أسئلة كثيرة طرحت من قبل النخب السياسية والكتاب والكثير من التحليلات لأسباب وقوف الكثيرين بوجه المشروع السياسي العراقي المتمثل بإقامة نظام ديمقراطي تعددي فدرالي في العراق، حملت الكثير من الإجابات وأغنت القاموس السياسي بالكثير من المفردات ولكن لم تقدم إجابة موضوعية، من ناحية لكون الموضوع بحد ذاته شائك ومن ناحية أخرى يصطدم بمصالح لا حصر لها لأطراف النزاع، وخصوصا العرب منهم. الغريب في الأمر إن الجميع يريد للعراقي أن يكون الخاسر الوحيد وكأن الخسارة قد أصبحت قدره وعليه تحملها صاغرا. والأكثر غرابة صار، كل من هب ودب، يزايد بغباء على العراقي بوطنيته.
المشروع السياسي العراقي بشكله العام يجب أن لا يثير أحدا إلى هذا الحد، خصوصا الشعوب التي جميعها تتطلع للحرية وتتمنى من أعماقها أن يكون لها نظما ديمقراطية في بلدانها بل وتناضل من أجل ذلك، وهناك العالم الحر، تحديدا معظم بلدان أوربا الغربية قد اتخذت نفس الموقف السلبي من المشروع العراقي، ومنها من راح أبعد بكثير حين عملت هذه البلدان بحماس لإفشاله رغم ما يحتويه من منافع كبيرة للغرب وبالخصوص الغرب الأوربي.
السبب في كل الأحوال، هو ارتباط هذا المشروع السياسي بالمشروع الأمريكي المتمثل بمحاربة الإرهاب وإقامة النظام العالمي الجديد.
في واقع الأمر إن المشروع السياسي العراقي من أجل الديمقراطية قد ابتدءا منذ أوائل القرن الماضي وتحديدا في العقد الثاني منه، فاجتاحت العراق الثورات تلو الثورات والانتفاضات تلو الانتفاضات وأسست الأحزاب التي انخرطت بصراع مرير مع الاستعمار البريطاني والنظام الملكي ومن بعدة الأنظمة الجمهورية المتتالية التي لم تقدم البديل المنشود للنظام الملكي بل العكس تماما، فأوغلت هذه الأنظمة في القمع والمؤامرات على الشعب العراقي، وآخر هذه المؤامرات تمثل بإعادة حزب البعث إلى السلطة على قطار إنجلو-أمريكي، ومن ثم تمكين صدام حسين من السلطة ليستمر هذا النظام الدموي يمارس أبشع أنواع القهر الذي عرفه التأريخ ولمدة امتدت لخمسة وثلاثين عاما من الزمان. كل هذا والمشروع السياسي العراقي بقي يعمل ولم يتوقف يوما واحدا بل ازداد حدة وتحديا ونضوجا ووضوحا في الرؤيا، وما يفسر هذا، هو تلك القسوة والهمجية المطلقة التي تعامل بها النظام المقبور مع الشعب، فلو لم يكن الشعب عنيدا ومصرا على الاستمرار بمشروعه التحرري لما كان هناك داع لكل هذه القسوة والهمجية، ففي علم الفيزياء يقولون إن لكل فعل رد فعل مساو له بالقوة ومعاكس له بالاتجاه، وهذا ما قد حصل على أرض العراق، فالفعل السياسي للشعب يمكن قياسه من قوة رد الفعل للسلطة القذرة. من هذا يبدوا واضحا إن المشروع السياسي العراقي قائما ولم يتوقف يوما ما، ربما يكون قد نضج أكثر وتبلورت محاوره الرئيسية بوضوح جلي، فالمقابر الجماعية التي تركها النظام المقبور لم تدلل على همجية ودموية النظام فقط وإنما تدلل أيضا على إصرار الشعب العراقي بالمضي قدما في إنجاز مشروعه التاريخي مهما كانت التضحيات. ويجب أن لا ننسى إن العراقي كان أيضا في صراع مرير مع من يقف بجانبهم اليوم، وإن ثوابته الوطنية قد ترسخ بنيانها ولم يعد بمقدور أحد أن يقتلعها.
فالمشروع السياسي العراقي بإقامة الديمقراطية في العراق لم يكن وليد اليوم ولا مرتبطا بأي مشروع ثاني.
إن ما تقدم، يتعلق بالمشروع السياسي العراقي، فماذا عن المشروع الأمريكي؟
إن أهداف هذا المشروع لم تعد خافية على أحد، فبعد أن تفردت الولايات المتحدة بالعالم كقوة عظمى وحيدة، كان عليها أن تستثمر هذا النجاح وذلك بإقامة النظام العالمي الجديد، حيث أن النماذج القديمة للاستعمار لم تعد صالحة لمثل هذا الزمان وليس لبلد ديمقراطي كأمريكا يخشى ويحترم شعبه كثيرا، إذا فالسبيل الوحيد هو إقامة هذا النظام. أنا لست هنا في مقام من يروج للنظام العالمي الجديد، لذا أترك ذلك لمدى علم القارئ بفحوى ذلك النظام، ولكن ما يهمني منه هو أن هذا لنظام يزيد من غنى الدول الغنية، أما الفقيرة فتزداد فقرا، والشعب العراقي غنيا بكل المقاييس. ففي هذا النظام إذا مصلحة للعراقي ولكن، من الناحية الأخلاقية، نجد أنفسنا متعاطفين مع الشعوب الفقيرة، ولكن ليس لحد أن نضرب بعرض الحائط مصالحنا ومشاريعنا السياسية التي ناضلنا من أجلها عقودا طويلة من الزمان وقدمنا الغالي والنفيس لكي نجني ثمارها يوما ما.
إذا فالمشروعين قائمين ومنذ زمن ومنفصلين تماما عن بعضاهما البعض، بل كان المشروعين على طرفي نقيض وفي حالة صراع كأضداد، فما الذي جعل من عدو الغد شريكا؟ وهذا ينطبق على طرفي الصراع أو المشروعين المتناقضين.
إن الولايات المتحدة وجدت بتغيير النظام العراقي ضرورة وخطوة جبارة إلى الأمام في سبيل تحقيق المشروع، فكيف؟
في العراق إمكانيات هائلة لتوظيف الأموال الأمريكية المتراكمة في بنوكها والتي لم تجد لها فرص التوظيف المناسبة.
فيه نظام دكتاتوري دموي تجاوز كل الحدود بهمجيته، ويكن له الشعب العراقي كرها لا حدود له، والنظام المعزول والمكروه شعبيا إلى هذا الحد، هو ذلك النموذج الذي تكلم عنه ميكافيللي من أنه سوف لن يصمد أمام أي عدو غاز، فالشعب سوف لن يقف بجانب الجيش، والأخير، أي الجيش سوف لن يقف مدافعا عن حاكم يكن له كل الكره. والنموذج العراقي أصدق مثال معاصر لمثل هذه الأنظمة.
العراق يحتوي على أعلى الاحتياطيات النفطية في العالم، ومن خلاله يمكن لهم ضمان تدفق أهم سلعة إستراتيجية على وجه البسيطة.
العراق مفتاح آسيا والشرق الأوسط، أي موقع إستراتيجي متميز.
إن العراق فعلا فيه نظام يهدد العالم بما يمتلكه أو ما يطمح إلى امتلاكه من أسلحة الدمار الشامل.
ربما يكون هناك أسبابا أخرى، ولكن ما قدمناه كاف لأن يجعل من الولايات المتحدة من أن تعطيه الأولوية. ولكن لكي تكسب الشرعية الدولية لتحركها باتجاه العراق، ربطت مشروعها برمته بمسألتين أولها محاربة الإرهاب والقضاء على أسلحة الدمار الشامل والثانية بربط المشروع الأمريكي بالمشروع السياسي للشعب العراقي. فالمشروع كان ماض في طريقه سواء رضي العراقي بذلك أو لم يرضى، وليس معقولا أن يقف الشعب المقهور من قبل النظام في موقف المدافع عنه، فإن ذلك سيكون سذاجة سياسية. لذا، فالكثير من الأحزاب السياسية العراقية وجدت ومنذ اليوم الأول لطرح مسألة التبني إن فرصتها التاريخية قد حانت، وأحزاب أخرى لديها عداء تأريخي مع الولايات المتحدة أعرضت عن اقتناص الفرصة، رغم إنها قد وصلت لطريق مسدود مع النظام الذي يزداد قوة وشراسة يوما بعد يوم، ولكن في نهاية المطاف كان عليها أن تقرر، فالمشروع الأمريكي ماض دون توقف رضيت أم لم ترضى، كما أسلفنا، فكان أمرا واقعا أن تتعاون مع الأمريكان الذين وعدوا بنظام ديمقراطي تعددي وفدرالي كما يرغب العراقيين به بالضبط.
وهكذا ولد التوأم السيامي بعد عملية قيصرية فقدت الأم بها الكثير من الدماء وأشرفت على الموت. وهو ما حدا بأعداء ومنافسي الولايات المتحدة من الوقوف بوجه المشروعين بل واختزلوها بمشروع واحد، وكأن العراقيين هم من جاء بالأمريكان، وليس هناك للعراقيين مشروعهم الذي تحدثنا عنه. لحد الآن، عندما يتداول السياسيون الحديث عن الموضوع، ينسون أو يتناسون أن العراقيين شعبا طافحا بالحياة ومتعلما ومناضلا عنيدا، ويتحدثون عن الموضوع وكأنهم سكان إحدى جزر المحيط الهادي التي اكتشفت للتو.
هنا تتمثل المعضلة الحقيقية للمشروع السياسي العراقي، فرغم مشروعية أهدافه ونواياه يجد نفسه ملتصقا بكل شيء مع المشروع الأمريكي وليس هناك من سبيل لفصله عن الثاني لضعفه الشديد. لا ندري إذا كانت هي نوعا من العبقرية من المخطط الأمريكي أم مجرد صدفة؟ على كل حال فالأمر الآن يتركز على إمكانية فصل التوأمين عن بعضاهما، وهذا ما سنأتي عليه.
لا غرو إذا أن نجد هذا العدد الهائل من الأعداء للمشروع العراقي، فالسبب يتمثل بالإعراض العام من قبل ألولائك عن المشروع الأمريكي برمته، وبالتالي عن المشروع العراقي. وفي ذات الوقت، العراقي يجد إن فرصته التاريخية الوحيدة والتي لا يمكن أن تتكرر من جديد هي أن يعيش هذا التوأم، وأن لا يوأد مشروعه لا سامح الله. والآخرون يجدون بوأد التوأم ضرورة يجب أن يعملوا عليها مهما كلف الأمر. لذا يجب أن لا نستغرب من سلوك من نتوقع منهم أن يقفوا معنا حين يقفون بوجه مصالحنا، وأن يضعوا العراقيل كي لا ننجز ما نعتبره مشروعنا ألتأريخي. فالعربي لا ينضر للمسألة إلا من خلال ثوابته المتمثلة بالحقد على أمريكا ولأسباب معروفة دون النظر إلى مصلحة الشعب العراقي أو إمكانية فصل المسألة. أما الذين لهم ثأرا مع الولايات المتحدة، وجدوا بالساحة العراقية لهم مسرحا جديدا لتصفية الحسابات مع العدو اللدود دونما إعطاء أهمية لشعب العراقي الذي لم يكن عدوا لهم في يوم من الأيام. فالجميع يدافعون عن مصالحهم التي تهددها الولايات المتحدة وعلى شعب العراق أن يذهب إلى الجحيم.
هكذا أصبح الجميع أعداء للشعب العراقي صاحب المشروع النظيف والذي لا غبار على مشروعيته. فهل نتخلى نحن العراقيين عما حلمنا به طويلا من أجل الآخرين؟ أنا شخصيا لم أجد عراقيا واحدا من له هذا النوع من الاستعداد، بالطبع أستثني من هذا التعميم فلول النظام المقبور.
إن من الواضح جدا الآن إن عميلة الفصل، بالرغم تعقيداتها، إلا إنها ممكنة جدا، فبإعادة إعمار البلاد والإمساك بالملف الأمني بكاملة ووضع الدستور والمؤسسات المدنية بأسرع وقت ممكن سيكون السبيل الوحيد لأن يكون المولود العراقي الجديد قويا، وأن يعيد الثقة للمتشككين بقدرته على العيش مستقلا عن شقيقه التوأم. المسألة مسألة وقت وجهود مضنية وتضحيات كبيرة.