وزراعة كراهية عند الشعوب من دون تفعيل اي مبدأ وتأصيل اي شعار بعيدا عن الانويات والمخادعة وسلسلة النفاق والكلام المعسول وتبويس الوجنات رياء ! واليوم طفح الكيل وبدأ الردح يأخذ شكلا عاديا .. لأن الجميع احس بالخطر القادم ! اين امنكم القومي العربي ؟ اين وثائقكم في الدفاع العربي المشترك ؟ لماذا تسكتون على الجناة الحقيقيين في دواخلنا العربية والذين دمروا كل الحياة العربية على امتداد خمسين سنة تحت اغطية ملونة براقة وخادعة شتى ؟ كيف يمكنكم ان تتحدثوا باسم الشرعية وانتم لا شرعية لكم ابدا ؟ وما الذي اغتال الشرعيات العربية على امتداد خمسين سنة مضت ؟؟
استلاب الواقع وابقائه مريرا
لقد سمع العالم كله بما يدور في هذه " الامة العربية " على امتداد اكثر من خمسين سنة من تدمير للواقع والحياة والأطفال والمرأة والزرع والضرع والمدارس والمساكن والمكتبات والدوائر والسلطة ومرافق الحياة العامة .. بل ووصل الأمر إلى تدمير التفكير وتحطيم المعاني والذهنيات والقيم الانسانية ومنابع الاصالة الحقيقية من خلال التربويات العقيمة واليوتوبيات السقيمة والاعلاميات الكاذبة والنصوص والخطابات المؤججة للعواطف الثائرة ، وغدت البلاد العربية ليست مغلقة عن العالم كله بل حولتها الكارثة البلهاء الى غابة موحشة مبهمة عن الفهم والوعي بالمصير ازاء مخاطر اسرائيل واختراقاتها وتطور اساليبها ومنتجاتها، وغدت الشعوب العربية المسكينة حقا في الشوارع والبيوت والاقنية والمقابر والمعابر وفي احشاء المدن والارياف .. كلها مجموعات منعزلة ومتضورة جوعا وشراذم متصارعة او فقيرة مسحوقة سحقا وقد دقت عظامها او مجموعات طفيلية تحتكر المصالح والسلطة والقوة والمال .. وان كل ما حدث - مع الأسف – كان يعلن باسم الإسلام والعروبة والمبادىء والقيم الاصيلة والتراث والمفاخر من دون رفض للواقع وبناء الوعي بالحاجات الاساسية ومعرفة قوتنا الحقيقية لا الوهمية الكاذبة ، علما بأن التاريخ لا يقر بذاك كله أبدا ، وانه براء من هكذا سياسات خرقاء سواء على مستوى الدول العربية ام مجتمعاتها التي لم تعرف بعد كيف تبني لها في هذا العالم الموحش طريقا نحو المستقبل !
الاغبياء الجدد
لقد تحّول اولئك الذين يسمون انفسهم برجال ثوريين وضباط احرار او ابرار مجاهدين او شيوخ عشائر محليين او بقايا مناضلين تقدميين الى خبراء استراتيجيين او محللين سياسيين او رجال دين .. تحولوا هذه الأيام وهم لا يشعرون ابدا بمسألة تدمير التاريخ وسحق الاوطان واحراق ما يقوم على أرضها من دون أن تسأل تلك الجماعات نفسها الأسئلة التالية : لماذا لم تقم الحكومات الثورية التي حكمت اوطاننا بسحق نفسها بعد ان أدخلت نفسها في ازقة مسدودة ؟ ولماذا لم يقم الاخرون باقتراف اعمال المجانين بصناعة المجابهات والعنتريات والانتصارات ومن ثم انتاج الكوارث والازمات والانسحاقات ؟ ولماذا لم يقم ( ابطالنا في التاريخ ) باعمال جنونية لا تنعكس عليهم فقط ، وانما تنعكس على مصير شعوب ومجتمعات واجيال كاملة ؟ ولماذا لم يقم الحكام المناضلون منذ عقد الخمسينيات بقطع علاقاتهم مع الامريكان اذا كان العرب فعلا قد اكتشفوا كراهية الاستعمار ؟ لماذا عملوا بصمت وتكتم على تطبيق مشروع روزفلت قبل خمسين سنة بعد ان جاءت بهم الانقلابات العسكرية الامريكية الى اقوى البلدان العربية ؟ لماذا اكتشفتم كراهية امريكا اليوم فقط واخذتم تبكون وتولولون وانتم تدعون انكم اذكياء وعارفون .. لماذا ساهمتم في احتضان او دعم منظمات وحركات وفصائل وقوى في الداخل والخارج .. وكانت تنكر علاقاتها واليوم تعترف بها وتدفع ثمنا غاليا عليها ولكن على حساب شعوبها المتعبة ! وأيضا : لماذا اسهمتم في مشروعات امريكية متنوعة بمختلف احزابكم ومنظماتكم حتى القومية والدينية منها في عالميكم العربي والاسلامي ثم انقلبتم فجأة ؟ لقد كان الشرق الاوسط في رعاية امريكا منذ خمسين سنة وانتم ضالعون سرا في تلك اللعبة او مع تلك المؤامرة او ضد ذاك المد ؟؟ ولماذا تسلم البعض مرتزقات ورواتب ومساعدات امريكية ولم يزل يتسلم المقسوم الذي بدونه لحدثت مجاعات الخبز ؟؟ .. لماذا لم يمح الاخرون وجودنا عند الازمات الصعبة ؟ ولماذا بقيت الارادة غير موحدة على اتقاء التحديات والهجمات الامريكية سواء كانت لوحدها ام متحالفة معكم ومع العدوة اللدودة اسرائيل التي تشدقتم برميها بالبحر ؟ ان مشكلتنا نحن العرب مع انفسنا هي اعقد وامر واخطر من مشكلتنا مع الاخر .. فهل وقف المؤرخ بكل حيادية وانصاف على حالة واحدة فقط من الشفافية بين العرب انفسهم ؟؟ انني اتحدى من يأتيني بمثال واحد عبر خمسين سنة !
وأخيرا : ما العمل ؟
قلنا بأن لا نتدخل في الشؤون الداخلية في ما بيننا فلماذا تسمحوا لأنفسكم ان تقدموا عجلة الحرب والارهاب باسم (المقاومة) بدل ان تجدوا الحلول الواقعية لايقافها ومنع الكارثة ؟ او ان تأتلفوا على مشروع مخلص وحكيم وذكي من اجل اتقاء الحرب ، لكي ارجع فاقول بأن دماء العراقيين لابد ان تكون غالية اليوم بعد ان استرخصتموها طويلا في حروب الرئيس السابق صدام حسين الهمجية ! اخلوا سبيلنا ايها التعساء فلقد دفعنا ثمنا باهضا من اجلكم .. فلستم اوصياء بعد اليوم على مستقبلنا بعد ان لعبتم بما فيه الكفاية ! حلّوا عن وطننا فانتم لستم منه ، انكم لم تنبتوا من تربته ابدا ، ولم تعيشوا همومه . امهلوا العراق يستريح من وعثائه واتعابه قليلا ، فلقد انتصر على مرضه العضال الذي دام معه طويلا من خلال مروره بعمليات جراحة معقدة وخارقة التنفيذ ودفع من دم ابنائه شطوطا من الدماء القانية الحمراء.. لقد توضح جليا لكل العراقيين ، كيف يتكالب الجميع على وطنهم العراق وكيف يتآمرون بكل وقاحة وسوء تدخل بشؤوننا على حساب مصيرنا وارضنا ووجودنا ! ومن قال بأن العراقيين يقبلون بالاحتلال ، ولكنهم يدركون جيدا بأن لقوى التحالف اجندة زمنية في بقائها الذي يرتبط بجدول معين واستحقاقات معلنة من قبل الامم المتحدة ، فالعراق بحاجة الى مستلزمات اساسية في الاعمار وتصفية كل ترسبات الحرب وتداعياتها ، فلا يمكن لأي عراقي حريص على مستقبل بلده واجياله ان يسّلم بما يريده هذا وذاك من دون تحقيق ما التزم به العالم كله .. وعليه فان المشكلة الحقيقية تكمن في هؤلاء المتربصين بالعراق والعراقيين وهم كثر تمثلهم جملة من دول وحكومات واحزاب وقوى وفضائيات ودوائر وجماعات سياسية ودينية واعلامية متنوعة ضالعة في اسوأ المؤامرات !
اتمنى على اخوتنا العرب ان يفكروا قليلا قبل اطلاق اقاويلهم واحكامهم على عواهنها وان اي دعوات من قبلهم للحرب والفوضى والارهاب فانها ستكون سببا في ان ندفع جميعا اثمانا باهضة جدا .. كما واناشد ابناء جلدتي من العراقيين جميعا ان يفكروا بايجاد وسائل ردع تمنع مثل هذه التداعيات اولا وتسعى للتضامن لكبح حدوث اية كوارث ثانيا .. وليكن لنا في نماذج تاريخية ومعاصرة لشعوب ومجتمعات ودول اخرى في العالم امثلة حية يمكننا ان نتعلم منها جملة من العبر والدروس عند اجتياح الازمات والخطوب .