مؤرخ عراقي واستاذ جامعي / كندا
نعم، لابد ان يشارك كل العراقيين في بناء العراق الجديد في القرن الواحد والعشرين بعد كل ما تحقق من كوارث وخراب ودمار في كل جزيئاته وعندي قناعة كبيرة بأن العراقيين وهم المسكونون بعذوبة العراق قد غادروا تاريخا مروعا تحملوا كل غرائبه وعجائبه ليستقبلوا مرحلة من نوع آخر.. نأمل من صميم اعماقنا ان تكون افضل بكل المقاييس من المراحل السابقة في القرن العشرين، ولا اعتقد ابدا ان هناك شعبا قد عاني مثلهم ابدا وقد دخلوا اليوم تاريخا جديدا فاما ان يتشكّل بقوة وتسارع نحو تحقيق اي نوع من التقدم، واما ان يخوض في اتون دوامة عسيرة ربما يتأخر خروجه منها سنوات طوال أو لن يخرج لا سمح الله ! واعتقد ان كل انسان له وعيه وثقافته في العراق يشعر بأن تبدلا جذريا قد حصل في حياته وان تفكيره حول امنيات له قد تحققت لا يشكل في الحقيقة اي صدمة بالعجز بقدر ما يشكل اندفاعا للتصدي والبناء وسعي واضح لفهم ما اصاب العراق علي مدي العقود الاربعة الماضية حتي يحدث ما حدث ولم يزل عنفوان الاحداث بالغ الخطورة. والحقيقة، ان الانسان في العراق قد تحوّل اليوم من مصفق ومنافق ارعن وخرف ضنين ومقلد وخائف ولائذ بالصمت والرهبة تلاحقه الهواجس المرعبة الي انسان جديد من نوع جديد له مشروع مفكّر فيه، لأنه اخذ يحس بأنه يدخل من دون ان يشعر في تفاصيل كثيرة ليس عن الحاضر الملييء بكل المعاني والتشيؤات، بل سيبقي ذاكرة مشتعلة متوهجة عن الماضي العقيم الذي يحفل بكل موبقات الحياة اليومية الصعبة والقاهرة وخلال مرحلة عهد جائر تفنن قادته وادواته وكل مناصريه واصحابه باعتقال الحريات ووأد التفكير وارتهان الانفتاح واحتكار الابداع وتهميش المثقفين واسيجة الممنوعات وتثبيت المحرمات وتسلط مركزية مثقفي السلطة الاغبياء وسماجة الاعلام في شراء الذمم والاصوات وتفاهة تقاليد الخطاب الرسمي الذي ليس له غير الشوفينية وتمجيد القومية وتأليه القائد الرمز وتشويه التعليم من خلال التربويات الهشة والتي تعبد احاديته.. ولقد اضعف ذلك كله قيمة العراق في الثقافة الانسانية وقلل كثيرا علي امتداد السنين من قدرة العراق علي انتاج القوي البشرية الحية المشبعة بالحرية اولا وبالكفاءة ثانيا واسهم العهد السابق ويا للاسف في قهر الذهنيات والاذكياء والمساهمة بالضعف المتزايد للقوة الحديثة واغتيال اشكال التحديث السياسي والاجتماعي والثقافي..
مشروع حضاري عراقي جديد
انه غير كاف ان نتحدث عاطفيا من دون معالجة كل ركام السلبيات والاخطاء والمثالب التي خلفها العهد السابق وتعرية ماهيتها، من اجل مجابهة المستقبل بمشروع عراقي حضاري جديد لا يمكنه ان يبقي حبيساً لنظرة قومية شوفينية او دينية متعصبة او محلية ضيقة. ان العراقيين لهم خصوصياتهم الثقافية المبدعة والمدينية الاجتماعية الحضرية منذ ازمان طويلة وسحيقة في القدم ويكتشف ذلك كل من يتفحص تواريخهم وآثارهم وكل من يقرأ اشعارهم، وكل من يورد امثالهم الشعبية وازجالهم وكل من يمعن في سيرهم، او من ينقّب عن تقاليدهم او من يستكشف تراثهم الخصب او كل من يتعمق في فلوكلورياتهم وموسيقاهم ومقاماتهم.. او كل من يستحضر مجالسهم ومقاهيهم ودواوينهم.. وفكاهاتهم ونكاتهم واقصوصاتهم؟ او حتي منتدياتهم وكابرياهاتهم وسينماواتهم وحفلاتهم.. وكل من يرجع الي معارض فنونهم التشكيلية وابداعات عمالقتهم في الرسم والنحت والكرافيك..ومسارحهم وما انجزوه علي خشباتها من حداثة في النص وروعة في الاداء وتقنية الاخراج لفن القول؟ ثم الكشف عن ثقافة في السرد والقص والمقال والنثر؟ اتذكرون مطرباتهم في الايام الخوالي؟ فرقة الانشاد وابداعاتها ؟ والفرقة السيمفونية وجمالياتها؟ جرائد ومجلات قديمة كانت مثيرة وغنية بادبياتها المتنوعة ؟ من يتمكن ان يقف علي اسرارهم من خلال لغة العيون التي يتحدثون بها من دون كشف تلك الاسرار؟؟ وهل من يعيد امجاد اولئك العلماء والادباء الافذاذ الذين اسسوا ميادين العلم في مجمع وجامعات وكليات ومعاهد ومكتبات ومدارس ورياض اطفال؟؟ وهم يعشقون السفر والسياحة من اجل التناغم مع جغرافيات متنوعة في العالم ؟ واجمل ما لدينا تنوعاتنا، فمن ذا الذي يجهر بتلك العادات والتقاليد الثقافية التي تتميز بها كل بقعة عراقية معينة ملونة ؟
وصايا التقدم من اجل مشروع ثقافي عراقي في المستقبل
ان العراقيين لابد ان يعملوا اليوم بتنفيذ مشروعات ثقافية عالية المستوي مستخدمين تكنولوجيا العصر بكفاءة بالغة وان ترعي النخب تطوير اساس حياتها ونظرتها الي ذاتها كمحور مركزي عريق حتي وان كانت محدودة في التفاعل ومقيدة في الحركة من اجل ان يجد العراق نفسه بلدا متمحورا حول ذاته وهو ينتج ما عجز الاخرون عن انتاجه:
اولا: الثقافة المدنية: لتكن ثقافة العراقيين نموذجا منفتحا علي كل العالم في الشرق والغرب، ومن دون ان يتدخل او يتطفل رجال الدين او المذاهب الدينية علي حياة الثقافة، فالدين معتقد وفرائض تتميز بالسمو والتجلة ولا يمكن ان ينزل الدين الي حيث واقع الحياة الدنيا بكل تناقضات اشكالها ومضامينها.. وكما يجري علي رجال الدين يجري علي رجال السياسة.. وان تفصل الثقافة العراقية عن كل من الدين والدولة وتغدو معبرة فقط عن روح المجتمع ونزعاته ومشكلاته وطموحاته ومضامين اطيافه.. الخ وان تغدو وزارة الثقافة كمحرك سياسي وكراع نظامي موجه لكل ما ستتضمنه الثقافة العراقية في المستقبل بما فيها القوي الاعلامية. لقد نجح النظام السابق في جعل العراق وثقافاته: عالم مشتت بحكم سيطرة مركزيته الطاغية وارهابها الفكري، وضعيف سياسياً واجتماعيا وغير قادر علي تجميع قواه الإبداعية في اتجاه سبل الحداثة والتقدم. كما وان الاضطراب واضح في رقاعه المختلفة وبالخصوص في العاصمة والمدن الرئيسية الكبري والتي استرجعت حضوراً من اجترار الاحاديات والتراجعات الماضوية علي حساب التطور الداخلي في الأعماق.
ثانيا : شبكة المعلومات الدولية (= الانترنيت): مطلوب من العراقيين الانفتاح المباشر علي شبكة المعلومات الدولية من اجل المشاركة الحيوية والفاعلة فيها باللغة العربية والانكليزية وبعشرات بل بمئات والاف المواقع الالكترونية التي تخدم بالضرورة كل من الثقافتين العربية والبشرية، خصوصا عندما نعلم بأن المضامين العربية المتخلفة هي التي تسود اليوم علي شبكة المعلومات الدولية (= الانترنيت) باسم هذا الطرف او ذاك وكلها مضامين تراجعية وتقليدية وماضوية وتافهة متخلفة عن سيرورة الحياة المعاصرة التي تتميز بالتقدم والتخصص والابداع. واعتقد ان العراقيين اهلا لتلك السيرورة، فاذا ما نجحوا في منتجاتهم علي مدي خمس سنوات قادمة، فان دورا رياديا سيكون لهم في الثقافة العربية وتحولاتها نحو الافضل مقارنة بما هي عليه اليوم اذ تثوي اليوم في مراتع التقليد والسكونية والاستتباع والمتعة باجترار منتجات الماضي المتيبسة !
ثالثا : السياسة الاعلامية : ونأمل ان تخرج الثقافة الاعلامية العراقية ان تخرج نهائيا من اردية الدولة وسلطاتها الرسمية لتكون حرة طليقة ضمن ثوابت اخلاقية وحضارية ومعرفية خلاقة تسعي الي البحث عن الحقائق من دون ان تتدخل في شؤون الاخرين وتكون لها حياديتها وشفافيتها خصوصا وان من سيقودها لابد ان يتمتع برؤية واضحة للامور وان يكون بعيدا عن التقاليد الاعلامية العربية التي تسيطر اليوم علي كل الفضاء الاخباري والتقريري والحواري العربي.. ومن هنا، فان تأسيس هيئة عراقية اعلامية مستقلة مركزها العراق وتتوزع في كل انحاء العالم سيقود بالضرورة الي انجذاب الاخرين اليها والتأثر بافكارها وتطبيقاتها من اجل مستقبل جديد يسعي لمنح الحريات لكل البشر الذين يقطنون هذا الذي يسمونه منذ خمسين سنة بـ (الشرق الاوسط).
رابعا: المناهج الدراسية للمدارس والجامعات : ان من اهم متطلبات المرحلة القادمة، العمل علي تبديل كافة المناهج الدراسية العراقية وتحديثها كاملة في المدارس والجامعات بكل مراحلهما، فلقد ازدحمت مضامينها القديمة المستهلكة كلها بامثلة ونصوص واقوال واخبار وعبارات وفصول تمدح وتمجد الرئيس القائد.. ولقد كان مشروعا فاشلا في ترسيخ فكر وتراث بعثي شوفيني عند الجيل الذي ترّبي علي عهد صدام حسين وتمجيد بطولاته وحروبه علي حساب الجانب العلمي والادبي والسلوكي والاخلاقي، فلقد ادخل كل من الحزب والقائد سيطرتهما علي الحياة الاكاديمية في العراق وفرض مواد جامعية يتدارسها الجميع ويحاضر فيها المدرسون البعثيون فقط، من اجل جعل الولاء لكل من القائد وحزبه فقط علي حساب الجانب العلمي. وكثيرا ما سمعناهم يقولون بان الجانب النضالي اهم من الجانب العلمي !!
خامسا: المجمع العلمي العراقي : كنت قد نشرت مقالاتي الاحتجاجية ضده منذ سنتين وسمعت بأن احد البعثيين قد رد علي مقالتي ردا رخيصا وقت ذاك ! نعم، لقد انتقدت وضعية هذا المجمع وسياسة النظام التي جعلت من هذا المرفق العلمي الاعلي في البلاد كأي دائرة من دوائرها البعثية بالغاء مبدأ الانتخاب فيه، وفرض تعيين الرئيس والاعضاء، فجييء بكل المثقفين الحزبيين السلطويين ورؤساء الجامعات اعضاء فيه وهم ابعد ما يكونوا عن التخصصات المجمعية الموسوعية والمهارة اللغوية التعددية، وليعذرني بعضهم من معارفي واصدقائي وزملائي، ولكن ما داموا قد قبلوا طواعية ليكونوا مجمعيين معينين من دون اية انتخابات.. فلابد لهم ان يتقبلوا انتقاداتي ! لقد غدا المجمع العلمي العراقي وياللاسف، دائرة بعثية تستخدم لالقاء محاضرات حزبية يلقيها سعدون حمادي وامثاله ! واود ان اكشف بهذا الصدد ان المجمع المذكور منح عضوية الشرف لكتاب عرب مؤدلجين سياسيا ومتعاطفين مع نظام صدام حسين، امثال : محمد المسفر ومحمد عابد الجابري وغيرهما.. وهنا علينا ان ننادي بحل هيئة المجمع العلمي العراقي السابقة وانتخاب هيئته الجديدة بوسائل علمية حقيقية وبوساطة هيئة علمية دولية ليكون لمجمعنا دوره العلمي الحقيقي في الثقافة العربية والبشرية.
وأخيرا، اتمني ان تتحقق الخطوات الاولي في السنوات الخمس القادمة وحتي سنة 2009 لتكون للعراق نهضته الحضارية الجديدة من خلال تجديد وسائله وعناصره الثقافية ومناهجه الدراسية ومؤسساته الثقافية ومجمعه العلمي وتحديث كل مرافقه الاعلامية الحية. فيا ايها المسكونون بعذوبة العراق : هل من استجابة حقيقية لمثل هذه النداءات ؟ هل من تفعيل للمزيد من الرؤى ؟ انني واثق بأن الثقافة العراقية ستساهم في المستقبل مساهمة فعالة في الحياة المعاصرة .. وستمتلك ارادتها في تنمية الثقافة العربية من اجل المستقبل .