|
الماركسية، التقدم والصراع الطبقي
سلامة كيلة
الحوار المتمدن-العدد: 598 - 2003 / 9 / 21 - 06:41
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
في مسار البشرية، يتشابك تحقيق التقدم في وسائل الإنتاج والتقدم الثقافي العام، بالصراع بين البشر الذين يحققون هذا التقدم. وفي الغالب كانت الأمور واضحة في إطار هذه العلاقة، وبالأساس في المفاصل التاريخية، حيث يتضمن الصراع الطبقي تحقيق التقدم في وسائل الإنتاج. فالبرجوازية، وهي تطوّر الصناعة، انتقالاً من الحرف والمانيفاكتورة، كانت تخوض صراعاً ضد الإقطاع الذي كان يلجم نزوعها التطويري مباشرة، كما كانت بنيته تلجم هذا النزوع، من خلال «ضبط» الفلاحين الذين كانوا سيصبحون أحد أهم أسس تحقق التراكم الرأسمالي. لكن هل ظلت هذه المواءمة بين التقدم والصراع الطبقي قائمة إلى الآن؟ الذي يدعونا إلى العودة لمناقشة هذه المسألة هو وضع الأمم المخلَّفة، وإجابات بعض الاتجاهات الماركسية حول طرق تقدمها. هذه الإجابات التي تقوم على الفصل بينهما، وتغليب «التقدم» على الصراع الطبقي، مما يُظهر الماركسية «كنظرية غير طبقية، محايدة طبقياً»، «علمية». بمعنى الأفكار التي تضع نفسها فوق الطبقات، لأنها مع «العلم» وضد «التحيز الطبقي». وفي هذه الاتجاهات تتكرر كلمة العلم كثيراً، وتوضع كمقياس للأفكار، مقابل الإيديولوجيا، التي ترادف «التضليل» و«الزيف». لكنها تصل باستنتاجاتها - النظرية أو العملية - إلى أن تنحاز طبقياً، بالقياس إلى الصراع الطبقي الداخلي. حيث ليس هناك موقف فوق الطبقات، أو بينها. لأن تجاوز «التحيّز الطبقي» هو موقف طبقي. لتحديد هذه المسألة، لابدّ من الانطلاق من طبيعة الصراع الواقعي بشموليته، أي عبر تناول مستوياته الاقتصادية، السياسية والفكرية، لأن ذلك وحده هو الذي يسمح بتحديد الواقع، الذي هو متعدّد: 1 - ففي المستوى الاقتصادي، تتحدد المشكلة في تخلّف قوى الإنتاج، وهزال وسائل الإنتاج الحديثة (أي الصناعة التي هي خاصة العصر الحديث). إن تحقيق التقدم في هذا المجال هو المهمة الحاسمة، من أجل تحقيق التقدم في المستويات الأخرى، رغم أن هذا التحديد لا يعني إعطاء الأولوية في النشاط العملي لهذا المستوى، بل أن تحققه مرتبط بمجمل المستويات، وربما أخذ مستوى آخر الأولوية في لحظة محددة. إذن، إن تحقيق التطوير الصناعي والاقتصادي العام، هو مهمة كبيرة، وحاسمة، لكي يتحقق التكافؤ في إطار بنية العالم، وضمان الوصول إلى ظروف أفضل للشعب. 2 - وفي المستوى الاجتماعي، تتحدد المشكلة في التمايز الطبقي القائم على أساس تمركز رأس المال لدى أقلية (هذا إضافة إلى نهب الاحتكارات الإمبريالية، الفاعل والمؤثر في مجمل المسار الداخلي) وانسحاق فئات متسعة من الشعب. هذا التمايز المرتبط بوجود الرأسمالية، والمتعمق بفعل استمرارها - أو حتى تطورها - يفضي إلى مفاقمة الصراع الطبقي، و«تخندق» كل من الطرفين المتصارعين: البرجوازية؛ التي تحمي مصالحها بكل جبروت السلطة والدعم الإمبريالي، والشعب؛ المتمايز طبقياً، لكن «الموحد» في إطار الصراع الطبقي، سواء نتيجة «وحدة الهدف» في الصراع ضد السلطة/الطبقة المسيطرة أو لأن الحدود الطبقية لم تترسخ، نتيجة طبيعة البنية الاقتصادية ذاتها (وبالخصوص هزال وسائل الإنتاج الحديثة). 3 - وفي المستوى السياسي، تتحدد المسألة القومية كمشكلة هامة، سواء بمعنى السعي لتحقيق الاستقلال القومي، ليس بمعناه السياسي فقط (نشوء الدولة الوطنية) بل بمعناه الاقتصادي أيضاً (أي التخلّص من عبء الهيمنة الإمبريالية، الموجودة لكن ليس في صيغة الاستعمار القديم، بل بفعل حدود النظام العالمي، المؤسس لنظام التبعية - أي الموجودة بفعل السيطرة الاقتصادية). أو بمعنى التوحيد القومي وتشكُّل الدولة القومية. والمسألة هذه مطروحة بمعنى الهوية، أي نشوء الصيغة السياسية الموافقة للطابع القومي. الدولة القومية المستقلة، ليس بالمعنى السياسي فقط، بل بالمعنى الاقتصادي السياسي (الدولة القومية المتمحورة على الذات). 4 - وفي المستوى الفكري، تتحدد المشكلة في السعي لتأسيس وعي مدني حديث، وهنا نحن نتحدث عن تحديث بنية المجتمع بمجملها، من خلال التعليم والثقافة عموماً. إن مشكلة تجاوز التخلف الثقافي العام (مستوى القراءة والكتابة، والتفكير «العلمي»)، وتجاوز الوعي القديم الموروث في الماضي، لكي يتشكل «العقل الحديث»، مسألة هامة، في سياق تحقيق التقدم، إنه جزء أساسي من عملية التقدم. هذه المستويات تطول كلية البنية، وتتداخل المشكلات فيها: من مشكلة التقدم إلى مشكلة الاضطهاد، إلى المشكلة القومية، إلى التحديث. وإذا حاولنا وضع هذه المستويات ضمن إشكالية التقدم والصراع الطبقي، نقول إن المستويات الاقتصادية/السياسية/ الفكرية (أو الثقافية) تقع ضمن عملية التقدم، إنها المشكلات التي يطرحها الواقع انطلاقاً من حاجته للتقدم. وبالتالي فإن التقدم يعني السعي لتحقيق تطور في قوى الإنتاج، يجعل الأمم المخلَّفة جزءاً من «العالم الحديث»، أي جزءاً من العالم الصناعي، لتتكافأ مع الأمم الصناعية الحديثة. كما يعني حل المسألة القومية (الاستقلال القومي و/أو التوحيد القومي) بشعور الشعب بأنه حقق «ذاته»، وانسجم مع هويته ولكن أيضاً يفتح الأفق لتحقيق التقدم الاقتصادي (الصناعي خصوصاً). ثم أنه يعني التحديث الثقافي العام الملازم لكل ذلك، والضروري له في نفس الوقت. إن حلّ كل هذه المشكلات هو مشروع التقدم، ولا شك في أنه يخص الشعب بمجمله. إنه إذن مشروع طبقات وليس مشروع طبقة. تبقى مسألة الصراع الطبقي محددة في مشكلة التمايز الطبقي، نتيجة الطابع الاستغلالي المحايث. إن سيادة النمط الإقطاعي (في صيغته الرثة)، ثم بدء تغلغل الرأسمالية وانتصارها، في علاقات الإنتاج، كان يفرض تحقيق التمايز الطبقي، وبالتالي يؤسس لنشوء الصراع الطبقي. ولاشك في أن اندراج الأمم المتخلّفة في إطار النظام الإمبريالي العالمي، وتحوّلها إلى أمم تابعة، كان يعمق من المشكلة، أي من الصراع، لأنه كان يفرض آليات نهب عنيفة، ووحشية، وبالتالي كان يوجد شعوباً مدفوعة إلى حافة الموت جوعاً، إلى الموت. وهذه حالة تتعمق كلما اتسعت العلاقات الرأسمالية، وكذلك كلما تعمّقت التبعية عبر الاندماج في السوق العالمي وفتح الأسواق الداخلية لمفاعيل الرأسمال الإمبريالي. فإذا كانت مشكلة التقدم تطرح نفسها، فهذه مشكلة أخرى تطرح نفسها. وفي نفس الوقت، وكذلك بالترابط مع كل عناصر التقدم. لهذا علينا أن نلحظ بأن الأمم المتخلفة تعيش أزمتين هما: أزمة العجز عن تحقيق التقدم (وإذا حاولنا تخفيف النص كي لا نحدّد مسبقاً إمكانات تحقق التقدم، نقول إنها أزمة تحقيق التقدم). وأزمة الإفقار وانحطاط ظروف قطاعات واسعة من الشعب. هذه العملية التي أفضت إلى مفاقمة الصراع الطبقي، وكانت في أساسه. هل من الممكن حل أزمة دون الأخرى؟ وتحديداً هل من الممكن حل أزمة تحقيق التقدم دون حل أزمة الانسحاق الطبقي؟ أي هل يمكن تحقيق التقدم دون الانطلاق من الصراع الطبقي، واعتبار التقدم خياراً طبقياً؟ إذا تحدثنا في الإطار العام، نقول إن من الممكن حل أزمة دون الأخرى، فقد تحقق التقدم الرأسمالي بعد استيلاء البرجوازية على السلطة على حساب الشعب. بل أن اتساع التقدم كان يترافق واتساع هوّة التمايز الطبقي، وهي الحالة التي أسماها ماركس: الإملاق؛ حيث تُدفع الجماهير العمالية إلى حالة من الفقر النسبي والمطلق، تكاد لا تستطيع فيها إعادة تحديد ذاتها. بل يمكن أن نقول إن التقدم الرأسمالي يفرض - بالضرورة - تعميق التمايز الطبقي، لأن التراكم الرأسمالي يتحقق بفعل آلية نهب الطبقة العاملة. إن تشكل نمط الإنتاج الرأسمالي يفرض التمايز والنهب، وبالتالي الفقر والإملاق. والاستثناء هو ما تحقق في الأمم الرأسمالية المتقدمة منذ بداية القرن العشرين جزئياً، وما بعد الحرب العالمية الأولى خصوصاً، بعد تحقيق «المساومة التاريخية» التي أقرّت للعمال حقوقاً هامة سواء فيما يتعلق بالبطالة والأجر أو فيما يتعلق بالضمان الاجتماعي، نتيجة نهب العالم، وبالتالي عبر حالة الفقر، والإملاق إلى الأمم المخلَّفة. وإذا درسنا تجارب التقدم الرأسمالي في بعض المناطق، مثل كوريا - تايوان، وقبل ذلك البرازيل، نلاحظ أن التقدم المتحقق (بغض النظر عن آفاقه) أفضى إلى تحقيق التمايز الطبقي، أيضاً. إلى تحكّم البرجوازية في صيرورة العملية الاقتصادية، وتحقيقها التراكم على حساب الشعب. وبالتالي، فإذا كانت الرأسمالية، وهي تنتصر على الإقطاع، توحّد التقدم والصراع ضد الطبقة المسيطرة، فقد غدت - بعد أن أصبحت طبقة مسيطرة - تعمّق التمايز الطبقي كلما أمعنت في تحقيق التقدم. وهذا يعني أن التقدم يمكن أن يتوافق مع «وضع الشعب» في مرحلة نهوض طبقة من أجل تحقيق ذاك التقدم، لكن الأمر يختلف حالما تصبح هي السلطة، هي الطبقة المسيطرة. هذا المسار حتمي في المراحل السابقة للاشتراكية، ولعلنا نرى في الرأسمالية مثالاً واضحاً وغنياً على ذلك. لكن من المفترض أن يختلف الوضع في الاشتراكية. المشكلة تتعلق هنا بإمكانية تحقيق التقدم في بلد مخلّف وتابع في إطار النظام العالمي، فهل يمكن أن يتحقق التقدم، دون ارتباط حقيقي بوضع الشعب وبالتالي بالصراع الطبقي؟ يمكن القول إن هناك - في المستوى النظري - خيارات. وإذا حاولنا تقسيمها وفق إشارتنا لتطور الرأسمالية، أي وفق مرحلة ما قبل انتصار طبقة، وما بعدها، نقول إن خيارين هما الممكنان، في هذا المجال؛ الأول: هو أن يتحقق التقدم من قبل الطبقة المسيطرة (ولابدّ أن نشير هنا إلى أن «التقدم» في هذه الحالة «يتقزم» إلى تطوير القوى المنتجة - الصناعة -)، أي أن يتحقق من فوق. وهذا خيار يقوم بالضرورة على أساس «التعاكس» مع «وضع الشعب»، نتيجة مفاقمته للصراع الطبقي. لأن التراكم الأساسي يفرض - كما أشرنا - نهب فائض القيمة، وبالتالي دفع العمال إلى حدِّ الإملاق. ولاشك في أن التقدم في الإطار الاشتراكي توافق إلى حدٍّ ما مع «وضع الشعب»، وإن كان احتلّ في مرحلة تالية، لكن هذا الاختلال لم يصل إلى حدِّ الإفقار المطلق، ولم يفض إلى تشكّل طبقات، وإن كان أفضى إلى نشوء «تمايز طبقي» قام على أساس الاستهلاك، وليس التملّك. الثاني: هو أن يتحقق التقدم (أو تتحقق محاولة التقدم) من قبل طبقات خارج السلطة. وهنا الارتباط ضروري، بل أنه في أساس هذه المحاولة التي تقوم على أساس نفي الطبقة المسيطرة، وبالتالي فهو جزء من الصراع الطبقي، عنصر فيه، أي أنه محاولة «الشعب» تحقيق تقدم في صيغة ما، على أنقاض الطبقة المسيطرة. وفي هذا الإطار نشأ مشروعان: مشروع الفئات الوسطى (بغض النظر عن تقييمنا الشامل له، فليس هنا مجال البحث في ذلك) الذي قام على أساس أن يفرض الشعب التقدم، وأن يطوّر وضعه في سياق تحقيق التقدم. لكن توضح أنه سرعان ما نشأ التمايز الطبقي في صفوف الشعب (وأولاً في صفوف الفئات الوسطى)، وفي نفس الوقت انتهى زخم المشروع، وتحوّل إلى مشروع للرأسمالية التابعة، غير المعنية بالتقدم، والتي تفرض سيطرتها مفاقمة الصراع الطبقي، لأن نهبها كان يفضي إلى إفقار قطاعات الشعب الأخرى. ثم المشروع الماركسي، الذي أفضى إلى تحقيق التقدم (وهنا لابد أن نؤكد على الطابع النسبي للتقدم الذي تحقق). وفي نفس الوقت تحقق تحسن عام في وضع الشعب (وهنا - نؤكد أيضاً على الطابع النسبي لذلك)، وبالتالي ترافق تحقيق التقدم و«التحسّن المضطرد في أوضاع الشعب المعاشية والثقافية العامة». ولاشك أنه يمكن لأي من الفئات الوسطى أن يتمسك بمشروع التقدم، فاصلاً إياه عن الطبقات، ومهمشاً أهمية الصراع الطبقي، وفاصلاً المشروع عن أساسه الواقعي من خلال التركيز على المستوى السياسي فيه (ومحوّلاً المستوى الاقتصادي إلى صيغ سياسية)، لأن عمق مشروعه يتوافق مع «عمق» مصلحته الطبقية. وبالتالي فحين يضخم مستوى بهدف ذلك إلى تغطية رؤية المستوى الآخر. لكن هل يمكن للماركسي أن ينظر لمستوى دون آخر، ويحاول معالجة أزمة دون أخرى؟ أي هل يمكن للماركسي أن يعالج أزمة التقدم، خارج إطار الصراع الطبقي؟ هل يمكن له أن يقدم مشروعاً للتقدم دون أن يأخذ بعين الاعتبار الصراع الطبقي الذي يخترق المجتمع الذي «يقدم» له مشروع التقدم؟ بغض النظر عن إمكانات نجاح أو فشل المشروع الرأسمالي، (ونحن هنا لا نناقش هذه المسألة رغم أهميتها، لكننا نحاول لمسها بطريقة أخرى، من زاوية غير مباشرة) فإن السيطرة الرأسمالية قد تحققت، لكن دون أن يتم ذلك عن طريق انتصار قوى الإنتاج الرأسمالية (وتحديداً في الصناعة، التي لازالت هامشية ضمن بنية المجتمع)، بل تحقق ذلك بفعل تأثير النظام الإمبريالي العالمي والالتحاق بالنمط الرأسمالي العالمي. ونتيجة ذلك ليست الرأسمالية المسيطرة هي المعنية بتحقيق مشروع التقدم، أو حتى بعض منه، لأن بنية النظام الإمبريالي العالمي تجعل ربحية التوظيف في قطاع التجارة - الخدمات - المال أكبر منها في القطاع الإنتاجي (سواء الصناعي أو الزراعي)، وأكثر ضمانة وأمناً أيضاً. لهذا تقبل الرأسمالية التابعة التكيّف مع بنية النظام الإمبريالي العالمي، وتعمل وفق مصلحة البرجوازية المسيطرة فيه، مما يجعلها تكون في تناقض مع مشروع التقدم بمجمله. لهذا فإن تحقيق التقدم يفترض أن يتم بقوة الشعب، بغض النظر عن الصيغة التي يحقق فيها الشعب ذلك، ونحن هنا نتجاوز النقاش حول إمكانية أن يكون «هدف» الشعب فرض المشروع على الرأسمالية المسيطرة، أو أن يحققه على أنقاضها، لأننا نهدف الوصول إلى الفصل بين هذا وذاك (هذا هو هدفنا من هذه المناقشة). ما نود تأكيده هنا هو أن المشروع يجب أن يفرض. وبالتالي نحن نتجاوز النقاش حول إمكانية عقلنة مسار الرأسمالية المسيطرة (التي هي رأسمالية تابعة) عن طريق «الحوار العقلاني»، أو «النقد العقلاني»، أو «الكشف»، رغم أن بعض الماركسيين يميل إلى ذلك، وهو هنا يعتقد أن وعيه لمصلحة الرأسمالية التابعة، أحدّ من وعيها لمصلحتها، وأن عقله أكثر مقدرة على تحديد مصلحتها، منها وهي مالكة الرأسمال، وتحسب - بالملموس - كيف تراكم رأسمالها. وهنا يبدو الفارق بين الحساب «النظري» والحساب «الملموس، «العملي». إذن المشروع يجب أن يُفرض بقوة الشعب، مما يفرض البحث في الأسس التي تجعل الشعب يتحوّل إلى قوّة. فهل يمكن لطبقة أن تتبنى مشروعاً، دون أن تلمس انسجامه مع مصلحتها؟ أليست المصلحة الطبقية هي محدد الرؤية والنشاط، حسب ما تؤكد الماركسية، وما غدا معترفاً به حتى في علم الاجتماع البرجوازي؟. الواقع يحدد الوعي، والمصلحة تحدد المشروع. هذا ما تؤكده الماركسية. فكيف يمكن لطبقة - مثلاً - أن تناضل من أجل الديمقراطية، وهي لا تعي معناها، كما أنها تعيش حالة من الفقر الذي يجعلها تحتاج إلى إعادة إنتاج ذاتها؟ رغم أن الديمقراطية - في حال تحققها، تساعدها على أن تناضل بشكل أفضل لتحسين ظروفها؟ إنها تناضل من أجل الديمقراطية إذا اشتملها مشروع «يقنعها» بأنه يحقق مصالح من خلال اشتماله لفكرة إسقاط الطبقة التي تضطهدها وتحقيقه «مسائل ملموسة» لها، لأن «الوعي الشعبي» يكثّف كل أزمته في نهب واستغلال الطبقة المسيطرة/الحاكمة، وهذا وعي واقعي، ينطلق من أبسط فكرة في الماركسية، وهي أن العامل يرى أن كل مصائبه متأتية من صاحب العمل (وبالتالي السلطة التي تحميه). من هذا الأساس يقيم العامل بناءه «الفكري»، مما يجعله يرفض الطبقة المسيطرة المتمثلة في السلطة. وبالتالي لكي يكون المشروع ممكنا يجب أن يعتنقه الشعب، ولكي يحدث ذلك يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الانقسام الطبقي القائم في المجتمع، أي أن يكون مشروعاً للصراع الطبقي قبل أن يكون مشروعاً للتقدم والتحديث، وفي نفس الوقت يجب أن يكون مشروع تقدم وتحديث، أي أن يتجاوز طابعه «التقني» الذي يحاول بعض الماركسيين أسره فيه وإلا ظل مشروع فئات معزولة وغير فاعلة في حركة الصراع الواقعي، تظهر كـ «مكتب استشاري» هدفه تقديم «النصح» للرأسمالية المسيطرة. وهذه «المعادلة» من الضروري أن تفهم جيداً، لأن عدم فهمها يفضي إلى فصام بين «الطليعة»، «المثقفين»، والشعب؛ هذا يعيش أوهامه، وذاك يعيش أزماته - أما مشروع التقدم فيظل حلماً جميلاً يداعب مشاعر هذا وذاك. لكنه يظل بعيداً عن التحقق، أي عن أن يصبح واقعاً، في نفس الوقت الذي تميل فيه «الطليعة»، «المثقفون» إلى التكيف مع الوضع القائم، وبالتالي التبعية للرأسمالية المسيطرة ويميل الشعب إلى التمرّد العفوي، الذي يدفع قطاعات منه إلى اللحاق بقوى رجعية (شوفينية أو سلفية) انطلاقاً من عدائها للسلطة القائمة، وفي المجمل تعجز عن تحقيق حلٍّ لمشكلاتها، كما لا يكون من الممكن تحقيق مشروع التقدّم. طبعاً من الممكن أن تتماهى مصلحة الشعب، ومشروع تقدمٍ تطرحه الفئات الوسطى، وهذا ما حدث في العديد من تجارب حركات التحرّر القومي. لكن قلنا سابقاً إنه حالما توضحت مصلحة الفئة المسيطرة فتحقق التمايز الطبقي، انتهى زخم المشروع كله، ولم يتحقق التقدم ذاته إلا بشكل محدود وربما هامشي. كيف يمكن إذن، حل الأزمتين معاً، ما دامتا مترابطتين، نتيجة لطبيعة النظام الإمبريالي العالمي الذي يمنع التقدم، ويلحق الطبقة الرأسمالية بآلياته؟ نقول إن لذلك مستويين (أو مرحلتين)، الأول: حين يكون السعي إلى التغيير هو الهدف، حين يكون إسقاط الطبقة المسيطرة هو الهدف، فمن الضروري أن يشتمل مشروع التغيير، أهداف التقدم. ولكن أن يطرح أيضاً مشكلات الشعب، ويعبّر عن تضاده مع الطبقة المسيطرة، مع الرأسمالية التابعة وبالتالي مع النظام الإمبريالي العالمي. وأي مشروع للتقدم لا يحوي حلاً لمشكلات الشعب ولا ينطلق من كونه المعبّر عن الطبقات المستغَلة في سعيها من أجل تحقيق أهدافها (ومنها أهداف التقدم)، لن يكون جديراً بأن يصبح مشروعاً شعبياً وهنا يكون مشروع التقدم مشروعاً طبقياً، أي مشروع طبقة تسعى للانتصار، ولا شك أن أيّ فصل بين هذا وذاك سيبقي المشروع مشروع فئة ضيّقة، وبالتالي بضعة أفكار تذروها الريح، أمام وعي الطبقة المسيطرة/الحاكمة لمصالحها، وسطوتها وجبروتها ونهبها الشعب. وأمام أزمات الشعب العميقة عمق التاريخ، والحادة كحدّ السيف، ولأنها عميقة وحادّة، لا يبدو أمام الشعب سوى أن يعصف بكل المستغلّين. وهو يحاول ذلك، حتى في أكثر الأشكال «تخلفاً»، حينما لا تلعب «قوى الثقافة»، «قوى التقدم» دورها في إعطاء هذا العمق، وهذه الحدّة، تصوراً لتغيير ثوري. هنا تترابط أزمة التقدم، وأزمة الإفقار، من أجل أن ينفتح أفق التقدم. الثاني: لكن لكي يتحقق التقدم، أي لكي لا ينفتح أفق التقدم فقط، لابدّ من أن يرتبط بالتحقيق المضطرد لظروف أفضل للشعب، وبالتالي يجب أن لا يقوم على أساس إعادة إنتاج التمايز الطبقي، ونحن نتحدث هنا عن التقدم في إطار الوضع العالمي الراهن، حيث من الضروري أن يأخذ بعداً جذرياً لكي يصمد أمام زحف الإمبريالية، وجبروت اقتصادها، وإن تحقق التقدم يفترض سنوات من التأسيس، لن تكون ممكنة دون استمرار الدعم الشعبي. هذا السبب هو الذي يجعل الاشتراكية هي الحلّ القادر على تحقيق التقدم، وخصوصاً في مجال تطوير القوى المنتجة. إن استمرار مركزة التراكم، وإعادة إنتاجه اجتماعياً هما الأساس الذي يفضي إلى تطوير القوى المنتجة. وإن أي ميل سريع إلى تفتيت التراكم لا تفضي سوى إلى إعادة إنتاج الرأسمالية التابعة. إذن تحقيق التقدم يفترض الاشتراكية. ولاشك في أن في صلب مهمات الماركسية تحقيق التقدم المضطرد في أوضاع الشعب، وأن هدف كل نزوع نحو التقدم هو هذا. رغم التناقض الذي يمكن أن ينشأ في لحظة معينة بين التقدم وتحسين وضع الشعب. ولاشك أن رؤية الماركسية للعلاقة بين تحقيق التقدم والصراع الطبقي نبعت من هذا التصور، فهي رؤية طبقية بالأساس، وحيث أن رؤيتها جذرية، أي تنطلق من عمق الواقع، من قاعه، وهي لذلك ارتبطت بالطبقة العاملة، ولأنها جذرية، كانت غايتها الجذر في كل الواقع، والجذر هو الإنسان. لهذا لا يجوز لماركسي أن ينظر إلى عملية التقدم دون أن يحدد موقعه في الصراع الطبقي، ودون أن ينظر إلى كل الواقع، فميزته تكمن في أنه يرى الكل، ولا يرى الجزء فقط. ويرى الكل ولا يرى الشكل فقط. إنه يرى البنية بمجملها، يعي البنية بمجملها، إن رؤيته تبدأ من الواقع، ومن الطبقي في الواقع، لتشمل كل الواقع، الواقع ككل. لهذا فهو لا يرى الحاجة إلى تحقيق التطور في قوى الإنتاج فقط، بل ينطلق من دور الطبقة العاملة، وكل الفئات المسحوقة في تحقيق هذا التطور. وهو لا يرى هذه الحاجة متحققة بمعزل عن الإطار البشري الذي تتحقق فيه، والإطار السياسي الثقافي المطابق لتحقُّقها. وهو لا يرى دور الطبقة العاملة، بمعزل عن دور الشعب عموماً، لكن دون أن يسقط الحدود والفواصل، بين هذه وذاك، ودون أن يتجاهل تمايز المصالح بين مختلف الطبقات، وميل كل طبقة، وبالتالي ممكنات دورها الواقعي. إن مهمة الماركسي وهو يعي الحاجة إلى التقدم، أن يعي في نفس الوقت صراع الطبقات، وأن يضع عملية التقدم في إطار الصراع الطبقي، لأنها مسألة طبقية وليست مسألة تقنية، ولا يمكن أن تكون كذلك، حتى والبرجوازية تحققها، فهي بالأساس تحققها انطلاقاً من مصلحتها، فكيف يمكن للماركسي أن يتجاهل ذلك. وفكرة الصراع الطبقي جوهرية في الماركسية، ليس لأنها واقع عبر مراحل التاريخ المختلفة، بل أيضاً لأن الماركسية، وانطلاقاً من واقعيتها، استنتجت أنها مقولة عملية (قانون)، وهي متّسقة مع أول بديهية في الجدل المادي، أي مع فكرة التناقض، وبالتالي لابدّ أن يسري الجدل المادي بمجمله (التناقض، التراكم، نفي النفي) على عملية الصراع الطبقي، في إطار صيرورة تحقيق التقدم. ولا شك أن مهمة الماركسيين هي تحقيق التقدم بمعناه «التقني» ولكن أيضاً بمعناه الاجتماعي الشامل. وهذه المهمة تفرض تحقيق التوازن في التطور، والتدرج فيه، لكي لا تصبح مهمة تحقيق التقدم «التقني»، نافية لتحقيق ظروف أفضل للشعب، لكن لابدّ من تحقيق التقدم «التقني» لكي تتهيأ الظروف لتحسين حقيقي في أوضاع الشعب. وإذا كانت الأمم المخلّفة تعيش أزمة التقدم، كما يخترقها الانقسام الطبقي (المشوش إلى حد معين، وغير واضح الحدود نسبياً، لكنه القائم، بفعل وجود الطبقات، على الأقل وفق «الأرقام الاقتصادية»، وعلى ضوء التحديد العام لمعنى كل طبقة). وإذا كان تقدمها يحمل أكثر من خيار، نظرياً على الأقل (الخيار الرأسمالي، خيار الفئات الوسطى الرأسمالي، الخيار الاشتراكي)، فإن مهمة الماركسي تتقوّم في أن يعمل من أجل انتصار خياره، خياره في تحقيق التقدم، وفي تطوير وضع الشعب، خصوصاً أنه يحمل ممكنات أعلى من كل الخيارات الأخرى، بل أنه الخيار الوحيد الذي استطاع تحقيق التقدم، منذ أن انتقلت الرأسمالية من مرحلتها التنافسية، إلى مرحلتها الاحتكارية، أي منذ أن غدت إمبريالية. إن مهمة الماركسي أن «يرى» من زاوية الطبقة العاملة، وأن يحدد مهماته انطلاقاً من وعيه لكل ظروفها الواقعية، وإذا كانت معنية بمصلحة مجمل الشعب وبالأمة بكليتها، وبمصيرها، فهي معنية بمصلحتها أيضاً وأساساً، ولاشك أن هذه المصلحة تتقاطع مع مصلحة طبقات أخرى، في قضايا أساسية وهامة، منها مثلاً مسألة تحقيق التقدم، لكنها، وضمن ذلك، معنية بتحقيق «الشق» الذي يخصّها، وهي في كل الأحوال معنية بتحقيق مصلحة الأمة. وتتوضح أهمية ذلك حينما يكون خيارها هو الخيار الأجدر، القادر على تحقيق التقدم بجدارة، وفي نفس الوقت القادر على تحقيق تحسين مضطرد في الظروف العامة لمجمل الطبقات المضطَهدة (المعيشية، والاجتماعية والثقافية). إن مهمة الماركسية تتقوم في تحقيق التقدم، في إطار الصراع الطبقي، وفي سياق النزوع لتحقيق «الذات» القومية، حيث لا يمكن أن يتحقق التقدم في إطار التبعية، ولا يمكن أن يكون للماركسيين دور خارج إطار الصراع الطبقي، ومن موقع التعبير عن الطبقة العاملة، والفئات المفقرة عموماً.
#سلامة_كيلة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الليبرالية والليبرالية الجديدة
-
عولمة -الشرق الأوسط
-
ورقة عمل من أجل اليسار
-
تحوّلات إستراتيجية قادمة
-
عراق ما بعد الدكتاتورية آليات تشكيل - العراق الجديد
-
العراق من الدكتاتورية إلى الاحتلال
-
عولمة الليبرالية الجديدة
-
العولمة والحرب
-
حروب الإمبراطورية
-
هل نستطيع تقييم التجربة الاشتراكية
-
كتاب - اطروحات من أجل ماركسية مناضلة
-
أية عولمة نناهض
-
مع حقوق الإنسان ضد حقوق الشعوب؟!
-
العراق كبوابة لصوغ - عالم جديد
-
لا للحرب...
-
مصير الماركسية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية
-
ما العمل حول إعادة بناء اليسار الماركسي
-
الحداثة من منظور غربي: كيف تنظر الرأسمالية إلى تحديث الإسلام
...
-
أزمة اليسار
-
عن اليسار الغائب والأصولية الناشطة
المزيد.....
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|