|
يوميات علماني قبطي (3)
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 1967 - 2007 / 7 / 5 - 12:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اليوم الأول: انحرافات الإكليروس ما يتسرب من أخبار عن انحرافات الإكليروس الأخلاقية، سواء المالية أو الجنسية، يكاد ينقسم الأقباط إزاءه إلى فريقين: فريق يتكتم وينكر ويستنكر أي خوض في الموضوع. وفريق يستنكر الانحراف، ويهتاج متصوراً أن القيامة قد قامت. كلا الفريقين برأيي ينطلق من ذات المنطلق، وهو تصور أن الإكليروس أشباه آلهة، وبالتالي فمن المفترض أنهم غير معرضين للخطأ، وهذا التصور أبعد ما يكون عن الصواب أو الاتزان، فالإكليروس بشر مثلنا، ورغم أنهم ينتقون بالأساس من أفضل العناصر، إلا أن الطبيعة البشرية تحتم بقاء احتمالات الخطأ أو الانحراف واردة، والكتاب المقدس بعهديه وبصدقه المطلق صور لنا هذه الحقيقة عبر جميع رجال الله، منذ آدم وحتى تلاميذ السيد المسيح، فلم يكن رجال الله أبداً في عصمة من الخطأ، وداود النبي، الذي قال عنه الكتاب: عاينت داود ابن يسى فوجدته إنساناً حسب قلبي، هذا النبي والملك نستطيع أن نقرأ عبر الكتاب الكثير من الملاحظات الخطيرة على سلوكه. المشكلة إذن بالأساس في تصورات الأقباط عن الإكليروس، وليس في الإكليروس ذاتهم، فهم بشر يا ناس، بشر. . بشر. . بشر. . علينا أن نعاملهم على أنهم بشر: نراجعهم . . نراقبهم . . لا نحملهم فوق ما يطيقون . . نحاكم من يخطئ منهم، بعدالة وشفافية . . لا نتهاون ولا نستحي من إعلان أخطائهم، ليكونوا عبرة للجميع، وليدرك الجميع أن لا أحد فوق المحاسبة وفوق القانون. فبهذا فقط نستطيع أن نؤسس علاقة جديدة صحيحة وصحية بيننا وبين آبائنا الكهنة، بغير إفراط في التقديس والتأليه، وبغير إفراط في الدهشة أو الفجيعة حين نكتشف لهم أخطاء.
اليوم الثاني: تخريب العقل القبطي وصلني أخيراً كيس تراب قبر أبونا يسى، ومع أن هذا الموضوع يقلقني بالفعل منذ فترة طويلة، وكتبت عنه مراراً، ضمن سائر مظاهر تردي العقل القبطي (إن صح التعبير)، إلا أنني عندما أمسكت بالكيس في يدي وأطبقتها عليه، تملكني إحساس قوي ومادي بالمأساة، لم يعد الأمر مجرد أفكار تدور برأسي، فالكارثة أصبحت جسداً حقيقياً في قبضتي، التي تقبض الآن على ثمار عمل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في الشعب، هذا هو الإيمان الذي قادت الكنيسة الشعب إليه، هذا هو السر الكنسي الثامن الذي أضافه العصر الحالي إلى أسرار الكنيسة السبعة، ليقف إلى جانب سر المعمودية ومسحة المرضى وسر الميرون، الآن وبفضل مجهودات آبائنا المقدسين والمنوفين (نسبة إلى نيافة)، أصبح لدينا سراً جديداً، هو سر تراب قبر أبونا يسى، ويبدو أنه جرياً على نهج الحداثة التي تنحو إلى تبسيط الطقوس، فإن السر الجديد لا يحتاج أكثر من أن تضع بعضاً من التراب المقدس في كوب ماء، وترج الخليط جيداً، ثم تتجرعه دفعة واحدة، والأفضل على دفعات، بعدها يأتيك الشفاء من كافة أمراضك، وتغفر لك خطاياك، التي فعلتها بمعرفة، والتي فعلتها بغير معرفة، الخفية والظاهرة، والتي فعلتها بإرادتك والتي فعلتها بغير إرادتك!! أتوجه الآن إلى من يعتبرون كتاباتي من قبيل الخروج على الكنيسة، ومن يعز عليهم التشكيك في شفاعة القديسين، أو التشكيك في استمرار المعجزات في عصرنا الحالي. أقول لجميع المؤمنين والمؤمنات. المتعلمين والمتعلمات. حتى الجاهلين والجاهلات المتعصبين والمتعصبات. المغيبين لعقولهم والمغيبات. من فضلكم جميعاً يا سادة إعملوا عقولكم لبضعة ثوان لا أكثر. تساءلوا بينكم وبين أنفسكم: أليس ما وصلنا إليه هو الحضيض بعينه؟!! أليس هذا الكيس المقدس وحده دليل على أن الكنيسة القبطية قد دفعت شعبها فعلاً إلى كارثة غياب العقل وفساد الإيمان؟!!
اليوم الثالث: العائشون في الخيال يختلف الإنسان عن الحيوان بأن الحيوان لا يعرف سوى حقائق الواقع الذي يتلامس معه، بينما الإنسان الذي يتمتع بملكة الخيال فهو يستطيع أن يضيف إلى الواقع عناصر أخرى من وحي خياله، يستمدها من المختزن في ذاكرته من مشاهد سبق له أن عاينها في الواقع، بعد أن يعيد ترتيب العلاقات فيما بينها، لتكون كما لو حقائق جديدة، رغم أنها لا وجود لها إلا في خياله الخصب، فحين يختزن الإنسان صورة أسد مثلاً، وبجانبها صورة نسر مجنح، فإنه يستطيع أن يشكل حقيقة جديدة توجد داخل خياله فقط، تتمثل في صورة أسد ذي جناحين، ويستطيع أيضاً أن ينسج حوله قصصاً جديدة، تتوارثها الأجيال مدرجة إياها ضمن حقائق الواقع، كما لو كانت بالفعل جزءاً منها. هكذا أيضاً يتصور الشعب القبطي أن ثمة آباء له من كهنة وأساقفة وبطاركة، وأنهم صاروا فور سيامتهم من نوعية أخرى غير البشر المعرضين للخطأ كما هم قابلون للصواب، ومزجوا في خيالهم صورة البشر بصورة ومواصفات الملائكة، تماماً كأسطورة الأسد المجنح، هكذا آبائنا الكهنة والأساقفة ملائكة لا يخطئون، وما علينا إلا أن نسلم لهم كل أمور حياتنا. أما حين يهمس أحد بأن هذا الكاهن أو ذاك الأسقف قد أخطأ مثل باقي البشر، فإن هذا سيكون بالنسبة لنا كارثة كبرى، لأنها تهدم البناء الخيالي الذي بنيناه، لذلك فالأجدر بنا أن نتكتم الأمر، حتى لو كان ذلك على حساب استشراء الفساد، فمضار الفساد أهون علينا من أن نعترف بأسطورية ووهم ما بيناه من تخيلات وكائنات ملائكية لا تخطئ. يفضل الكثيرون أن يعشوا في ظل الأوهام والخرافات الجميلة، عن أن يواجهوا الواقع بمرارته. أما هؤلاء الذين يتجاسرون على إعلان الحقائق، ويدعوننا لمواجهتها فهم أعداء لنا، وأعداء للكنيسة الوهمية التي لا وجود لها إلا في خيالنا، وعلينا أن نخرسهم إلى الأبد. سيظل الكثيرون يفضلون الخيال الجميل، وليذهب الواقع إلى الجحيم. وسيظل القلة يرفضون الخيال، ويصرخون لإنقاذ الواقع من التردي إلى هاوية لا قرار لها.
اليوم الرابع: البابا وصحبة الكرام مشكلة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ليست أبداً في أشخاص، إنها في فكر سائد ونظم مستقرة منذ مئات السنين، مشكلة الكنيسة أساساً في الفكر الأبوي الشمولي، الذي يحرض الأبناء أن يظلوا أسرى الآباء والأجداد، في حكم الرجل الواحد المقدس والملهم، والافتقاد إلى المؤسسات، إلى عمل وفكر المجموع، المشكلة أيضاً في الافتقاد إلى آلية التصحيح والمراجعة، وتصور أن كلمة إصلاح سبة وإهانة، بهذا نسير كالقذيفة في ذات الاتجاه مهما كانت نتائجه وبيلة، ومهما تغير الزمن من حولنا، فلا شأن لنا به لأننا في ملكوت آخر. حين كان نظير جيد -على الهامش- في صفوف الجماهير، كان إصلاحياً وراديكالياً، ولم يكن على شاكلة من يقذفون المصلحين الآن بأقذع الشتائم بدعوى الدفاع عن الكنيسة، بل لابد أنه كان حينها في مرمى أحجار الأتقياء الشتامين، لكنه حين صار قداسة البابا المعظم شنوده الثالث، دخل النظام وتربع على قمته، فسار بوعي أو بدون وعي سيرة أسلافه، ليصل به الحال إلى أن يقول باطمئنان "أنا الكنيسة والكنيسة أنا"، وإلى أن يتصور أو يدعي أنه "قبضة الحق"، ليذكرني بغريمه الراحل الرئيس المؤمن، الذي أراد أن يقود أمة ودولة حديثة بمفهوم "كبير العيلة"، وأن يتصدى للمعارضين "بمفرمة الديموقراطية"!!
اليوم الخامس: عجيب أمر هذا الشعب تلك العشرات من الرسائل الإلكترونية والمكالمات التليفونية اليومية، ذلك الكم الهائل من عبارات التأييد لما أكتب عن الكنيسة القبطية ولتيار العلمانيين الأقباط، كلها من أشخاص إما مصرين على انتحال اسم مستعار، أو يهمسون باسمهم الحقيقي، بعد أخذ الضمانات والتأكيدات بأن يظل طي الكتمان!! نفس هذا يحدث مع زملائي مؤسسي مؤتمر العلمانيين الأقباط، هذا غير مئات الآلاف أو الملايين ممن يجيدون التزام الصمت إيثاراً للسلامة!! ترى لو أن هذا العدد الهائل من الأقباط قد قرروا فجأة أن يعلنوا أسماءهم . . أن يقولوا ما عندهم دفعة واحدة، هم متفقون جميعاً على أمر واحد: أن الكنيسة لا تحتمل أن تبقى على حالها هذا طويلاً وإلى الأبد، لكنهم متفقون أيضاً على أن لا يتقدم أحد منهم، ليقول ما ينبغي عليه أن يقوله، ويفعل ما يتحتم عليه أن يفعله، ومتفقون على أن يتوجسوا وينافقوا بعضهم البعض، ربما في انتظار معجزة، فهذا شأن الأقباط!! ربما يحتاجون إلى مجرد دفعة هينة، بضع حصوات تضرب المياه الراكدة، تتدافع المويجات وتتداخل، ليبدأوا البوح والمصارحة، عندها سوف يكتشف الجميع أن الثقة التي يتحدث بها البابا وأعوانه في المجمع المقدس ثقة لا محل لها من الإعراب، وسيتضح أمام قداسة البابا ما كان يعرفه ويصر على تجاهله، من أن القطاع الأكبر من المجمع المقدس ومئات الكهنة يساندون العلمانيين ومشروعهم الإصلاحي. أمر عجيب أن نظل سجناء الخوف من بعضنا البعض. أمر عجيب أن يتصرف الإصلاحيون كأقلية مرتعدة، رغم أنهم الأغلبية الكاسحة. أمر عجيب أن نتوقف عند شعرة دقيقة، أن يقرر كل منا أن يحدث الآخر بما في قلبه وعقله، دون خوف أو تحسب. ربما هي دفعة صغيرة، بعدها يمكن أن تشرق شمس الحداثة على كنيستنا القديمة قدم الزمن!!
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يوميات علماني قبطي 2
-
سؤال العلمانية والمستقبل
-
الذئاب لا ترحم ولا تعي
-
قداستي وقداسة البابا
-
نحن نزرع الشوك
-
سيناريوهات تركية
-
الأقباط والاستقواء بالداخل
-
الليبرالية الجديدة تمتد شمالاً
-
الكنيسة والمسكوت عنه
-
إطلالة على مؤتمر العلمانيين الأقباط
-
الكنيسة القبطية والفوضى الخلاقة
-
حوار ولا جدوى
-
مرحباً بالعلمانية الدستورية
-
أوليجاركية نعم . . ديموقراطية لا
-
العلمانية هي الطريق
-
عفواً يا قداسة البابا
-
الوطن والمواطنة
-
المادة الثانية والخيارات الصعبة
-
المادة الثانية وهوية مصر
-
المراة والأقباط و-خيال المآتة-
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|