بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا قدم البلاشفة تصوراً لنظام الحكم السوفييتي كنظام ديموقراطي يتجاوز، حسب رأيهم، الديموقراطية البرجوازية .. وفي هذا النظام تصبح الديموقراطية، حسب المنظرين له، ديموقراطية للفقراء، للغالبية الساحقة من الشعب. وتفضي هذه الديموقراطية إلى "مناخ اجتماعي جديد، وإلى تغيير كامل في الحياة العامة وارتقاء مجمل الشعب إلى الغالبية السياسية وإلى المواطنية الحقيقية، أي المشاركة في القرار والإدارة.".(1)
عرف هذا الأسلوب من الحكم في روسيا باسم حكم السوفيتات، أو ديكتاتورية اليروليتاريا. وامتاز بهيمنة الحزب الواحد، بعد حلّ الأحزاب السياسية، وعدم السماح بتشكيل أحزاب سياسية جديدة، وبالتالي عدم إمكانية تداول السلطة..
بعد انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، ومساهمته في تحرير دول أوروبا الشرقية، عمل مع الأحزاب الشيوعية وحلفائها، في تلك البلدان، على إقامة أنظمة حكم فيها، تعتمد أسلوب حكم مشابهاً للنظام السوفياتي، عرفت باسم أنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية. امتازت تلك الأنظمة بهيمنة الأجهزة البوليسية المستترة وراء الحزب القائد والأوحد ـ مع السماح بوجود بعض الأحزاب الحليفة في إطار ما عرف بالجبهة الوطنية، التي كان جورجي ديمتروف من أوائل المنادين بقيامها عشية الحرب العالمية الثانية، وذلك في مؤتمر الأممية الشيوعية عام 1936 وفي الحقيقة لم يكن لتلك الأحزاب أي دور فعلي في الحياة السياسية لتلك البلدان ـ وزينت البنية السياسية والاجتماعية بمنظمات دعيت بالشعبية، والنقابات والمجالس المنتخبة شكلياً، والتي لم تمارس أي دور خارج ما رسمته لها الجهات البوليسية والعليا.
ومع تنامي حركات التحرر في العالم، وحصول العديد من الدول والشعوب على الاستقلال عن الدول المستعمِرة، وتأثرها بالتجربة الجديدة في دول المعسكر الشرقي، تبنى قادة العديد من الأنظمة، التي استولت على الحكم في هذه الدول حديثة الاستقلال، صيغة الحكم المعروفة بالديموقراطية الشعبية. التي تعد صيغة وشكلاً ملطفاً من أشكال ديكتاتورية البروليتاريا في الحكم.
لمعرفة حقيقة أنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية لا بد من البحث في الممهدات النظرية، والتاريخية، والعملية التي قادت إليها. علماً بأنّ المنظرين والمنادين الأولين لهذه الأنظمة هم الشيوعيون الذين خرجوا من مدرسة ومعطف ما عرف بالماركسية ـ اللينينية. وهذا ما يقودنا إلى ضرورة التعرف على النظرة الماركسية للديموقراطية.
الماركسية والديموقراطية ، نظرة تاريخية
مرت نظرة الماركسية الكلاسيكية ومواقفها من مفهوم الديموقراطية بمراحل مختلفة، ففي المرحلة الأولى، مرحلة البيان الشيوعي عام 1848، كانت الديموقراطية أساس نشاط الماركسيين.. ومع تطور التجربة الديموقراطية في أوروبا، وتعدد واختلاف أشكال تطبيقها في الواقع، أخذت نظرة الماركسيين إلى الديموقراطية طابعاً طبقياً شيئاً فشيئاً، وتتلخص السمة العامة المميزة لنظرة الماركسية إلى الديموقراطية بمقولة انجلس التي تؤكد "أنّ الديموقراطية وخضوع الأقلية للأكثرية ليسا بالشيء ذاته؛ الديموقراطية هي دولة تعترف بخضوع الأقلية للأكثرية، أي منظمة لممارسة العنف بصورة دائمة حيال طبقة من قبل طبقة أخرى، أو حيال قسم من السكان من قبل قسم آخر."(2)
وحددت الماركسية الجوهر الحقيقي للبرلمانية البرجوازية ـ كما قال ماركس ـ في: البت مرة كل عدة سنوات في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة السائدة سيقوم بقمع وسحق الشعب في البرلمان، والجوهر الحقيقي للبرلمانية البرجوازية هذا، لا يسم فقط المَلكيات البرلمانية الدستورية، بل كذلك الجمهوريات الأوسع ديموقراطية.
كما ترى الماركسية أنّ حقيقة "كل تاريخ البلدان البرجوازية البرلمانية، وكذلك البلدان البرجوازية الدستورية إلى حد ملحوظ ، يثبت أنّ تبديل الوزراء ـ الذي يتم من شكلياً من قبل البرلمانات ـ أمر غير ذي شأن ، لأنّ عمل الإدارة الفعلي يتركز في أيدي جيش لجب من الموظفين . والحال، إنّ هذا الجيش مفعم كلياً بروح معاداة الديموقراطية، ومرتبط بآلاف وملايين الخطوط بالملاكين العقاريين والبرجوازية، وتابع لها بشتى الصور والأشكال."(3)
ويرى الماركسيون أنّ جهاز دولة كهذا عاجز كلياً عن إجراء الإصلاحات التي تبتر من حقوق الرأسمال، حقوق "الملكية الخاصة المقدسة" أو تحد منها جدياً، ناهيك عن إجراءات الإصلاحات التي تقضي على هذه الحقوق. .(4)
وتعززت القطيعة بين الماركسيين البلاشفة ، والأحزاب التي اتبعت نهجها، وبين مفهوم الديموقراطية البرلمانية البرجوازية، مع إعداد حزب البلاشفة للثورة في روسيا، ووضع لينين أسس ما سمي لاحقاً الديموقراطية الشعبية.. والتي أخذت في روسيا شكل السوفيتات، وفي هذا الصدد يقول لينين: "إنّ الجمهورية البرلمانية البرجوازية تعرقل ، تخنق حياة الجماهير السياسية المستقلة، واشتراكها المباشر في التنظيم الديموقراطي لكل حياة الدولة، من القاعدة إلى القمة. أما سوفيتات نواب العمال والجنود، فإنّها تفعل العكس."(5)
سلطة السوفيتات وديكتاتورية البروليتاريا
قدم لينين سوفيتات نواب العمال والجنود والفلاحين كنموذج ذي قيمة خاصة، لأنّها، في رأيه، نموذج جديد لجهاز الدولة أعلى بما لا يقاس، وأوفر ديموقراطية بما لا يقارن. وانتقد البرلمانية كونها مرتبطة بظروف معينة ومحددة تاريخياً، وهي متصلة بالرأسمالية وبالرأسمالية وحدها.. وبين طابعها التقدمي بالنسبة للقرون الوسطى، وطابعها الرجعي بالنسبة للسلطة السوفيتية.
السوفيتات ديموقراطية من أجل الأكثرية الكبرى من الشعب وقمع بالقوة، أي استثناء المستثمٍرين، ظالمي الشعب من الديموقراطية، هذا هو جوهر ما أصبح يعرف باسم ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا ، وبالديموقراطية الشعبية في البلدان التي اقتبسته منها، بما في ذلك بلدان "التقدم والاشتراكية".. وهو أسلوب في الحكم يزعم مؤيدوه ومروجوه أنّه أسلوب ديموقراطي متقدم على الديموقراطية البرلمانية.. وأكد البلاشفة تمسكهم بهذا الأسلوب بعد قرارهم القاضي بحل الجمعية التأسيسية في روسيا، هذا القرار الذي بين موقفهم العملي من الديموقراطية البرلمانية.
موقف البلاشفة العملي من البرلمان
دعا لينين نظرياً إلى الاشتراك في البرلمانات، مؤكداً أنّ الذين يرفضون الاشتراك في البرلمانات"يريدون على وجه الضبط ، بهذه الطريقة "البسيطة" ، و"المهينة" والثورية المزعومة، أن "يحلوا" المهمة الصعبة ، مهمة النضال ضد النفوذ البرجوازي الديموقراطي داخل الحركة العمالية. أما في الواقع فإنّهم يهربون هرباً من ظلهم، ويطبقون عيونهم إطباقاً على المصاعب، ويتهربون منها بالكلمات فقط."(6) إلاّ أنّ موقف لينين من البرلمان المتمثل في الجمعية التأسيسية الروسية لم يكن منسجماً مع هذا التوجه..
بعد انتصار الثورة البرجوازية في روسيا في شباط 1917 وضعت مهمة تأسيس وانعقاد الجمعية التأسيسية (البرلمان الروسي) في صلب مهام الحكومة المؤقتة ، وكان انعقاد الجمعية التأسيسية ماثلاً في برامج كل الأحزاب اليسارية في روسيا، وبوجه خاص في برنامج الحزب الاشتراكي - الديموقراطي، بما فيه جناحه البلشفي، كما بيّنا.. في 25 تشرين الأول (أكتوبر) إبّان الاستيلاء على السلطة، أكد لينين للمندوبين إلى المؤتمر الثاني للسوفييتات لعموم روسيا أن "سلطة السوفييتات... ستؤمن في الوقت المناسب دعوة الجمعية التأسيسية" وثبت لينين هذه التأكيدات في أكثر من تصريح لاحق. وحدد نموذج الدولة الديموقراطية الجديد التي تنشأ في الثورة الاشتراكية، ألا وهو السوفيتات المترافقة مع الجمعية التأسيسية(البرلمان).. إلاّ أنّ موقفه الفعلي لم ينسجم مع هذا التصور.
جرى تنظيم الانتخابات للجمعية التأسيسية قبل انتصار ثورة أكتوبر وجرت بدء اً من 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917. أي بعد انتصار الثورة البلشفية، وتشكلت الجمعية التأسيسية، وكانت الأغلبية فيها من نصيب خصوم النظام السوفييتي الجديد..
وقررت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الروسي العام للسوفييتات أن يتم انعقاد الجمعية التأسيسية في 5 كانون الثاني ( يناير ) 1918.
إلاّ أن لينين كان حذراً حيال الجمعية التأسيسية، وأصدر موضوعات حول الجمعية التأسيسية نشرتها صحيفة البرافدا في 26 كانون الأول (ديسمبر) 1917 ، مؤكدً أ نّ تصادم الجمعية التأسيسية والسوفييتات يعكس المواجهة بين الطبقات، إذ تتجابه المؤسسة البروليتارية مع المؤسسة البرجوازية، حسب رأيه، منوهاً بالظروف التي أحاطت بانتخاب الجمعية التأسيسية التي كانت قد جرت في المناطق قبل أن يسمع الشعب وخاصة في الأرياف بثورة أوكتوبر، ووعي أهميتها ... وتوصل إلى استنتاج بأنّ "الاحتمال الوحيد لحل الأزمة التي نشبت بعدم التناسب بين الانتخابات إلى الجمعية التأسيسية وإرادة الشعب،.. هو تطبيق الشعب لحق إعادة انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية".(7)
هكذا نجد أنّ لينين لم يغلق الباب نهائياً أمام وجود الجمعية التأسيسية، بل دعا إلى إعادة انتخاب أعضائها.. إلاّ أن تطور الأحداث لم يجر وفق تلك الإرادة، بل أصبح شعار كلّ "السلطة للجمعية التأسيسية" شعار مناصري الثورة المضادة الكاديت والكالديين (أنصار الجنرال الأبيض كاليدين)، بعدئذٍٍٍٍ خلص لينين إلى الاســــتنتاج بأنّ "الجمعية التأسيسية... تدخل بالضرورة في صراع مع إرادة ومصالح الطبقات الكادحة والمستغَلة، التي فجرّت في 25 تشرين الأول (أكتوبر) الثورة البلشفية ضد البرجوازية.. وعلى الجمعية التأسيسية "الاعتراف دون تحفظ بسلطة السوفييتات" و إلاّ سيتم حلّها "بالطريق الثوري، بالتدابير الثورية الأكثر قوة".(8) وهذا ما حصل بعد الاجتماع اليتيم للجمعية التأسيسية الذي عقد في 5 كانون الثاني ( يناير ) 1918 ، وإصدار السلطة السوفييتية مرسوم يقضي بحل الجمعية التأسيسية.
من كل ما تقدم يتبين أنّ لينين وضع تصوراً للنظام السوفييتي كنظام ديموقراطي حقيقي يتجاوز، حسب رأيه، الديموقراطية البرجوازية.. تأسست بموجبه سلطة السوفييتات البلدية و سوفييتات القرى، وتم فيه الاستغناء عن البرلمان، وما يلازم وجوده من بنى وأحزاب سياسية أخرى..
إلاّ أن الأمر الملفت للانتباه والغريب أن السوفييتات كانت ضحية " التشيكا " (المخابرات السوفيتية) ـ التنظيم المكلف بالنضال ضد البيض!
قضى المرسوم الصادر في 7 كانون الأول (ديسمبر ) بتأسيس التشيكا "اللجنة الطارئة لمكافحة الثورة المضادة و التخريب" . أعطيت هذه اللجنة صلاحيات واسعة نتيجة اتساع نطاق الحرب الأهلية. وطغت هذه اللجنة على السوفييتات التي اضطرت للامحّاء أمام هيمنة أجهزة المحابرات... وقبل فرض إرادة " التشيكا " على السوفييتات وتقويض صلاحياتها كانت قد حلّت الجمعية التأسيسية، كما بينا. وباختصار تحول النظام السوفيتي، الذي رأى فيه البلاشفة، وأتباعهم في الأحزاب الشيوعية العالمية، وفي الأحزاب القومية والماركسية الصديقة لهم، أنه نظام متقدم على الديموقراطية البرلمانية، وزين بوصفه نظام الديموقراطي الشعبية، تحول هذا النظام عملياً إلى نظام بوليسي، يركز السلطات الفعلية في أيدي المخابرات ومن يدور في فلكهم..وهكذا أفقد الموقف السلبي من الجمعية التأسيسية، وحلّها عام 1918 ، واعتماد الأسلوب البوليسي في الحكم، أفقد الثورة الروسية عنصراً هاماً من عناصر قوتها ألا وهو الديموقراطية. وحرم ذلك النظام الجديد من الرئة السليمة للتنفس، ومن الدم المتجدد للحياة السليمة، وخلق الممهدات للحكم الفردي والاستبدادي، الذي يقود المجتمع إلى التهلكة، لأنّه لا ينسجم مع التطور السليم للمجتمع، الذي تعد الديموقراطية المناخ الملائم لتقدمه.
سمات أنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية:
بينا أنّ الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية المدعومة من الجيش السوفييتي الأحمر، أقامت أنظمة حكم على النمط السوفيتي عرفت بالديموقراطية الشعبية. كما تبنى العديد من الأحزاب الانقلابية في الدول حديثة الاستقلال، التي استولت على الحكم فيها، صيغة الحكم المعروفة بالديموقراطية الشعبية. واعتمدت أسلوب حكم مشابهاً للنظام السوفياتي، وديكتاتورية البروليتاريا.
يكرر أنصار النظم الديموقراطية الشعبية الرأي النظري العام الذي يقول بأنّ مصدر السلطة وصاحبها هو الشعب، ويدعون نظرياً لتسخير جميع السلطات لخدمة المجتمع وتطوره، وفي رأيهم، أية سلطة لا تصدر عن الشعب غير شرعية.. ويصر الحكام في هذه الأنظمة على إدراج هذه الموضوعات في الدستور، فتجد دساتير الأنظمة الديموقراطية الشعبية تعد الحرية حقاً مقدساً، وتؤكد على أنّ الديموقراطية الشعبية هي أفضل صيغة تكفل للمواطن ممارسة حريته الكاملة.
أما في الواقع وفي الحياة العملية، فإن هذه الأنظمة تعاني من النقص والتقييد في الحريات الاجتماعية والفردية، وللبرهان على مشاركة المواطنين في عملية الحكم، يؤسس الحكام في هذه الأنظمة مؤسسات سياسية، واقتصادية، واجتماعية تخضع فعلياً لهيمنة السلطات الحاكمة، وأجهزتها البوليسية، وتبدو من حيث الشكل وكأنّها تمثل الفئات الاجتماعية كلها.
ويعلن في الأنظمة الديموقراطية الشعبية عن تشكيل العديد من المجالس، مثل:
ـ مجلس السوفييت أو مجلس الشعب، الذي يبدو وكأنّه يمثل كافة الفئات الاجتماعية، وينتخب انتخاباً حراً وديموقراطياً، وفي الواقع يتم تعيين أعضائها من قبل أجهزة الدولة البوليسية، وفق آليات شبه انتخابية لقوائم معدة سلفاً، ومضمونة النتائج.
ـ مجالس محلية، في المدن والبلدان والقرى، تعين قياداتها وفق الآلية السابقة.
ـ منظمات شعبية ونقابات مهنية واتحادات مختلفة، صورة طبق الأصل عن بعضها وعن المؤسسات الحاكمة..
ويتباهى منظرو الأنظمة الديموقراطية الشعبية، مثلهم مثل منظري ديكتاتورية البروليتاريا، بأن الديموقراطية التي يشيدون تتجاوز الديموقراطية البرلمانية البرجوازية، لأنّها من ناحية، ذات بعد اجتماعي اقتصادي، تهدف إلى معالجة حالة التفاوت الاقتصادي في المجتمع، وتقيم نظام العدالة والمساواة، وهي، من ناحية ثانية، ديموقراطية للعمال، والفلاحين، أي لأغلب أفراد المجتمع المنتجين، وليس للنخب البرجوازية وممثليها فحسب، كما في الديموقراطية البرلمانية.. ولإقامة مجتمع العدالة والمساواة يرى منظرو أنظمة الحكم هذه أنّه لا بد من قمع الطبقات المستغلة المناوئة في ما يسمى بالمرحلة الانتقالية.. إلاّ أنّ النظام الذي استبعد أو اضطر على استبعاد التعامل الديموقراطي مع مناؤيه، في المرحلة الانتقالية، لا يفكر بالعودة إلى الأساليب الديموقراطية مع تغير الظروف والقضاء على مناوئيه، أو ما يسمى بالعدو الداخلي.. ويستمر الحكم وفق الأساليب الديكتاتورية على الرغم من تغير الظروف، ويعمم أسلوب التعامل القمعي ليطال كل ما يبدو أنّّّه مختلف، أو يفكر في انتقاد النظام القائم، بما في ذلك الكوادر التي قامت بالثورة. فغياب الديموقراطية يحمل في طياته الهلاك للجميع، ولا تسلم منه حتى الأداة القمعية ذاتها.
بينت التجربة التاريخية أنّ أنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية، تؤسس لما يعرف بالأنظمة الشمولية التي ترى أنّها تمثل الكمال في كل زمان ومكان ، حيث الحاكم ينوب عن الشعب ، الذي يعبأ في بنى لا حول لها ولا قوة .. وتقود آلية الحكم هذه إلى تغييب ليس المعارضة فحسب ، بل والشعوب أيضاً ..وتتسم هذه الأنظمة بالسمات التالية:
ـ هيمنة دستور يحدد قيادة المجتمع والبلاد من قبل حزب واحد، وقد تنوه بعض الدساتير على وجود أحزاب أخرى، بشرط أن تعمل تحت قيادة الحزب الحاكم، ولا يسمح بوجود أية قوى أو أحزاب سياسية أخرى.. أي يتم تحديد نشاط القوى السياسية سلفاً. وكأن فلسفة هذه الأنظمة تلغي مسيرة التاريخ المتغيرة والمتجددة باستمرار، وتعمل على كبح عملية التطور، وجعلها ومستقبل الشعوب والمجتمعات رهينة تصور حزب واحد.. مما يعمل على سد الأفق أمام تطور وتقدم المجتمع..
ـ سن العديد من القوانين التي تكبل النشاط الاجتماعي بكافة أشكاله، وحصره في المؤسسات التابعة للحكومة، والمقيدة من قبل الأجهزة البوليسية، وعدم السماح لأي نشاط خارج إطارها..
ـ تطبيق أحكام تعسفية وقمعية بحق من يفكر بأية نشاطات، أو فعاليات خارج الأطر الجامدة التي تحددها السلطة.
ـ حظر العمل السياسي الفعلي، وغياب الأحزاب السياسية، خارج نطاق الحزب الحاكم، وملاحقة المعارضين لهذا الحزب. وينعكس الضعف الوظيفي للأحزاب والمؤسسات الاجتماعية المترهلة والمعمرة لفترة طويلة من دون تجديد في بنيانها وفكرها، ينعكس على المناخ المعنوي في التنظيم والمجتمع .
ـ ونتيجة لهذه البنية الجامدة، والمغلقة ، والقمعية تسود الاقتصاد والمجتمع حالة من السبات، والتشوه، والتخلف، يدعوها المستفيدون منها بالاستقرار. فتتجمد البنى الاجتماعية، والاقتصادية، وتنشأ الظروف المناسبة لصيرورة طبقة بيروقراطية طفيلية تغتني على حساب المنتجين، وتفقد أية إمكانية للتجاوب مع متطلبات التقدم والتطور ، وتصبح السمة العامة للمجتمع في مجمل مناحيه الاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية ، هي الركود والتخلف .. فضلاً عن تفاقم مشاكل الأقليات القومية، والتهرب من استحقاقات معالجتها، ، كما تتراكم مشاكل النعرات الدينية، وتزداد حدة التفاوت والفروقات الاجتماعية، والطبقية، والتي لا يمكن معالجتها إلاّ في أجواء الحرية والديموقراطية الحقيقية..
ـ يقود ضعف مراقبة المؤسسات الاجتماعية إلى عدم محاسبة منتهكي القواعد الاجتماعية و التنظيمية ، والقانون ، وبالتالي إلى الحالة العامة من اللامسؤولية، وضعف النمو الاقتصادي، ونهب الملكية العامة و ملكية الدولة بمختلف الطرق والأساليب..
ـ مع تغير الحياة و تطورها وبقاء القوانين كما هي، وسيادة القوانين الكابحة للتطور، يتوقف المقياس القانوني عن القيام بوظيفته. و يعيق الركود استبدال تلك القوانين، فتأخذ تعرقل عملية التطور الاجتماعي... وتأخذ لا منطقية القرارات المتخذة بناء على تلك القوانين تضفي طابعاً وخيماً على هيبة القانون. ويشمل الفساد الهيئات الحاكمة والقضاء الذي يعاني من نفس العملية والظروف، مثله مثل سائر البنى والمؤسسات ...
على هذه الخلفية تأخذ تتطور اتجاهات أخلاقية سلبية، مثل الغش ، والعدوانية، والأنانية، وعدم احتمال الآخر، والاستهتار بكل ما هو ذي مصلحة اجتماعية عامة ... ويصبح الانحراف الفردي في سلوك الأفراد جماهيرياً، ويكتسي طابعاً خطيراً، ويتعمق تشوه القواعد الاجتماعية. ويسبب تشوه المؤسسات و ركودها توتراً اجتماعياً نظراً لانسداد الأفق، وانعدام أي مجال للأمل.
ولعل السبب الجوهري لهذه الأزمة والمأزق الذي وصلت إليه مجتمعات أنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية، يكمن في غياب الحالة السليمة التي تسمح بتفتح طاقات الشعب، ومنحه مقومات تجاوز أزماته.. وبينت التجربة التاريخية أنّ المجتمعات التي استطاعت تجاوز أزماتها، اعتمدت بنية اجتماعية واقتصادية وسياسية تسمح بالتطور والتجدد، مبنية على أسس ديموقراطية حقيقة.
وإن دل غياب الديموقراطية في أنظمة الحكم (الديموقراطية الشعبية) الشمولية والاستمرار في الأسلوب الديكتاتوري في الحكم حتى فيما بعد استيلائها على الحكم، والانتصار على العدو الداخلي، (إن دل) على أمر ما، فأنّه يدل على عدم استيعاب قادة تلك الأنظمة والأحزاب المنضوية تحت لوائها للمنهج السليم في تحليل آلية التطور الاجتماعي، ألا وهو المنهج الدياليكتيكي، هذا المنهج الذي لم يستطع أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم بالماركسيين ـ اللينينيين، وزعموا أنّّهم يتبنونه، ومن سار في ركبهم في الأحزاب القومية والتي سميت بالوطنية التقدمية، استيعابه: فاستمروا بنفس الأسلوب الديكتاتوري من الحكم، مما أفقد أنظمة الديموقراطية الشعبية عناصر قوتها، وخلق الممهدات لنمو ظاهرة الفساد والطفيلية الاقتصادية والبيروقراطية، وساهم في خلق الحواجز أمام تطور تلك الأنظمة، وتفاقم أزماتها الاجتماعية والاقتصادية.
هكذا ألقت الأنظمة الديموقراطية الشعبية، بأهم سلاحين ضروريين للتطور السليم: الديموقراطية، والمنهج الدياليكتيكي في التفكير، الذي لا يعترف بالجمود والثبات، بل بالتغيير والتطور المتجدد ، الذي يحتم وجود قوى سياسية متجددة، وليس قوة أو حزباً واحداً، وحتمية وضرورة تداول السلطة بين الأحزاب والقوى السياسية في المجتمع، المتساوية الحقوق والواجبات أمام القانون.. وهذا ما لم تعه الأنظمة الديموقراطية الشعبية.. وعلى الرغم من بعض الإيجابيات التي امتازت هذه الأنظمة بها، فإنها وصلت وأوصلت شعوبها إلى مأزق لا يمكن تجاوزه، إلاّ من خلال أنظمة ديموقراطية متجددة بعيدة عن أسلوب الحكم البوليسي القمعي، وتأخذ بإيجابيات جميع التجارب الديموقراطية التي عرفتها الشعوب.
لقد أثبتت التجربة الإنسانية أنّ المجتمع الذي ينشد التقدم والتمدن والحضارة يحتاج إلى بنية سياسية اجتماعية، تشكل الديموقراطية اللبنة الأساسية وحجر الزاوية في أساسها السليم.. وكل إعاقة للبنى الديموقراطية تحت أية حجة أو ستار، كوضعها ضمن قالب واحد لخدمة آلة الاستغلال والاستبداد، أوبخسها قيمتها الحقيقة، والانتقاص من أسسها السياسية والاجتماعية المجربة ، والتي تفقدها محتواها، وجوهرها الذي من دونه لن تعود ديمقراطية، تحت شعار الخصوصية؛ يكرس الأمراض الاجتماعية ويعزز أركان الجمود والتخلف.. والديموقراطية ليست وصفة جاهزة، بل وسيلة وممارسة في الحكم، يمكنها الاستفادة من جميع التجارب بما في ذلك بعض إيجابيات الديموقراطية الشعبية، في التوجه لمشاركة العمال والفلاحين والمنتجين في الحكم، وفق أسس جديدة أساسها المساواة القانونية والحرية.. والأساس السليم للبناء الديموقراطي هو الحرية.. الحرية من هيمنة وسيطرة: رأس المال، والطغم الاحتكارية الاستغلالية، والحكومات البوليسية.. إنّ فقدان هذه الحرية يفقد الديموقراطية من مغزاها الحقيقي السليم.. ويحولها إلى أداة قمع تعيق تفتح طاقات المجتمع، وتطوره السليم..
الهوامش :
(1) لينين ـ المختارات ـ المجلد /7/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو1977 ـ ص420
(2) لينين ـ المختارات ـ المجلد /7/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو 1977 ـ ص104
(3) لينين ـ المختارات ـ المجلد /7/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو 1977 ـ ص228
(4) لينين ـ المختارات ـ المجلد /7/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو 1977 ـ ص229
(5) لينين ـ المختارات ـ المجلد /6/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو 1977 ـ ص380
(6) لينين ـ المختارات ـ المجلد /9/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو 1977 ـ ص41
(7) لينين ـ المختارات ـ المجلد /7/ باللغة العربية ـ إصدار دار التقدم ـ موسكو1977 ـ ص420
(8) نفس المصدر
طرطوس 22/9/2003
[email protected]