السيد عبد الباري عطوان مـتألم وعلى ما يبدوحزين جداً لرؤية الاستسلام المريع لاقطاب النظام الشمولي السابق، أو القاء القبض عليهم وهم في بيوتهم مختفين يرتعدون خوفاً لا يليق بعنجهيتهم ولا عنتريتهم وهم في سدة الحكم بعدما أحتل العراق من شماله إلى جنوبه والذي هم يتحملون مسؤولية هذا الاحتلال بالدرجة الاولى، وبعدما كان عبد الباري عطوان يعتقد أنهم سيقاتلون حتى الرمق الأخير وسيجعلوها دم إلى الركاب، ودمهم في مقدمة دماء الآخرين للذود عن الوطن وشرفهم القيادي وعلى الأقل ما جنوه وعائلاتهم من فوائد جمة بينما الشعب العراقي كان يتضور من الجوع والحصار الثنائي الذي ابتلى به، الحصار الاقتصادي الجائر التي فرضته الولايات المتحدة بقرار من مجلس الامن على الشعب العراقي دون أقطاب النظام أو مؤيديه وفي الوقت نفسه الحصار الذي قام به النظام على الشعب العراقي في الداخل.
ولكن المتتبع لهذه القضية يحس بأول كلمات السيد عبد الباري عطوان أن التألم والألم الذي حزّ في نفسه غير غريب، لأنه يعرف حق المعرفة من هم هؤلاء الرجال القيادين والذي قال عنهم لأول مرة في مقاله المعنون " استسلام الجنرالات " المنشور في القدس العربي بتاريخ 20 / 9 / 2003 وبشكل علني وصريح وواضح " الجنرال هاشم سلطان وكل المسؤولين الكبار في السلطة لم يتصرفوا كمسؤولين، ولم يكونوا عند مستوى المسؤولية، والمكانة البارزة التي تبوّوها في السلطة العراقية، واساءوا إلى العراق وتاريخه المشرف. ثلاثون عاماً ( نصحح له خمس وثلاثون عاماً) وهم يعيشون حياة الرفاه والبحبوحة، ويتفننون في اطلاق الشعارات، وعندما وقعت الواقعة كانوا أول الهاربين طلباً للسلامة"
والسيد عطوان يعرف حق المعرفة أن هذا القول معروف ليس لديه فقط وأنما لدى الكثيرين، ولو زاد على قوله جملة واحدة بعد نهاية كلامة عن أول الهاربين ، وأنهم " كانوا على أبناء جلدتهم أسود" لفرحنا منه ومن قوله كثيراً .
ان الذين يراهم من القادة الهاربين والمتخفين والذين سلموا أنفسهم أو انتظروا ليلقى القبض عليهم من قبل قوات الاحتلال هم الذين كانوا يحكمون العراق بالنار والحديد والقتل والحرق والاعدام والتغييب والتهجير والحروب الطاحنة التي راح ضحيتها مئات الالاف من العراقيين وغير العراقيين.. من القائد الفلتة وحتى القادة الأقوياء حسب تصريح السيد عطوان .
لقد كان القائد هو الآمر الناهي وهذا معروف للداني والقاصي وإذا تألم السيد عطوان لمواقفهم الجبانة مثلما يقول فذلك أمر طبيعي لأن الثعالب لا يمكن أن يكونوا اسوداً أبداً حتى لو انفلق دماغ السيد عطوان إلى نصفين، فخلال حكم خمس وثلاثون عاماً من الارهاب الدموي " ولا أريد أن أكرر واعدد ذكر المآسي والفواجع لأنها أصبحت معروفة للجميع " لوجد أن هذا الهيكل الهلامي المزيف الذي خدع الكثيرين وحاول تشويه التاريخ ما هو إلا زيف وتزييف للحقيقة والواقع والتاريخ نفسه. زيف حماية البوابة الشرقية وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر وغيرها من الشعارات الوحدوية والقومية والاشتراكية المزيفة.
ليس من المخجل بمكان أيها السيد عبد الباري عطوان ان يكون هؤلاء الرجال بهذا الشكل لأنهم أساساً مجبولين على هذه الصيغة على الرغم من مظاهر السلطة والعنف والغرطسة، هؤلاء جميعهم أقزام أمام صدام حسين وبدون كرامة أو شرف اوشجاعة، وإلا لو لم يكونوا بهذا الشكل لما كان صدام حسين قد انفرد بهم وجعلهم كالدمى يحركهم حسب رغباته، فهل كنت تتصور وأنت العارف ببواطن الامور والممارس الجيد للعبة شدّ الحبال أنهم سيقاتلون حتى الموت؟ ألا تسخر من نفسك لو تحققت هذه الأمنية؟ وعن من تريد أن يقاتل هؤلاء.. عن الوطن وهم أول من اذلوه ووقدموا كل الامكانيات لتقسيمه بواسطة الاحتلال البعثي الأول قبل أي احتلال آخر، أم عن الشعب الذي استعبدوه ودمروه واهانوه حتى النخاع..
ليس من المخجل بمكان أن يكون هؤلاء أول الهاربين، لكن المخجل والعار الكبير هو حكمهم للعراق وللشعب العراقي بطريقة الرجس والنذالة حتى جعلوه لا يحرك ساكناً عندما أحتل العراق.. حكمهم الذي اذل العراقيين حتى أصبحوا مشردين محكومين بقوانين قلما وجد مثلها على وجه بسيطتنا الارض.
كيف يكون المرء شجاعاً ومقداماً وذو كرامة إذا كان ذلّه مستمراً أمام شخص واحد يقرر كل شيء، مع شكله ولبسه، مع تصرفاته وجلوسه بين يديه، مع طعامه وشربه، مع وزنه الشخصي وزينته.. حتى وصل الامر كيف يمارس الجنس مع زوجته.. هل تريد من هؤلاء بعد هذه المسخرة أن يكونوا بمستوى المسؤولية والشرف والكرامة؟
لا يوجد شخص واحد يمتلك من الضمير حبة بحجم حبّة الحنطة أن يتأسف ويتألم لهذه الظاهرة التي حدثت لأنها طبيعية.. طبيعية بسبب التعود على الطاعة الذليلة والخنوع المريض.
ولربما قد عولت على انهم سيكونون على الاقل بنصف المسؤولية فخسرت الرهان وها أنت تؤدي ثمن عذابك وحسرتك، حزنك وقهرك على ما فات، ولكي تتخلص من احراجاتك فقد بدأت الحديث المتفاءل عن المقاومة الجديدة، أملك وأمل الذين يردون أن يستمر العراق بنزيفه حتى آخر قطرة، هذا النزيف المستمر منذ 35 عاماً وكأنه لا يكفي وهو يزيد من شهيتكم بالتمتع به، وكذلك بالاحتلال حتى اطول فترة، ولماذا لا... فانكم تعتاشون وتكسبون قوتِكم من خلال تواجد قوات الاحتلال وليس كما تدعون بأنكم ضده، وأنتم الوطنيون والقوميون ذو النخوة والعزة العربية..
تريد ايها السيد عطوان أن تصور قتل الابرياء وتفجير الاماكن العامة هو عمق وطني شريف وليس الهدف منه اعادة النظام السابق ورجالاته الذين قلت عنهم " بإهانة شرف العسكرية، وشرف المنصب " أو " أمر مخجل بكل المقاييس"
نحن نتفق معك حول المفردة فيما يخص جوهر المقاومة ولكن ليس على طريقتك بالذات فالمقاومة الحقيقية يجب أن تكون ذا بعد وطني حقيقي يقدر فيها الظرف بمكانه وزمانه وليس قتل الناس وتخريب ممتلكاتهم أو القفز والتحايل على الشعارات الوطنية بتصريحات مخادعة مثلما كتبت في مقالك الآنف الذكر " فهؤلاء خدعونا بتصريحاتهم العنترية حول القتال حتى الموت دفاعاً عن الوطن " تصور لو أنهم سمعوا بنصيحة التنحي عن الحكم كيف كان سيكون الامر؟ وإذا أردت أن تنظم إلى الجوقة التي قالت وتقول الآن حتى لو تنحى صدام حسين عن الحكم فالحرب قائمة على العراق لاحتلاله، عند ذلك ستعرف أنت وغيرك ماذا ستفعل المقاومة العراقية الوطنية الحقيقة ضد الاحتلال وبعد التخلص من الحكم الشمولي، لكنهم تعنتروا او ربما تعفتروا لأنهم كانوا يعتقدون أن الملايين ستموت من أجل كراسيهم ورفاهيتهم ومكاسبهم وبحبوحتهم هم وعوائلهم واصحاب المصلحة المرتبطين معهم.
ان التخلص من الاحتلال ايها السيد عطوان ليس بفلول المخابرات السابقة وفدائي صدام وأجهزة الامن وربما اجهزة ارهابية سرية اخرى شكلت قبل فترة طويلة وبقيت تتجدد لاستخدامها في الوقت المناسب.. جميع العراقيون الوطنيون النجباء يقاومون الاحتلال وسوف يقاومونه إلى ان ينتهي وإلا كيف يكون للشرف والكرامة قيمة واعتبار والوطن محتل من قمة رأسه وحتى أسفل قدميه، إلا أن الامر على غير ما تفكر به وليس من باب اعادة الامور إلى نصابها وتتويج القائد والقادة الهاربين، من اجل ان يكون العراق مستقلاً وان تكون الدولة دولته المدنية ذات الدستور الدائم، ان يحترم فيه الانسان وتحترم حقوقه، أن تكون الحرية والديمقراطية منهجاً ثابتاً للجميع.
لا أيها السيد عبد الباقي عطوان عليك أن تحترم رئيسك ياسر عرفات على الرغم من جميع المثالب التي رافقت مسيرة حكمه وقيادته لمنظمة التحرير وتقارنه بمن هرب وهو اقوى من ياسر عرفات مادياً وعسكرياً وجغرافياً، أن تقارن الشعب المقاوم للاحتلال الاسرائيلي ليس دفاعاً عن رئيسه بل عن كرامته وعزته وشرفه وانتمائه للأرض ولأن على الأقل يوجد عند ياسر عرفات وغيره من القادة الكرامة والشرف والشجاعة والتضحية بالنفس، عند ذلك ربما ستعيد لنفسك بعض الهدوء وتبدد ما فيك من حزن وألم ايضاً.
فمن الأوليات وانت تدرك ذلك جيداً أنه لا يمكن للظالم ان يكون شجاعاً ولا فارساً مع اعدائه قبل اصدقائه، الظالم بدون كرامة ولا شرف، العادل فقط هو الذي يملك هذه القيم الرائعة.. فلقد صورت سابقاً هؤلاء الذين تتهمهم الآن بالجبن والهروب وعدم النزاهة وبخيانتهم التي أدت إلى سقوط بغداد، صورتهم بالابطال واكلت لهم المديح في كل خطاباتك ومقالاتك ودفاعاتك ولقاءاتك في الفضائيات العربية وغير العربية،، صورتهم أنهم سيقاومون وسيقف الشعب معهم، لكننا كنا نفهم جيداً ما بين تصريحات وعنتريات الصحاف وغيره قبل وآبان احتلال العراق وبين تضحيته لكي يموت مقاوماً للاحتلال، وبين بما ظهر في الشعر الابيض ثم ظهوره المخجل في تلفزيون أبو ظبي كقرقوز صغير ملون يحاول ان يكون كبيراً بينما في الحقيقة حولوه إلى مهرج صغير ومقرف وسوف نراه أكثر تهريجاً ومضحكة في باقي اللقاءات، اين الكرامة والشجاعة وعزة النفس والعنجهية والعنتريات والانتحار؟.. نحن نفهم كيف قال طارق عزيز في مقابلته قبل الأخيرة للتلفزيون السويدي أنه سيموت ولن يسلم نفسه كأسير لقوات الاحتلال، ولو كان كذلك ذو نتفة من الشجاعة والكرامة لمات مع مرضه على الأقل.. وليس الاستسلام الذي تسميه " المخجل بكل المقاييس" لكنهم هكذا ومثلما قلت لا يهمهم " الا بالسلامة الشخصية، ويسعى بقدميه إلى المعتقلات الامريكية" ونضيف لك يبقى جالساً في بيته منتظراً اعتقاله لكي لا يستلمهم الشعب وعند ذلك القصاص.
لا شيء وقف وسيوقف تدهور قضايا الامة العربية إذا كان هذا الصنف من الحكام يقودونها. وسترى في المستقبل الحقيقة، ونحن على يقين كامل أنك تعرف هذه الحقيقة ولكن لسبب ما تريد تحريفها.. فأنت أيها السيد عطوان ليس بالساذج والغبي وفيك من الذكاء والشيطنة الكثير..
ان الشجاعة والكرامة كانت يجب تثار عند هاشم سلطان وغيره من الضباط قادة الجيش ورئيس اركانه عندما وجدوا أنفسهم اذلاء تحت امرة صبي غير عسكري لكنه ابن صدام حسين فقط وفقط لا أكثر، فأي اذلال أكثر من هذا؟ ان يفرض صدام حسين صبي ليس له تجربة ولا علم عسكري على الجنرال هاشم سلطان مثلما تسميه والمؤسسة العسكرية بجميع جنرالاتها و ضباطها المتخصصين في الحرب والمتعلمين على الأقل في المعاهد والكليات العسكرية.
هل حقاً تريد من هؤلاء ان يكونوا أكثر صلابة وقدرة على التحمل؟ .. وان يكونوا مثل " جميع القادة العسكريين في الجيوش الغربية والعالمثالثية قاتلوا حتى الشهادة، ومن لم يقتل في المعارك، بادر إلى الانتحار وقتل نفسه حتى لا يواجه مذلة الهزيمة، والتحقيقات المهينة من قبل اعدائه" هل تفعلها أنت؟ ولماذا لا تكون في الاراضي الفلسطينية المحتلة لتقاتل من أجل طرد الاحتلال الاسرائلي من وطنك ومن المسجد الأقصى وانت المسلم والقومي الوطني الشجاع والغيور ذو الكرامة وعزة النفس العظيمة؟
هل ترى ايها السيد عطوان بحشو مقالك بالتحريض أيضاً وكيف تريد اثارة التفرقة والمشاكل بمدحك عشيرة دون اخرى.. تهدف من خلفها زجها في الصراع مع القبائل العراقية الاخرى بالتقليل من قيمة الاخرين، انها طريقة ذكية ولكنها مكشوفة ومعروفة ايضاً، انك تقول في قبيلة أو عشيرة هاشم سلطان " قبيلة وطنية معروفة في مدينة الموصل التي استعصت على الغزاة، وحملت دائماً لواء المقاومة بل ان ابناء هذه المدينة وقبائلها وعشائرها كانوا الاشرس في موجهة قوات الاحتلال الامريكي والدفاع عن عروبة العراق واسلاميته" وانت العارف ان محافظة الموصل لم تطلق رصاصة واحدة منذ بدأ الاحتلال على القوات الامريكية بل ان وحداتها العسكرية سلمت راية القائد المنصور بالله لهم.. وهذا لا يعني بخس قدر ووطنية ابناء الموصل من عرب واكراد وآشورين واتراك وغيرهم ومن مختلف الديانات لأنهم عراقيين عانوا من نظام القتلة مثل العراقيين الباقين. وقدموا مئات التضحيات من أجل استقلال الوطن وعزته..
فلا يوجد في العراق قبيلة أشرس من غيرها ولا جماعة أو حزب وطني مخلص لبلده اشرس من جماعة وحزب وطني مخلص، لأن اكثرية الشعب العراقي مخلصين شرفاء شرسين ضد الاحتلال.
وفي الحالة نفسها إذا جلس اقطاب النظام السابق في بيوتهم أو سلموا انفسهم فالامر سيان ولا يختلف في الجوهر، ففي كلتا الحالتين ظهروا على حقيقتهم بأنهم كانوا طغاة ولكن جبناء وفي الوقت نفسه عبيداً للأوامر الفوقية خاضعين مطعين لا كرامة ولا شرف لهم أمام صدام حسين.
أما أعوان الاستعمار الذي يعنيهم السيد عبد الباري عطوان فقد رآهم بأم عينه كيف كانت أخلاقهم وكيف عاملوا طه ياسين رمضان الرجل القوي في دولة البعث العراقي هذا الرجل الذي ارتكب أفضع الجرائم بحق الشعب والوطن، ولو كان الامر مختلفاً لوجدنا كيف كان طه ياسين رمضان وغيره يتصرفون، وكيف كانوا سيتعاملون مع معارضيهم وليس الذين يقاتلونهم، وبالتأكيد شاهد السيد عطوان في أكثرية قنوات العالم التلفزيونية ماذا كان يفعل علي الكيمياوي والزبيدي وغيره بالذين يقبضون عليهم وامام الجميع.. وكيف هدموا الجوامع والمساجد ومراقد الأئمة والصالحين لمجرد الشك بوجود ثوار من الانتفاضة عام 1991 او معارضين للنظام.
لا ليس هؤلاء بالشجعان لا قصي ولا عدي ولا الآخرين، فمن يذيق شعبه العذاب والاضطهاد ويحتمي بالعسكر وعشرات المؤسسات الأمنية ومنتسبيها ليس شجاعاً، ومن يضطهد شعبه ويبذر ويسرق ثرواته الوطنية ليس له كرامة وعزة نفس بقدر حماية ذاته ونفسه، وليكن عزاء وحزن السيد عطوان كعربي ومسلم عليهم وعلى الذين يخربون البلاد ويقتلون العباد أكبر..وعلى السيد عطوان أيضاً أن لايحزن ويشعر بالاحباط بعدما تسربت اخباراً عن مفاوضات سرية بين صدام حسين والامريكان لكي يسلم نفسه ويقدم معلومات مهمة حول أسلحة الدمار الشامل وأرصدته المالية بعدما يضمن حياته وسلامته وترحيله إلى جمهورية روسيا البيضاء.. ففي هذا الزمن كل شيء ممكن.
لكن في االجانب الآخر من المعادلة لو فكرقليلاً ان هنالك الملايين من العراقيين غير العرب وكذلك من ديانات أخرى وهم بالتأكيد ينظرون إلى السيد عطوان ومواقفه كفلسطيني عربي ومسلم بمنظار آخر من المخجل أن ننقله له، لكننا واثقون ان قضية العراق والمخلصين الذين لا تثنيهم جميع المعوقات والصعوبات للتخلص من الاحتلال وبناء العراق سيستمرون في النضال والكفاح على الرغم من كل الاتهامات والتخرصات.. وعند ذلك سيكتب السيد عطوان عزاء آخر لآخرين يحالوان دائماً اعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
21 / 9 / 2003