قبل أن ينضمّ إلى جلسات اللجنة الفرعية للشرق الأوسط في مجلس النوّاب الأمريكي، لكي يدلي بشهادته في إطار مناقشات ما يُسمّي "قانون محاسبة سورية"، وهي الشهادة التي تتألف من سموم صهيونية صرفة وأحقاد ليكودية عمياء، كان دانييل بايبس قد وقّع مقالة بعنوان: "هل الصهيونية المسيحية أفضل أسلحة إسرائيل؟"، عرض فيها أهمية مواقف اليمين الأمريكي المسيحي المتعاطف مع إسرائيل، وكيف يحتار العرب في تفسير سلوك نفر من الأمريكيين غير اليهود، ولكن الصهاينة أكثر من أعتى عتاة الصهيونية.
ودانييل بايبس، للتذكير وأخذ العلم، هو الكاتب الأمريكي ـ اليهودي الليكودي العريق، والبوق الأمريكي الموضوع في خدمة الصهيونية علانية وليس سرّاً، والتلميذ الرديء لأسوأ تقاليد الإستشراق السياسي كما أرسى دعائمها برنارد لويس، وكاره الإسلام مجّاناً ودون تمييز بين مسلم مؤمن أو زنديق وُلد مسلماً. عشية حرب الخليج الثانية، 1991، أنذر بايبس العالم بقدوم "جائحة الإسلام"، وحملت إحدى مقالاته العنوان الدراماتيكي المستمدّ من ثقافة مرابطة الجيوش الإسلامية أمام أسوار فيينا قبل مئات السنين: "المسلمون قادمون!"، وجاء في المقالة: "هنالك أساس واقعي للخوف من الإسلام. فمنذ موقعة أجنادين سنة 634 وحتي حرب السويس سنة 1956 كان العداء العسكري هو المهيمن على العلاقة المسيحية ـ الإسلامية. ولقد ظهر المسلمون في إهاب العدوّ الرئيسي منذ "أغنية رولان" وحتى قصائد "أورلاندو"؛ ومنذ مسرحية "السيد" وحتي رواية "دون كيخوتة". وفي واقع الأمر لم يتوصّل الأوروبيون إلى بناء دولتهم إلا عن طريق طرد المسلمين، بدءاً من استعادة إسبانيا في مطلع القرن الثاني عشر وحتى حرب استقلال ألبانيا سنة 1912".
لكنّ دانييل بايبس ليس موضوع هذه المقالة، ولذا لن نتوقف عند المزيد من أباطيله ومواقفه العصابية العنصرية، بل سننتقل إلى فكرته الأحدث عهداً في السوق: الصهيونية المسيحية، أو اليمين الأمريكي المسيحي المتصهين، وكيف تصدر عن هذا الفريق مواقف ضدّ خريطة الطريق تبدو مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون "حمائمية" تماماً إلى جانبها. تفسيرة البسيط، أو التبسيطي تماماً في الواقع، يقول إنّ هذا النسق السياسي ـ الفلسفي الذي يعبّر عنه أمثال غاري باور وجيري فالويل وريشارد لاند يعود بجذوره إلى العصر الفكتوري في بريطانيا، وإلى العام 1840 حين أوصى وزير الخارجية اللورد بالمرستون أن تبذل السلطات العثمانية كلّ جهد ممكن من أجل تشجيع وتسهيل عودة يهود أوروبا إلى فلسطين. كذلك كان اللورد شافتزبري هو الذي، في العام 1853، نحت العبارة الشهيرة في وصف فلسطين: "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
هذا بالطبع نقاش مفتوح وحَمّال أَوجُه، خصوصاً وأنّ بايبس لا يترك شاردة ولا واردة في الحياة السياسية والثقافية الفكتورية إلا ويضعها في خدمة تعاطف اليمين المسيحي الأمريكي المعاصر مع الصهيونية. غير أن ما لا يتوقف عنده بايبس هو السؤال التالي: لماذا لا يكون حماس هؤلاء الأمريكيين هو الوجه الآخر لفتور معظم الحماس عند الصهاينة كابراً عن كابر، لكي لا نتحدث عن فقدان الحماس من أصله؟ ولماذا لا يكون فقدان هذا الحماس، أو اندثاره التدريجي ولكن التامّ، هو التكملة الطبيعية لميل الحركة الصهيونية إلي اعتناق أكثر من فكر واحد بديل، كالفكر النازي أو الفكر العنصري؟ ولماذا لا يكون رجل مثل شارون أكثر راحة وهو يتصرّف كجنرال نازي يقتل ويحرق ويدمّر، من راحته وهو يتصرّف كصهيوني؟
المرء يعود بالذاكرة إلي النقاشات الصهيونية ـ الصهيونية التي صاحبت، سنة 1997، احتفالات صهاينة العالم بالذكرى المئوية الأولى لانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية. آنذاك دارت سجالات نوستالجية حول حلم تيودور هرتزل الذي تحقّق (الدولة اليهودية)، ولكنها لم تكن سجالات خالية من الشجار الحادّ حول الواقع اليهودي الفقهي للدولة/ الحلم، أو حول معنى ما قبل و ما بعد الصهيونية. جرى كلّ ذلك الاحتقان داخل البيت الصهيوني العريض، الذي ساد الظنّ طويلاً أنه بيت واحد متراصّ، فاتضح أنه بيوت أمريكية وبولونية وروسية وفالاشية ويمنية، أشكنازية أو سفاردية، أصولية أو أرثوذكسية، يهودية أو نصف ـ يهودية...
واحدة من مفاجآت هذه الحال كانت غياب صاحب الحلم نفسه، عن مئوية تستعيده وتحتفي به وكان ينبغي أن تستلهم إفكاره. وخارج المصنفات التاريخية ذات الصلة بوقائع انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، لا يبدو هرتزل أشبه بشخصية إجماع فريدة تستمدّ مصداقيتها وصلاحيتها للحاضر من واقع الحال في الحاضر. وكان من غير الطبيعي أن يدور النقاش حول فكرة الدولة اليهودية، بما يوحي أن المطلوب الآن هو ترقية الدولة (التي كانت تستعدّ لاحتفالات الخمسينية الأولي لتأسيسها) إلى حلم جديد هو وحده الكفيل بتجديد الوجدان اليهودي المنشطر... وذلك بعد مئة سنة من انطلاق فكرة الدولة اليهودية من الحلم الأول الذي راود الصحافي النمساوي اليهودي المغمور تيودور هرتزل، ثم تجسّد بعدئذ في كتيّب صغير حمل اسم الفكرة: "الدولة اليهودية".
الوجدان اليهودي لما بعد الصهيونية انخرط في حوار متعدّد مع الذات، لإعادة الدولة الصهيونية إلى ما قبل الصهيونية، أي إلى حلم واحد طويل مستديم، لا يصحو منه اليهودي إلا لكي يعاقب العالم الخارجي غير اليهودي، عالم الـ "غوييم" بعبارة فقهية أدقّ، على الآثام المقترفة بحقّ الحلم. وإذا كان مطلوباً من العالم أن يسهر على أمن اليهودي وهو يغرق في الحلم المستديم، فإن المطلوب في المقام الثاني أن يقف العالم مكتوف الأيدي تماماً أمام انقلاب الحلم ذاته إلى كابوس استعماري استيطاني نازيّ عند الشعب صاحب الحق الأصلي في أرض الحلم، وانقلاب الغيتو إلى كيبوتز، والحالم/ الضحية إلى حالم/ جلاّد.
بعد مئة سنة من الاستغراق في الحلم، ارتدّ النقاش إلي فكرة الدولة اليهودية ومصيرها الراهن، بين معسكرين ورؤيتين وسؤالين:
1 ـ هل تواصل الدولة الحياة ضمن الصيغة الأصلية (للحلم وللفكرة) كما استبصرها هرتزل في الكتيب الصغير الذي صدر عام 1896، ثم تابعت تنفيذها على الأرض مختلف تيارات الحركة الصهيونية، من الجناح الاشتراكي والمادي الذي مثّله فريق بن غوريون ثم المابام وصولاً إلى حزب العمل؛ إلى الجناح اليميني (جابوتنسكي والعصابات والأحزاب الدينية هذه الأيام)، فالجناح الوسط الذي تألف جوهرياً من مجموعة الجامعة العبرية في القدس، أي المثقفين والعلماء والفلاسفة الذين أطلق عليهم مناحيم بيغن (الشاب) صفة "المفكرين الخاملين المتثائبين على جبل الأوليمبوس"؟ بمعنى آخر، هل تواصل الدولة الحياة وفق المفاهيم التكوينية للصهيونية، أو حتى تلك التي ترتدّ إلى ما قبل الصهيونية؟
2 ـ أم تواصل الحياة ضمن الصيغة الأصلية (للحلم وللفكرة دائماً) كما استبصرها هرتزل أيضاً، ولكن مع تصفية العقيدة اليهودية من بنية الدولة، وإلغاء مفهوم القومية اليهودية بوصفها الدافع الأكبر في رسم مصالح الدولة العليا، على قاعدة أنّ استمرار عبادة هذا المفهوم سوف يقود إلى تآكل الديمقراطية وتنامي العنصرية؟ البعض لم يعترض كثيراً على الصبغة اليهودية للدولة، ولكنه يطالب بتجريدها من الجوهرانية القومية لأنّ العصر يسير، في كل الأحوال، باتجاه سقوط الحدود السياسية والثقافية بين الكيانات والهويات. بمعنى آخر، هل تواصل الدولة الحياة وفق هذه المفاهيم الجديدة، لأطوار ما بعد الصهيونية؟
ثمة، بالتالي، أكثر من هرتزل واحد في هذه الحرب الثقافية التي يخوضها الوجدان اليهودي المتصهين، رغم أن الصيغة الهرتزلية (الحلم دون سواه) هي القاسم المشترك في الحالتين، ورغم أن محتوي وشكل المحاججة في المعسكرين يستدعي اللجوء إلى مرجعيتين متناقضتين وليس إلى قراءتين مختلفتين لمرجعية واحدة. ذلك لأن الكتيب السحري العجيب، "الدولة اليهودية"، يلبّي حاجة الفريقين إلى مرجعية متماثلة حول الديمومة عبر الحلم، ويستجيب لمنظومات أخلاقية علي الجانبين أيضاً: المنظومة الأولى تخضع الحلم للعقيدة الدينية، والمنظومة الثانية تخضع الحلم للمؤسسات الديمقراطية. وأما الحلم ذاته فإنه يواصل إنتاج ذاته، وأحياناً بمعزل حتى عن تمثيلاته التي يعيد الفريقان إنتاجها في صورة النسخة المطابقة.
وبالطبع... ثمة، في الآن ذاته، هرتزل واحد جوهري بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين ليس من حقهم، وليس في عداد رفاهيتهم، أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذه الحرب الثقافية بين جلاد وجلاد. وهرتزل الجوهري هذا هو الرؤيوي المؤسس للقومية اليهودية الحديثة من جهة (الأمر الذي يجعله نبيّ جميع القوميين اليهود، من متدينين وغير متدينين، ومن حزب العمل إلى حزب الليكود)؛ وهو من جهة ثانية الرؤيوي المبشِّر بدولة حديثة قائمة على احترام المؤسسات وفق الشعار الأشهر: كما أنّ "مقام الجنود هو الثكنة وليس وزارات الدولة، فإن مقام الحاخامات هو الكنيس وليس الحكومة". ولكنّ هرتزل، على رأس مجموعة المنظمة الصهيونية بوصفها الحزب الجنيني الذي رافق الفكرة، لم يكن علمانياً على الإطلاق وأياً كان المعنى المقصود بهذا المصطلح. وفي أحسن الأحوال، وبمصطلحات أيامنا هذه، يستطيع المرء وصفه بالمفكّر المحافظ الذي آمن على الدوام بوجود رباط متين بين فكرة الدولة الحديثة التي تجمع اليهود من الشتات، وفكرة القومية اليهودية التي تشدّ أواصر اجتماعهم في كيان واحد.
وهرتزل الجوهري هو الذي حاجج بأن قوّة هذه الدولة لن تعتمد على الجبروت العسكري وحده، بل أساساً على استشراس دبلوماسي في إقناع القوى الكبرى بأن قيام وبقاء الدولة يصبّ في مصالح تلك القوى. وأما في الداخل فإن تماسك الدولة لن يعتمد على ثرواتها المادية وحدها، بل أساساً علي تطوير تلك الثروات الروحية التي تعمّق الإحساس بوعي الذات ووعي الوجود. وكان الرجل واضحاً، والكتيب الصغير لم يكن يحتمل الكثير من الإلتباس في كل حال، حين أشار إلى ثلاثة أنواع من هذه الثروات الروحية: 1) روحية الاستثمار في الأعمال والتجارة، الأمر الذي سيتيح لليهود (وللمرّة الأولى في الألفية السالفة بأسرها) فرصة تطبيق مهاراتهم الإبداعية في هذا الميدان الذي عُرفوا به تاريخياً في كل حال؛ و2) روحية التفوّق الثقافي والعلمي، حيث ستعطي الأدمغة اليهودية أفضل ما تحلم به الإنسانية من إنجازات؛ و3) روحية الديانة اليهودية ذاتها، وهنا بيت القصيد.
ولقد كتب هرتزل: "طيلة السنوات الممضة من ليلهم التاريخي الطويل، لم يكفّ اليهود عن إدامة هذا الحلم البديع النبيل: السنة القادمة في أورشليم! وليس في وسعنا أن ندرك هويتنا التاريخية إلا إذا عملنا بوفاء مطلق لهذا الحلم الذي لازم الأسلاف وينبغي أن يلازمنا". ولسبب كهذا تحديداً، قال هرتزل بضرورة أن يكون الحاخامات على مرمي حجر من الساسة... دائماً وأبداً. وكتب بصراحة بليغة: "في الدولة اليهودية القادمة، لا بدّ من بقاء الكنيس ماثلاً أمام البصر. ينبغي أن يظل مرئياً".
أليس من الطبيعي، والأمر هكذا، أن يكون القسّ اليميني المسيحي جيري فالويل أكثر صهيونية من تسعة أعشار الصهاينة؟ وهل تبقى من تراث الصهيونية سوى خيارات جنرال ـ رئيس وزراء مثل شارون، يقتدي بالبربرية النازية أكثر بكثير من استظهاره لكتيب صغير يُدعى "الدولة اليهودية"؟