1: مفهوم التطهير العرقي
إذا كان الشكل الرئيسي للعنصرية يتجلى في محاولة الفصل العرقي بين الشعوب بادعاء التمايز النوعي والبنية البايولوجية وما إلى ذلك بين البشر ويشكل خطراً على العلاقات بين الشعوب, فأن أشكالاً وممارسات عنصرية أخرى لا تقل عنها خطراً برزت في حياة الشعوب المختلفة ومارستها النظم السياسية في أوروبا وفي غيرها من بلدان العالم, ونعني بها عمليات الصهر القومي والتطهير العرقي. فالدولة العثمانية مارست ذلك بشكل همجي مروع وعدواني صارخ إزاء الأرمن في تركيا خلال الحرب العالمية الأولى وراح ضحيتها مئات ألاف البشر, وكذلك إزاء الأكراد الأيزيدية في كردستان العراق وتركيا. كما مارستها الدولة الهتلرية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية في ألمانيا وفي المناطق التي احتلتها حينذاك, وراح ضحيتها الملايين من اليهود ومن السلافيين والغجر (الروما والسنتي) وغيرهم, إضافة إلى التمييز الفكري والسياسي الذي راح ضحيته عشرات ألاف الشيوعيين والاشتراكيين والمسيحيين الديمقراطيين. وتستهدف عمليات الصهر القومي الإجهاز على الإثنيات (القوميات) الأخرى وصهرها في "العرق" السائد أو القومية السائدة باعتبارها الأفضل من حيث النوعية والتكوين والثقافة وما إلى ذلك من أفكار غير علمية ومبتذلة ومعدية للجنس البشري, سواء كان ذلك في بلد واحد أم تجاوزها في فترات معينة إلى بلدان أخرى.
وظهرت عمليات الصهر القومي بشكل صارخ في الدولة العثمانية وتوجهت صوب كل الشعوب أو القوميات التي أصبحت تحت الهيمنة العثمانية وعانى منها العرب والكرد والآشوريين والكلدان والفرس وغيرهم. وكان الصهر القومي يستهدف إلغاء هوية السكان من النواحي القومية واللغوية والثقافية وتعميم اللغة والثقافة التركية, أي عملية تتريك قومية ولغوية وثقافية واسعة. ومست هذه العملية في أحيان غير قليلة الجانب الديني أيضاً. وحصل هذا أيضاً بالنسبة للدولة الفارسية حيث كانت الرغبة في تفريس كل الأقوام القاطنة في الدولة الفارسية جزء من سياسة الدولة الرسمية أو فرض المذهب الشيعي على السكان. كما أن الدولة الفرنسية سعت إلى ممارسة ذات السياسة في الصهر القومي الكامل وفرنسة العرب والأمازيغ فيها, إضافة إلى العزل القومي في الجزائر على نحو خاص ومارست أقسى أنواع العنف لتحقيق ذلك, وبالتالي ألحقت أضراراً فادحة وكبيرة بهذا الشعب إذ ما يزال يعاني من آثاره حتى اليوم.
وظهرت عملية مقاومة واضحة من جانب الشعوب الأخرى ضد عمليات التتريك أو الفرنسة بالنسبة لشعوب بلدان أفريقيا الشمالية واتخذت أبعاداً وصيغاً عنفية خطيرة. كما قاوم العرب والكرد والآشوريون والكلدان في العراق والمنطقة هذه السياسة أيضاً.
وإذ أبدت الشعوب العربية مواقف نضالية سليمة ضد عمليات التتريك أو غيرها, فأن القوى القومية التي تسلمت السلطة بعد إقامة الدول الوطنية فيها انتهجت سياسة تهدف إلى عمليات تعريب الشعوب أو الأقوام الأخرى التي تعيش في هذا البلد أو ذاك, كما حصل بالنسبة إلى بلدان شمال أفريقيا, حيث ما يزال سكان هذه المنطقة الأصليين من الشعب الأمازيغي يناضلون بعناد وصواب ضد محاولة فرض العروبة عليهم وضد انفراد اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية الوحيدة في تلك البلدان. ويصعب كما يبدو على القوميين اليمينيين الشوفينيين إدراك حق تلك الشعوب في أن تتحدث وتتعلم بلغتها الوطنية وتطور ثقافتها وتقاليدها ..الخ. وبالتالي, فأن مجموعات من القوى القومية التي ناضلت ضد سياسات التتريك والفرنسة أو غيرها, وكانت على حق كبير, تحولت إلى ممارسة نفس السياسة المكروهة التي مارسها المستعمرون ضدهم لفرض القومية واللغة العربية على الشعوب الأخرى التي تشاركهم البلاد.
ولا يكتفي البعض بعمليات الصهر القومي, عندما يعجز عن تحقيق نتائج مرضية له, بل يعمد إلى ممارسة سياسة أخرى تتلخص في أخلاء مناطق بكاملها من سكانها الأصليين وإسكان العرب مكانهم, كما جرى في العراق وفي مناطق غير قليلة من كردستان العراق, وخاصة كركوك, حتى سقوط النظام الاستبدادي المطلق في العراق. فهذه السياسة لا تختلف من حيث الجوهر عن السياسات العنصرية الأخرى فمضمونها الأساسي والمعين الأيديولوجي الذي تنهل منه واحد لا يتغير.
عند مراجعة تاريخ العراق الحديث وتطور الفكر القومي فيه منذ الثلاثينات من القرن العشرين سيجد الإنسان أمامه عدداً متزايداً من القوميين العرب الذين تبنوا الفكر القومي النازي السلفي والمتطرف, وبالتالي تبنوا عملياً أسس النظرية العرقية النازية ناسين تماماً الموقع المتخلف الذي حدده العنصريون النازيون للعرب الساميين, وهو موقع غير بعيد عن موقع اليهود الساميين وسكان أفريقيا السوداء. إذ أن العرق الآري كان له القدح المعلى في الذهنية العنصرية الألمانية والأوروبية عموماً. إلا أن الأفكار الأساسية التي هيمنت على عقول القوميين العراقيين وغيرهم من القوميين العرب المتطرفين الذين اصطفوا إلى جانب النازية, هي:
"أن العرب خير أمة أخرجت لناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر". وأن العرق العربي يحتل المستوى الأعلى والأرفع بين الأعراق, والدم العربي هو الأنقى بين دماء الشعوب, وينبغي أن لا يدنس, والتراث والثقافة العربية متقدمة على كل ثقافات العالم, وأن لهم وطن واحد يمتد من المحيط إلى الخليج وأمة عربية واحدة وعليهم أن يشكلوا جيشاً قوياً واحداً, وقائداً واحداً. ولم يتعلم هؤلاء كثيراً من دروس وعواقب النازية في ألمانيا أو الفاشية في إيطاليا أو العسكرية في اليابان.
ولكن القوميين الشوفينيين الجدد تعلموا من انهيار النازية درساً واحداً هو أن لا يكتفوا بالفصل العنصري, إذ لا يمكن تحقيقه, بسبب ما في الإسلام من آيات ضد هذا الفصل كما في الآية "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى", فتحولوا إلى عمليات الصهر القومي, وأن عجزوا عن تحقيق المطلوب, عندها يمكن اعتماد عمليات التطهير العرقي أو العنصري من مختلف المناطق المختلف عليها, وأن عجزوا عن ذلك أيضاً فلا بد من اعتماد عمليات الإبادة الجماعية بما يساعد على شل حركة الآخرين المناهضة لهيمنة العرب على الدولة والمجتمع ثم محاولة صهرهم من جديد في بوتقة القومية العربية.
2: كركوك وممارسة سياسات التطهير العرقي (التغيير الديموغرافي) والتعريب القسري
إن الإطلاع المعمق على تاريخ منطقة الشرق الأوسط, ومنها العراق, سيدرك الإنسان طبيعة وحجم المحن والمصائب التي جرتها على شعوب هذه المنقطة سياسات الاستبداد السياسي وتغييب الحرية والديمقراطية ومصادرة حقوق الإنسان والاستغلال والقهر الاجتماعي والتعصب القومي والتزمت الديني والمذهبي, إضافة إلى محاولات تتريك المجتمع في ظل الدولة العثمانية وأساليب التغيير الديموغرافي للمناطق المختلفة, بهدف الهيمنة عليها وابتلاعها كجزء من الدولة العثمانية. ومجازر الأرمن أو العمليات العسكرية ضد الآشوريين والأكراد الأيزيدية والأكراد بشكل عام ما تزال طرية في ذاكرة المجتمع العراقي. كما عانى العرب في فترات مختلفة من سياسات التتريك القسرية والقمعية للدولة العثمانية, وكانت من بين أبرز العوامل الدافعة للنضال والانفصال عن الدولة العثمانية والخلاص من سياساتها الثيوقراطية الرجعية والإقطاعية المستغلة والمتخلفة. ولكن العرب في التاريخ مارسوها أيضاً وفي فترات مختلفة, كما حصل في ظل الدولة الأموية وفي فترات معينة من عمر الدولة العباسية. ولم تكن تلك السياسات معبرة عن مصالح الشعوب وعن تعزيز علاقات الود والتآخي في ما بينها, بل كانت تعبر عن مصالح الفئات الحاكمة التي كانت تجسد بدورها ذهنية شوفينية أو عنصرية ورغبة في التوسع والاستعمار في آن واحد. وكانت في تعارض شديد مع مصالح وإرادة وكرامة تلك الشعوب التي كانت موضوعاً لتلك السياسات وعانت من جرائها. وكان المفروض أن يتعلم حكام المنطقة, ومنهم حكام العراق الملكي والجمهوري, من دروس الماضي وتاريخ الشعوب وأن يدركوا بأن مثل هذه السياسات لا يمكن أن يكتب لها النجاح, كما أنها لا تحمل للشعوب سوى المزيد من الضحايا والآلام الكثيرة غير المبررة وتقترن بنتائج كارثية على الشعوب وعلاقاتها المتبادلة.
وعند متابعة تاريخ المنطقة يدرك الإنسان بأن حكام هذه المنطقة لم يكونوا وحدهم الذين مارسوا هذه السياسات, إذ مارسها المستعمرون الجدد أيضاً الذين هيمنوا على مقدرات المنطقة مع نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية, إضافة إلى بشاعة الاستغلال الذي مارسوه في المنطقة ومنها العراق الملكي. فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى خروج المستعمرين الفرنسيين أولاً والمستعمرين البريطانيين ثانيا صادر هؤلاء حقوق الشعوب ورفضوا تنفيذ الوعود التي التزموا بها أمام شعوب المنطقة, ومنها الوعود التي أعطت للعرب والأكراد. ولم يكن هذا وحده, بل مارسوا سياسة زرع الألغام السياسية التي تفجرت فيما بعد وما تزال تحمل معها المحن والمصائب والكوارث لشعوب المنطقة, سواء كانت تلك الألغام في إطار كل دولة من تلك الدول التي أقيمت في أعقاب الحرب العالمية الأولى أم في ما بين دول المنطقة وعلى حدودها. وكان الهدف من وراء ذلك وما يزال يتمثل في قدرة تلك الألغام السياسية على فسح المجال لعودة الاستعمار بطرق شتى إلى المنطقة وفرض مصالحه الاقتصادية وهيمنته السياسية غير المباشرة عليها. وهو ما نراه اليوم واقعاً حياً مع السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين.
وإذا كانت هذه السياسة قد نفذت في حينها على الساحة الكردستانية عموماً وكردستان العراق التي نحن بصددها خصوصاً, وبشكل أخص لجزء من كردستان, ونعني بها كركوك, التي كانت في حينها مركزاً لولاية شهرزور الكردية التابعة للدولة العثمانية, إضافة لما حصل لسكان مدينة خانقين وغيرها من المناطق الكردية. وعندما وافق المحتلون البريطانيون على تعيين الشيخ محمود البرزنجي على رأس الحكم في السليمانية, رفضوا منحه السلطة على كركوك وحاولوا حصر سلطاته في السليمانية وحدها والتي رفضها الشيخ الحفيد عملياً وسعى إلى توسيعها, ولكنه عجز عن تحقيق ذلك بفعل الحملات العسكرية الظالمة التي قامت بها قوات الاحتلال البريطاني. والعديد من مراسلات الدبلوماسية البريطانية حينذاك تشير إلى النية في فصل كركوك مبكراً عن مناطق أخرى من كردستان, في حين جعل أربيل والسليمانية مرتبطتان معاً بقدر معين[1]. وتفاقم هذا السلوك البريطاني بعد البدء بالتنقيب عن النفط الخام والبدء باستخراجه وتصديره. إذ بعد أن حصلت الشركات الاحتكارية الأجنبية على امتياز التنقيب والاستخراج والتصدير, سعت إلى تشغيل عدد متزايد من غير الأكراد في المنطقة, وخاصة من العرب والأرمن والآشوريين والكلدان والتركمان, في حين تجنبت تشغيل عدد مناسب من الأكراد. وكان عدد الأكراد العاملين في الشركة يأتي بالدرجة الأخيرة[2], في حين أنهم من أصل أبناء المنطقة أو المدينة واللواء أساساً. ولم يكن هذا الموقف بمعزل عن موقف الحكومة العراقية التي كانت ترغب في ذلك, خاصة وأن نضال الشعب الكردي في سبيل الحصول على حقوقه المشروعة لم يتوقف خلال تلك الفترة. وهكذا تواصلت هذه السياسة من جانب النظم العراقية المتعاقبة التي نحن بصدد البحث فيها.
تؤكد الكتب والدراسات القديمة والحديثة التي تعرضت لأحوال المنطقة التي يسكنها الأكراد والتي ندعوها منذ فترة طويلة بكردستان, سواء كان هؤلاء الكتاب من الترك العثمانيين أو من العرب أو من الفرس أو من الكرد أنفسهم, إضافة إلى الرحالة والمستشرقين الأجانب, بأن كركوك كانت وما تزال تشكل جزء من إقليم كردستان وأن غالبية سكان هذا الإقليم هم الأكراد, إضافة إلى وجود التركمان والكلدان والآشوريين, وفيها قلة من الأرمن والعرب. كما أن مدرسي الجغرافية العرب عندما كانوا يتحدثون عن هذه المنطقة كانوا يشيرون إلى كركوك باعتبارها إحدى المدن الكردية الضاربة بالقدم, كما هو حال مدينة أربيل أو خانقين[3].
وإذا عدنا إلى التقديرات السكانية التي سبقت الإحصاء الرسمي لعام 1947 سنجد بأن تقديرات اللجنة التي شكلتها عصبة الأمم تشير إلى أن أغلبية سكان كركوك هم من الأكراد, وكانت على النحو التالي, كما جاءت في أكثر من مصدر.
جدول 1
تقديرات لجنة عصبة الأمم حول توزيع السكان الأكراد في عام 1925 في
ولاية الموصل وقبل إلحاقها بالعراق الملكي (عدا الأكراد الفيلية*)
اللواء
عدد الأكراد/نسمة
نسب توزيعهم%
لواء الموصل
83000
16,9
لواء أربيل
170650
34,7
لواء السليمانية
189900
38,7
لواء كركوك
47500
9,7
المجموع
491050
100,0
قارن: محمد, خليل إسماعيل د. دراسات في التكوين القومي للسكان:إقليم كرد العراق. ط 2. مطبعة صلاح الدين. أربيل. 1998. ص 54.
قارن أيضاً: الأنصاري, فاضل د. مشكلة السكان: نموذج القطر العراقي. منشورات
وزارة الثقافة والإرشاد القومي. دمشق. 1980. ص 24.
قارن أيضاً: زكي, محمد أمين. خلاصة تاريخ الكرد وكردستان. مطلعة السعادة. القاهرة. 1935. ص 28.
* لا بد من الإشارة إلى أن الأكراد الفيلية الذين عاشوا في بغداد وفي مناطق أخرى حينذاك لم يخلوا في تقديرات السكان الأكراد, إذ كان التقدير موجهاً لمعرفة مصير تلك المدن الكردية في ضوء غالبية سكانها, والذي لم ي}خذ بنظر الاعتبار. ولهذا لا بد من إضافة نسبة أخرى ليصبح العدد صحيحاً, كما لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار أن نسبة غير قليلة من السكان الأكراد الرحل لم يدخلوا في هذا التقدير, ولهذا قدر الأستاذ محمد أمين زكي بأن سكان الأكراد في كردستان العراق بقدر حينذاك ب 600000 نسمة.
وخلال الفترة الواقعة بين هذا التقدير السكاني وبين الإحصاء العام الرسمي في العراق في عام 1947 وقعت الكثير من الحوادث التي كان لها تأثير مباشر على حركة السكان الأكراد في مدينة كركوك والتي يمكن إجمالها بعدة قضايا أساسية, منها:
** توجه شركات النفط الاحتكارية وبالتنسيق المباشر مع الحكومة العراقية إلى زيادة عدد العاملين من غير الأكراد في مقر الشركة في كركوك وفي حقوق التنقيب عن النفط واستخراجه في المنطقة. وكان لهذا العامل دوره إذ أن زيادة العاملين يعني جلب المزيد من العوامل غير الكردية إلى المنطقة. وكان لهذا أثره السلبي على السكان, خاصة وأن الآخرين من غير الأكراد قد حصلوا على دور للسكن شيدتها الشركة, في حين حرم منها الأكراد. ولا بد من الإشارة أن البطالة بين الأكراد كانت في حينها واسعة, وبالتالي كان المفروض تشغيل أبناء المنطقة أولاً.
** بدء الحكومة العراقية بإقامة مشروع ري سهل الحويجة وتوطينه بالعشائر العربية بدلاً من العشائر الكردية والتركمانية التي هي من المنطقة ذاتها. وقد أسكنت الحكومة العراقية في هذا المنطقة عشائر العُبيد والجبور, إضافة إلى عشيرة ألبو حمدان التي استقرت "في المنطقة الواقعة بين نهر الزاب الصغير والطريق العام بين الحويجة وكركوك, وأقاموا في (14) قرية تبلغ مساحتها مائة كيلومتر مربع.. "[4]. ويواصل الدكتور نوري طالباني, وهو من أبناء المنطقة, يقول: "وقد بلغ مجموع أفراد العشائر العربية المتوطنة في ناحية الحويجة (27705) نسمة بموجب إحصاء عام 1957"[5]. وقد تم ذلك في أواسط الثلاثينات من القرن العشرين.
** الأحداث التي وقعت في كركوك من جراء الصراعات التي أججتها قوى مختلفة مغرضة, وخاصة شركة النفط العراقية في عام 1924, إضافة إلى التركة الثقيلة التي خلفتها الدولة العثمانية في كركوك بشكل خاص بسبب دورها في تأجيج الصراعات القومية. وكان السكان الأكراد والتركمان والكلدان أو غيرهم ضحية لتلك الصراعات وقادت إلى أن قسماً من هؤلاء ومنهم الأكراد إلى الهجرة إلى بغداد أو إلى المدن الكردية الأخرى. ووقعن في عام 1946 أحداث الإضراب العمالي في شركة النفط الأجنبية وهجوم الشرطة العراقية على العمال المجتمعين في كاورباغي, والتي سميت فيما بعد بمعركة كاورباغي, حيث استشهد العديد من عمال النفط العراقيين. رغم أن هذا الحادث لم يترك أثراً سلبياً على الأكراد أو غيرهم إذ أعطى صورة عن وحدة النضال من جهة, وعن الأساليب التي يمكن أن تنتهجها السلطة العراقية دفاعاً عن مصالح شركات النفط الأجنبية من جهة أخرى.
** وعلينا أن لا ننسى بأن السلطات الحكومية لم تكف عن مواجهة نضالات الشعب الكردي في سبيل نيل حقوقه القومية المشروعة, سواء في العشرينيات أو الثلاثينات وما بعدها أيضاً والتي كتبنا عنها في مواقع أخرى من هذا الكتاب, والتي ساهمت في ابتعاد كثرة من الأكراد لأسباب كثيرة عن منطقة كردستان والعيش في مدن عراقية أخرى أو الهجرة إلى إيران تخلصاً من اضطهاد الحكم.
وكان لهذا الواقع تأثيره على التغير النسبي في بنية السكان في كردستان وكركوك وفق إحصاء عام 1947, والذي يمكن أن نراه في الجدول التالي:
جدول 2
توزيع السكان الأكراد في العراق في عام 1947
اللواء
عدد نفوس الأكراد
نسبتهم إلى مجموع الأكراد
نسبتهم إلى مجموع المحافظة
الموصل
210920
23,5
35,4
أربيل
218995
24,3
91,3
السليمانية
222700
24,8
98,4
كركوك
151575
16,8
53,0
ديالى
72360
8,0
26,6
بقية الألوية
23400
2,6
0,7
المجموع
899950
100,0
18,7 *
المصدر: قارن: محمد, خليل إسماعيل د. دراسات في التكوين القومي للسكان. مصدر سابق. ص 54.
* تشير 18,7 % إلى نسبة السكان الأكراد إلى مجموع سكان العراق, علماً بأن غالبية الإحصاءات لا تعتبر الأكراد الفيلية ضمن أكراد العراق,, إذ إما يحسبون تبعية فارسية عراقية أو إيرانيين في العراق. وهذا الموقف بعيد عن الواقع ومخالف له.
رغم العوامل التي أشرنا إليها سابقاً حافظ الأكراد على تفوقهم النسبي في كركوك أيضاً إذ بلغت نسبتهم 53 % من إجمالي السكان, أي أكثر من مجموع التركمان والكلدان والآشوريين والأرمن والعرب القاطنين في المدينة. وليس فسي هذا أي تقليل من أهمية الآخرين, ولكن النسبة تعبر عن قدم وأكثرية السكان الأكراد في اللواء. وخلال الفترة الواقعة بين 1947-1957 يشير الإحصاء الرسمي إلى تقلص نسبة السكان الأكراد في كركوك لصالح بقية القوميات, وهو تعبير عن تلك السياسة التي مارستها الشركات البترولية من جهة والحكومات العراقية المتعاقبة من جهة أخرى لتغيير البنية السكانية في هذه المدينة لصالح السكان العرب. ويمكن أن نلاحظ المقارنة بين عامي 1947 و1957 في الجدول التالي:
جدول 3
نسبة السكان الأكراد إلى مجموع سكان كركوك
السنة
نسبة السكان الأكراد في كركوك %
1947
53,0
1957
48,3
قارن: محمد, خليل إسماعيل د. دراسات في التكوين القومي للسكان. مصدر سابق. ص 58.
إن تراجع نسبة السكان الأكراد إلي مجموع سكان لواء كركوك جاء في صالح زيادة نسبة السكان العرب بالدرجة الأولى وارتبط بالترحيل إلى منطقة الحويجة أولاً, وإلى مدينة كركوك بالذات, باعتبارها مركز اللواء, خاصة وأن الجماعات التي وصلت في أواسط الثلاثينات قد حققت نسبة نمو عالية بسبب زيادة كبيرة في الولادات الجديدة بين العوائل العربية التي بدأت تعمل في الزراعة بالارتباط مع مشروع ري الحويجة.
3. دور شركات النفط في أحداث كركوك عام 1959.
وفي أعقاب ثورة تموز 1958 نشأ صراع عنيف بين القوى السياسية العراقية وانتقل منها إلى صفوف الجماهير من مختلف القوميات وأدى إلى نشوب نزاعات قاسية لعب القادة العسكريون ومحافظو المدن دوراً بارزاً في تأجيج تلك الصراعات وخاصة الجماعة القومية العسكرية ومنهم ناظم الطبقجلي. وأدى هذا الصراع, وبالارتباط مع التقلبات التي عرف بها عبد الكريم قاسم خلال تلك الفترة وتوجهه بالمحصلة النهائية ضد الحركة التحررية التي كان يقودها الملا مصطفى البارزاني وضد اليسار العراقي والحزب الشيوعي العراقي, وإلى ارتكاب أخطاء فادحة من جانب جميع القوى السياسية العراقية, بما فيها قوى اليسار ومنها الحزب الشيوعي العراقي, إلى وقوع اعتداءات ونشوب اقتتال وسقوط ضحايا كثيرة, مما أصبح من الصعب على عائلات كردية غير قليلة البقاء في المنطقة, وأجبروا عملياً على النزوح إلى مناطق أخرى من العراق. وبعد عبد الكريم قاسم بدأت وبشكل جدي تكريس سياسة تعريب المنطقة, وخاصة مدينة وبالتالي لواء كركوك. وكانت هذه السياسة رسمية تمارسها الحكومات العراقية التي تقودها القوى البعثية/القومية ثم القومية ثم البعثية ثانية دون تردد أو مخاتلة في الداخل ومبطنة على المستوى الدولي. وكانت تحقق إلى حدود غير قليلة ما كانت تسعى إليه تلك القوى القومية اليمينية والمتطرفة. واتخذت هذه السياسة أبعاداً جديدة وواضحة ومعادية للأكراد في مختلف بقاع كردستان وخاصة كركوك. لهذا كان لا بد من بذل جهود استثنائية لرفض سياسة الحكم الشوفينية والتصدي لها, وخاصة في أعقاب مجيء البعث ثانية للسلطة في تموز/ يوليو من عام 1968. وخلال هذه الفترة حدثت الكارثة الكبيرة التي عصفت بالحركة التحررية الكردية المسلحة في عام 1975, في أعقاب عقد اتفاقية الجزائر. وقد هربت قوى كثيرة من كردستان متوجهة إلى مناطق مختلفة خارج العراق أو رحُّلت إلى مناطق أخرى في العراق أو وضعت في مجمعات سكنية بائسة. وشمل ذلك جميع أرجاء كردستان العراق. وتجلى كل ذلك, إضافة إلى الضغوط التي مورست على السكان لتسجيل أنفسهم على أساس أنهم من القومية العربية, في الإحصاء لعام 1977. ويمكن للجدول التالي توضيح هذا الاتجاه في التغيير السكاني. ويفترض أن نلاحظ وجرياً وراء محاولات التغيير القومي للواء كركوك أن عمد النظام إلى تغيير أسم محافظة كركوك إلى محافظة التأميم, بعد أن كان قد صدر قراراً بتأميم مصالح شركات النفط الأجنبية في العراق في عام 1972.
جدول 4
التوزيع النسبي لسكان محافظتي ديالى والتأميم (كركوك)
بالنسب المئوية لعامي 1957 و1977 (%)
القومية
محافظة ديالى
محافظة التأميم (كركوك)
1957 1977
1957 1977
العرب
79,3 87,4
28,2 44,4
الكرد
18,2 10,8
48,3 37,6
التركمان
2,2 1,4
21,4 16,3
الآخرون
0,3 0,4
2,1 1,7
المجموع
100,0 100,0
100,0 100,0
المصدر: قارن: محمد, خليل إسماعيل د. دراسات في التكوين القومي للسكان. مصدر سابق. ص 58.
والجدول يشير بما لا يقبل الشك إلى أن النظام أبدى اهتماماً خاصة بتغيير البنية السكانية لمحافظتين كانت نسبة السكان الأكراد عالية فيهما باعتبار الأولى كردية تماماً والثانية فيها قسم كردي وآخر عربي. وفي هاتين المدينتين بالذات تراجعت نسبة السكان الأكراد بالمقارنة مع السكان العرب, كما تراجعت نسبة السكان التركمان إلى السكان العرب. وهذا يدل على أن عملية التغيير في البنية القومية للسكان لم تكن موجهةً ضد الأكراد فحسب, بل كانت ضد التركمان أيضاً, وهي حقيقة يشير إليها الجدول بوضوح.
إن عمليات التغيير السكاني للمناطق التي كان وما يزال يريد النظام اعتبارها عربية جارية على قدم وساق منذ المجيء الأول للبعث المتحالف مع القوى القومية إلى السلطة في عام 1963, ثم تواصل بعد مجيء القيادة القطرية لحزب البعث (جناح عفلق - صدام) إلى السلطة ثانية في عام 1968. فما هي الإجراءات التي مارسها المستبدون لتأمين هذا التغيير القومي للسكان في تلك المناطق, ولكن بشكل خاص في محافظة التأميم (محافظة كركوك سابقاً).
إن تتبع سياسات النظام العراقي إزاء كردستان عموماً ومحافظة كركوك خصوصاً تساعد على تحديد ما يلي:
[حدد النظام العراقي بقيادة حزب البعث استراتيجيةً محددةً وثابتةً تهدف في محصلتها النهائية تعريب مناطق معينة من كردستان, وخاصة محافظة كركوك, بعد أن أدركوا استحالة تعريب كل كردستان أو إفناء الشعب الكردي. ووضعت لهذا الغرض مجموعة من الإجراءات التكتيكية ضمن خطة تنفذ على مراحل بحيث لا تثير ضجة إقليمية أو دولية واسعة أولاً, وتسمح باستخدام كل الأساليب والأدوات التي تراها ضرورية لتحقيق ذلك ثانياً, وتجنيد حزب البعث والمنظمات المهنية التابعة له والجيش العراقي والشرطة وأجهزة الأمن والاستخبارات العسكرية والقوات الخاصة للمشاركة في هذه العملية, إضافة إلى توظيف أجهزة الإعلام وبقية أجهزة الدولة لهذا الغرض.]
وتضمنت الخطة ذات المديات البعيدة والمتوسطة والقريبة الإجراءات التالية التي نفذت فعلاً خلال الفترات المنصرمة وخاصة بعد تسلم حزب البعث للسلطة في عام 1968:
· احتلال قياديي وكوادر البعث المتقدمين من مدنيين وعسكريين لمراكز المسؤولية الأساسية في محافظة كركوك وفي الأقضية المختلفة ابتداءاً من المحافظ وقائد القوات العسكرية والشرطة وأجهزة الأمن والاستخبارات في كركوك. وهم من العرب حصراً.
· إبعاد المعلمين والمدرسين وكبار ثم صغار الموظفين الأكراد أولاً, والتركمان فيما بعد, من مراكز المسؤولية ودوائر الدولة ونقلهم أو إبعادهم إلى مناطق في وسط وجنوب العراق أو نقل بعضهم إلى مناطق أخرى من كردستان العراق, بحيث لم يعد بعد فترة وجيزة وجود أكراد حقاً في دوائر الدولة المختلفة في محافظة كركوك, وليس في مدينة كركوك وحدها. كم يتم الامتناع عن توظيف أكراد جدد في مختلف وظائف الدولة, بحيث يجبر الكردي من هذه المحافظة على التفتيش عن وظيفة أو عمل خارج المحافظة.
· إقامة شبكة متوازية ومتشابكة من التنظيمات الحزبية البعثية والتنظيمات "الشعبية" والنقابات وأجهزة الأمن التي هدفها وضع الأكراد بالدرجة الأساسية والتركمان أيضاً تحت مضايقة وضغط وتهديد هذه الأجهزة ودفع المواطنين إلى الخروج من محافظة كركوك وتنشيط العرب للعمل ضدهم. إضافة إلى بث العيون والمخبرين للحصول على معلومات عن المواطنين وتعريضهم للمضايقة والاعتقال.
· إجبار السكان على تسجيل أنفسهم عرباً ومن ثم الدخول في حزب البعث. عندها يمكن فرض القرارات التي يريدها البعث عليهم, بما فيها الهجرة إلى مناطق أخرى من العراق. ويجري تتبع المواطنين في المحلات ومواقع العمل أو الأسواق التجارية حيث يفرض عليهم إملاء الاستمارات بين فترات متقاربة. وفي حالة الخطأ أو التباين في الاستمارات تعرض المواطنة أو يعرض المواطن نفسه إلى عقوبات شديدة.
· تكليف أجهزة الدولة المختصة بشؤون المقاولات والبناء والشركات الأجنبية العاملة في العراق والقطاع الخاص العراقي بإنشاء عدد كبير جداً من الوحدات السكنية وأحياء سكنية كاملة على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. وخلال تلك الفترة أمكن إقامة عشرات الأحياء وآلاف الوحدات السكنية والمدارس والمستوصفات وفتح الشوارع حيث تم استقبال تدريجي للعرب "الوافدين" إليها بدفع من النظام.
· شراء عدد كبير من الدور العائدة للأكراد من قبل العرب ومنع بيعها إلى غير العرب, سواء تم ذلك بدفع مبالغ عالية أو تحت التهديد أو الاعتقال والسجن والإعدام ثم المصادرة للبيت أو عبر التهجير الإجباري للأفراد والعوائل.
· حرمان الأكراد من حق شراء العقارات ودور السكن في محافظة كركوك.
· تقديم الامتيازات الكبيرة والعمل والرواتب العالية لمختلف الفئات الاجتماعية, وخاصة العشائر العربية, التي نقلت وسكنت في مدينة كركوك أولاً, وبقية أقضية المحافظة ثانياً. ويقدر عدد المرحلين إليها بعشرات الآلاف خلال السنوات المنصرمة.
· إعاقة معاملات المواطنين الأكراد في مختلف دوائر الدولة بما يحول حياة السكان إلى جحيم لا يطاق ويجبرهم على التفكير بالرحيل ثم الرحيل الفعلي عن المحافظة. ومن ينتقل لفترة معينة من محافظة كركوك لا يسمح له بالعودة إليها, إذ يشطب قيده منها وإلى الأبد.
· منع تعيين الأكراد لا في وظائف الدولة فحسب, بل حرمانهم من أي فرصة عمل في أي مؤسسة أو معمل أو فتح دكان له.
· نقل مركز المحافظة وبقية دوائر الدولة الرئيسية من المنطقة الكردية في القسم القديم من مدينة كركوك إلى القسم المعرب منها, إلى "عرفة"[6], حيث بنيت فيه أحياء جديدة استوطنها العرب الذين رحلوا إليها من القسم العربي من العراق.
· القيام بتدمير بيوت الفلاحين على نطاق واسع شمل عدداً كبيراً من القرى الكردية في نواحي محافظة كركوك.
· تدمير المدارس والجوامع بحيث لم تعد تصلح للسكن. وأجبر سكان هذه القرى على الهجرة إلى مناطق أخرى من العراق أو الهرب إلى المدن الكردستانية الأخرى. والمعلومات المدققة تشير إلى أن الحكم الاستبدادي قام في عامي 1987 و1988 بتدمير 799 قرية و493 مدرسة و598 مسجداً و40 مستوصفاً, كما هجر 37726 عائلة فلاحية. وبلغ مجموع الأفراد الأكراد الذين رحلوا من مركز قضاء كركوك ودبس وكفري وجمجمال وحدها وخلال هذين العامين 136008 نسمة[7]. ووفق المعلومات التي أوردها السيد الدكتور نوري طالباني فأن الحكم الصدامي حتى عام 1989 تسنى له "تدمير (3839) قرية, كانت تضم (1757) مدرسة و(2457) مسجداً و(271 مستوصفاً, وأن مجموع عدد العوائل المرحلة قد بلغ (219828) عائلة معظمها فلاحية[8]" في كردستان العراق. وهذا يعني أن حصة محافظة كركوك أو التأميم كانت 20,3 % من القرى و28,1 % من المدارس و24,3 % من المساجد, و14,8 % من المستوصفات المدمرة و17,2 % من العوائل المهجرة. علماً بأن عدد القرى والمدارس والجوامع والمستوصفات المدمرة والعوائل المهجرة قد ارتفع بعد ذلك, وخاصة في أعقاب غزو الكويت وحرب الخليج الثانية وانتفاضة الشعب الكردي, وكذلك بعد أن استفراد النظام بمدينة كركوك والعديد من النواحي التابعة لها. لم تكن عمليات الترحيل تجري بصورة سرية, بل كانت تقوم بها دوائر الدولة الرسمية وعبر كتب رسمية صادرة عن إدارة المحافظات أو مديريات الشرطة والتي تتم كلها بالتعاون والتنسيق الوثيقين مع أجهزة حزب البعث والأمن الداخلي. ويبدو مفيداً إيراد نماذج من هذه الوثائق الخاصة بترحيل الأكراد من مناطقهم الكردية في محافظة كركوك, (لدينا كمية كبيرة من الكتب الرسمية الصادرة عن الجهات الحكومية في العراق التي تقرر فيها ترحيل عشرات آلاف العوائل الكردية من مدنهم الكردية إلى مناطق عربية), إلى المناطق العربية لإسكانهم بالرغم منهم. فالكتاب الصادر عن محافظة الأنبار إلى قائمقامية قضاء الرمادي برقم 2700 بتاريخ 5/4/1995 وموضوعه ترحيل عوائل جاء فيه ما يلي: أرسلت إلينا محافظة التأميم /ش . د / بكتابها 1852 في 30/3/1995 العوائل المدرجة أسمائهم أدناه والبالغ عددها (16) ستة عشر عائلة لاستلامهم وتأمين السكن اللازم لهم وإعلامنا. عبد الستار محمد دله علي نائب محافظ الأنبار. وفي ذيل الكتاب يرد أسماء العوائل المرحلة من محافظة كركوك لغرض توزيع إسكانهم في الرمادي وفلوجة [9]. وكتاب "سري للغاية وشخصي" صادر عن شعبة المراسلات السرية في محافظة التأميم العدد /س1/8231431 صادر بتاريخ 13/7/1998 موجه إلى قيادة فرع التأميم لحزب البعث وموضعه إرسال مرحلين. يتضمن الكتاب 545 عائلة من الشورجة وحي العسكري وطريق بغداد والحرية وإسكان وحي الوسطى وحي حيران ومصلى وإمام قاسم وحي العسكري رقم 1 وحي الخضراء. ويشير الكتاب إلى أسماء مختاري تلك الأحياء وأسماء الحزبيين المسئولين مباشرة عن تنفيذ عملية الترحيل. والكتاب موقع من الرائد عبد الرزاق أسعد الطيار, ضابط شعبة المراسلات السرية لمحافظة التأميم, أي محافظة كركوك[10]. وهناك كتاب سري نموذجي آخر صادر عن قيادة فرع المقداد/قيادة شعبة خانقين لحزب البعث العربي الاشتراكي موجه إلى قيادات الفرق كافة وموضوعه ترحيل العوائل الكردية وتحت شعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" و"بسم الله الرحمن الرحيم" العدد /15/س ش/3351 بتاريخ 3/12/1998 جاء فيه ما يلي:
"تحية رفاقية
إلحاقاً بكتابنا سري وشخصي 3345 في 2/12/1998 ناقشت قيادة شعبة خانقين في اجتماعها المنعقد بتاريخ 3/12/1998 موضوع ترحيل العوائل الكردية الذين لديهم أولاد مع المخربين وخارج القطر. عليه قررت قيادة الشعبة القيام بالجرد لتلك العوائل من قبل الرفاق أعضاء قيادات الفرق وبشكل هادئ راجين التفضل بالإطلاع وتزويدنا بأسماء العوائل المشمولة من القومية الكردية فقط وفق النموذج أدناه على أن تصلنا القوائم خلال ثلاثة أيام اعتباراً من تاريخه أعلاه .. مع التقدير ودمتم للنضال. (التوقيع) الرفيق عبد المطلب كامل حسن, أمين سر قيادة شعبة خانقين 3/12/1998"[11]. ويتضمن النموذج طلب معلومات عن أسم رب الأسرة, أسم الهارب, أفراد الأسرة بالاسم, السكن الحالي, الدار ملك أم إيجار, جهة الهروب, موقف الهارب من الخدمة, ملاحظات عن رب الأسرة والهارب[12].
وقام النظام بتمزيق محافظات كركوك وربط بعض أقضيتها بمناطق أخرى بهدف تخليتها من الأكراد كلية. فوفق المعلومات المتوفرة قام النظام في عام 1976 بإلحاق قضائي جم جمال وكه لار بمحافظة السليمانية,, وألحق قضاء كفري بمحافظة ديالى, ثم ألحق قضاء طوزخورماتو بمحافظة صلاح الدين (تكريت)[13]. وفي ضوء ذلك أصبحت محافظة كركوك تشتمل على قضائي الحويجة وقضاء دبس المستوطنين من قبل العرب[14]. في حين ضم لواء كركوك في عام 1962, وفق ما جاء في "الموسوعة الإحصائية عن التقسيمات الإدارية في الجمهورية العراقية", الأقضية التالية: قضاء كركوك, وهو مركز اللواء أيضاً (وضم خمس نواحي هي تازه خورماتو, قره حسن, التون كوبري, شوان ودبس), وقضاء كفري, (وضم ثلاث نواحي هي بيباز وقرة تبه وشيروانة). وقضاء جمجمال, (وضم ناحيتين هما أعجة لرو وسنكاو), وقضاء طوز, (وضم ناحيتين هما قادر كرم وداقوق), وثم قضاء الحويجة, (وضم ناحيتي الحويجة والرياض)[15].
ثم بدأ النظام ومنذ سنوات طويلة بتغيير أسماء النواحي والقرى والشوارع في محافظة كركوك ابتداءاً من محافظة كركوك وتسميتها في عام 1972 بمحافظة التأميم, وإعطاء أسماء عربية للأحياء الجديدة التي أقامها النظام.
وجدير بالإشارة إلى أن النظام العراقي حوَّل إقليم كردستان ولسنوات طويلة إلى منطقة عسكرية مليئة ومحاطة بالقلاع العسكرية المنتشرة على نطاق واسع, إضافة إلى مئات الربايا العسكرية ومراكز الشرطة. وكان أغلب العاملين فيها من العرب. كما عمد إلى تسليح العشائر العربية لتكون على أهبة الاستعداد لمواجهة نضالات الشعب الكردي أو لمواجهة رفضه وتصديه لما تقوم به الحكومة من إجراءات ظالمة بحق شعب إقليم كردستان.
وفي ذات الوقت قام بتسليح مجموعات من الأكراد الموالين لنظام الحكم وضد الشعب الكردي. وإذ كان النظام يطلق عليهم "الفرسان", فأن الشعب الكردي كان يسميهم ب (الجاش), أي الجحوش. وكان النظام يزودهم بالسلاح والأموال ويشكلون رديفاً للجيش العراقي في حملاته العسكرية ضد حركة التحرر الكردية وقوات البيشمركة/الأنصار.
إن ما أشرنا إليه في أعلاه وإجراءات تعسفية كثيرة أخرى اتخذها النظام في كردستان وفي محافظة كركوك نبعت كلها من ذهنية عنصرية توسعية كانت ترفض الإقرار بحقائق الأمور والتعامل الإنساني معها. إذ من غير المعقول وغير الإنساني تغيير ديموغرافية مدينة ومحافظة بكاملها وتهجير سكانها الأكراد أولاً والتركمان ثانياً وتوطين عشائر عربية فيها, في وقت كان بالإمكان الاعتراف بكون المدينة جزء لا يتجزأ من إقليم كردستان, وأن سكانها الأكراد والتركمان والعرب والآشوريين وغيرهم يعيشون فيها بصورة متآخية, كما هو حال الكثير من مدن العالم التي تتميز بتعدد القوميات فيها وتنوع الثقافات, ولكن لا يمنع من الاعتراف بكونها تابعة لإقليم معين, كما هو حال محافظة كركوك (التأميم) التابعة لإقليم كردستان العراق. كما لا يمنع هذا من تمتع القوميات الأخرى غير الكردية, ومنها التركمانية والعربية والآشورية مثلاً بحقوقهم الثقافية والإدارية في المناطق التي تعيش فيها.
4. موقف الشوفينيين العرب من الشعب الكردي بعد سقوط النظام
إن سقوط النظام العراقي وفر أرضية صالحة لمعالجة المسالة الكردية كلها وفق المفاهيم والقيم الإنسانية والحضارية والدولية المعترف بها عالمياً ومن جانب الأمم المتحدة, إضافة على اللوائح الخاصة بحقوق الإنسان.
والحل الأمثل للمسالة الكردية في إطار الدستور العراقي الجديد الذي يراد وضعه واستفتاء الشعب عليه يتمثل في عدد من المبادئ الأساسية التي لا يجوز التخلي عنها أو الإساءة إليها وأهمها:
أولاً: الاعتراف الكامل بحق الشعب الكردي وحريته في تقرير مصيره. وهي مسألة غير قابلة للمساومة لأنها قضية مبدئية ثابتة.
ثانياً: إقرار الاختيار الحر والمستقل للشعب الكردي في إقامة فيدرالية كردستانية ضمن الجمهورية العراقية الاتحادية الديمقراطية.
ثالثاً: الاعتراف بوجود شعبين في العراق وأقليات قومية, وأن الشعب الكردي يعيش من حيث المبدأ في إقليم كردستان العراق وأن الشعب العربي يعيش في المنطقة العربية, إضافة على وجود أقليات قومية تعيش في هذين الإقليمين. ولا بد من وضوح الرؤية في أن كردستان العراق لا تشكل جزء من الأمة العربية أو الوطن العربي, كما يحاول القوميون الشوفينيون تكريسه, بل هي جزء من كردستان, وأن القسم العربي من العراق هو جزء من الوطن العربي. ويفترض أن يؤخذ هذا بنظر الاعتبار أي تطور لاحق في العلاقات العربية أو تشكيل اتحادية مع الدول العربية الأخرى.
رابعاً: ضمان الحقوق العادلة والمشروعة للأقليات القومية والدينية في الفيدرالية الكردستانية وعلى مستوى العراق.
خامساً: ضمان الفصل الكامل بين السلطات الثلاث وتكريس استقلال القضاء, والفصل بين الدين والدولة.
سادساً: ضمان الحياة الدستورية التي تستند إلى مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحياة البرلمانية الحرة والنزيهة والتداول الديمقراطي البرلماني للسلطة والتعددية السياسية والمهنية ومؤسسات المجتمع المدني الديمقراطي.
سابعاً: ضمان حرية أتباع الديانات والمذاهب المختلفة في العراق في ممارسة عبادتهم وطقوسهم الدينية وتقاليدهم ومنع التجاوز عليها أو الإساءة إليها.
ثامناً المساواة التامة بين المواطنات والمواطنين في الحقوق والواجبات ورفض التمييز ضد المرأة أو حجب بعض الحقوق عنها, إضافة على ضمان مساواة بنات وأبناء الشعب العراقي أمام القانون.
من يتتبع نشاط بعض التشكيلات القومية اليمينية المتطرفة التي برزت في أعقاب سقوط النظام الاستبدادي في العراق والعاملة في الوقت الحاضر في الخارج, وكانت قبل هذا جزء من النظام الدموي, سيجد أنها تتخذ مواقف متطرفة إزاء الواقع الجديد في العراق وإزاء حقوق الشعب الكردي العادلة والتي ناضل من أجلها طويلاً, وكأن هؤلاء لم يتعلموا من دروس عمر الدولة العراقية منذ نشوئها حتى الوقت الحاضر. فالسيد مزدهر الدليمي, الذي نصب نفسه مدافعاً عن حقوق الشعب العراقي من موقع إقامته في القاهرة, يطرح موضوعات غير قابلة للتحقيق وتتناقض مع الواقع العراقي. فهو يقول بأن العراق كان وسيبقى عربياً. ولكن لا يريد أن يدرك بأن هذه الموضوعة ذاتها هي التي تسببت بكوارث هائلة وكانت وراء حملات ومجاز الأنفال واستخدام الأسلحة الكيماوية ضد الشعب الكردي, فهل يريد إعادة المأساة مرة ثانية. إن العراق موطن للعرب والكرد والتركمان والآشوريين والكلدان في آن واحد, وأن العراق من الناحية الجغرافية يتكون من إقليمين كردستان العراق والمنطقة العربية أو عربستان العراق, وليس العراق كله جزء من الوطن العرب وليس سكان العراق كلهم جزء من الأمة العربية. ودون الاعتراف بهذا الواقع وممارسته فعلاً سيبقى العراق يعيش كوارث جديدة, وسوف لن يسمح الشعب العراقي بكوارث جديدة يتسبب بها القوميون اليمينيون الشوفينيون العرب. هذه هو الدرس الأساسي الذي لا يجوز نسيانه ويفترض أن يبقى في ذاكرة العراقيات والعراقيين باستمرار.
لا يأتي الخطر على الوضع في العراق في المرحلة الراهنة من الجماعات القومية اليمينية الشوفينية أو جماعات الإسلام السياسي الإرهابية المتطرفة فحسب, بل وكذلك من الجارة تركيا ومن بعض القوى الطائفية الشيعية العربية. والإشكالية تكمن في المطامع التركية القديمة في ولاية الموصل وفي كركوك ونفطها. وهي تحاول تنشيط بعض الجماعات الطورانية التركمانية لإثارة القلاقل والفوضى في كركوك, كما يمكن أن يلعب بعض القوميين المتطرفين الأكراد دوراً في ذلك مما يمكن أن يتسبب في إشكاليات جديدة لا يجوز السماح بتطورها. ولهذا السبب يخشى الأكراد من إدخال القوات التركية في المشكلة العراقية, إذ غالباً ما تجاوزت هذه القوى الحدود العراقية ودخلت في العمق العراقي, سواء بموافقة الحكومة العراقية المستبدة أم بدونها. وعلى مجلس الحكم الانتقالي أن يبذل جهداً إضافياً لمنع مجيء القوات التركية إلى العراق مع الاحتفاظ بعلاقات ودية مع الجارة تركيا دون السماح بالتدخل المباشر أو غير المباشر بشؤون العراق أو شؤون كردستان العراق.
والخطر الآخر يتمثل بدور السيد مقتدى الصدر., وهو شيعي طائفي متطرف, كما يبدو من سلوكه وتصريحاته السياسية والدينية, لذي يريد أن يتبنى الشيعة العرب الذين هجروا إلى منطقة الحويجة في كركوك بحجة الدفاع عنهم وإثارة مشكلة طائفية فيها, إضافة إلى المشكلة القومية الملتهبة حالياً بفعل نشاط المتطرفين.
إن الأكراد بحاجة إلى الحكمة في التصرف والتعامل مع مدينة كركوك, فهي جزء من إقليم كردستان, ولكنها في الوقت نفسه مدينة تضم فيها نسبة مهمة من التركمان والعرب ومن الكلدان والآشوريين, وبالتالي لا بد من التعامل الواعي مع هذا الواقع القائم على الأرض. وأعتقد بأن الأحزاب السياسية الحاكمة تمتلك الحكمة الكافية للتعامل الواعي مع القضية ومحاولة إبعاد المتطرفين, أياً كانت قوميتهم ومذهبهم, من إثارة المشكلات في وجه تطور الأوضاع الديمقراطية في العراق عموماً وفي كردستان العراق.
برلين في 21/9/2003 كاظم حبيب
[1] حمدي, وليد د. الكرد وكردستان في الوثائق البريطانية. دراسة تاريخية وثائقية. مطابع سجل العرب. لندن. 1992.
ص 43-105.
[2] طالباني, نوري د. منطقة كركوك ومحاولات تغيير واقعها القومي. ط 2. لندن. 1999. ص 47-51.
[3] استمعت مبكراً, عندما كنت طالباً في ثانوية كربلاء إلى مدرس الجغرافية, وهو عربي من أهالي الكاظمية, وهو يشرح لنا جغرافية وتضاريس العراق الحديث مشيراً إلى أن الدولة العراقية الملكية تتكون من قسمين: وادي الرافدين وجبال ومدن كردستان. ثم أشار إلى المدن الكردية الرئيسية بقوله أربيل وكركوك والسليمانية ودهوك وخانقين. وظلت هذه الملاحظة الواقعية عالقة في ذاكرتي طيلة السنوات المنصرمة. واعتمد المدرس في ذلك على الوقائع التاريخية وعلى إحصاء عام 1947 حين أشار إلى أن الأكراد يشكلون غالبية سكان المدن الكردية, ومنها كركوك. وهكذا كان الأمر عندما تحدث لنا عن الثروات الأولية في العراق مشيراً إلى مدينة كركوك الكردية بأنها منذ القدم غنية بالنفط الخام عندما كنت في سجني بغداد وبعقوبة ومن ثم مبعداً في مدينة بدرة في لواء الكوت في منتصف الخمسينيات التقيت مع عدد من المناضلين الذين شاركوا في معركة كاورباغي الشهيرة في كركوك, سواء كانوا من الأكراد والكلدان والأرمن أم من العرب, وكان حديثهم عن كركوك يشير إلى كونها مدينة كردية, ولكنها تضم أيضاً نسبة غير قليلة من التركمان والكلدان والعرب. وكانوا في هذا على صواب كبير.
[4] طالباني, نوري د. منطقة كركوك ومحاولات تغيير واقعها القومي. ط 2. لندن. 1999. 54.
[5] نفس المصدر السابق. ص 54.
[6] طالباني, نوري د. منطقة كركوك ومحاولات … مصدر سابق. ص 72.
[7] طالباني, نوري د. منطقة كركوك ومحاولات تغيير واقعها القومي. ط 2. لندن. 1999. ص 103.
[8] نفس المصدر السابق. ص 103.
[9] مجلة كه ركوك. وتصدر في السليمانية. العدد 4/2000. ص 13.
[10] مجلة كه ركوك. العدد الأول/2000. تصدر في مدينة السليمانية. ص 137/138
[11] مجلة كه ركوك. العدد 4/2000. السليمانية. ص 24/25.
[12] نفس المصدر السابق. ص 24/25.
[13] طالباني, نوري د. منطقة كركوك. نفس المصدر السابق. ص 104.
[14] نفس المصدر السابق. ص 104.
[15] الموسوعة الإحصائية عن التقسيمات الإدارية في الجمهورية العراقية والمشاريع المنجزة خلال ثلاث سنوات في عهد الثورة المباركة. وزارة الداخلية. مديرية الداخلية العامة. الجمهورية العراقية. مطبعة الإدارة المحلية. بغداد. 1962. ص 25.