الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
يمتلك الوطن العربي قدرات بشرية هائلة وكوادر فنية من مختلف المستويات والتخصصات، ولهذه القدرات دورها الفاعل في عملية التنمية الشاملة والنهضة الحضارية. (ولكن هذه المؤهلات والطاقات تعيش حالة غربة واحتقار وإهمال في بلادها نتيجة نظم سياسة تعيش على المحسوبية والواسطة والمكائد السياسية والصراع البيروقراطي، ونتيجة إعطائها وظائف إدارية تبعدها عن المناقشات الجادة للمشاريع والبرامج الإنمائية، فتلجأ هذه العناصر التي تمتلك الإعداد والخبرة والطموح والقدرة إلى الهجرة، وتصادف التسهيلات والإغراءات والراحة والإشباع النفسي والرضا المهني في البلدان التي تهاجر إليها). (1) هذه هي هجرة الكفاءات العربية.
لاشك أن للكفاءات العالمية والخبرات العلمية الوطنية والأجنبية دور هام جدا في عملية الإقلاع والنهوض والتقدم في الدول النامية. وهي عامل هام من عوامل التخلص من التخلف وأعراضه وبناء عملية التنمية الشاملة. والتجارب التاريخية في العالم تؤكد ذلك. ( وقد كانت تجربة اليابان أشد لفتا للنظر. إذ أننا نجد هنا ثقافة غير أوروبية تتفاعل بنجاح بثقافة الغرب. فقد " استهلكت" اليابان ما بين عامي 1872 و 1892 خدمات حوالي 19000 فرد / سنة من الأساتذة والمهندسين والكتبة والحرفيين وغيرهم من الأجانب لإحداث تحول جذري في مؤسساتها التعليمية والحكومية والخاصة.(2) واستطاعت اليابان من خلال الاستفادة من التقدم التقني في أوروبا الغربية والتكنولوجيا الحديثة،إن تبني اقتصادا وطنيا متينا نهض باليابان من مراحل التخلف إلى مصافي الدول المتطورة، بل جعلها إحدى الدول التي تخشاها الدول العظمى اقتصاديا مثل الولايات المتحدة الأمريكية ( المنافسة الاقتصادية ). في الوقت الذي نلاحظ فيه استعانة اليابان بالخبرات والكفاءات العالية الأجنبية لبناء اقتصادها وتقدمها، نجد أن العقول العربية تهاجر خارج حدود الوطن العربي لتسهم في تقدم الدول المتقدمة. تاركة دولها وشعوبها تعاني من رضوض الاستعمار والتخلف.
وفي غضون ألأربعين سنة الفائتة، نالت معظم الدول العربية استقلالها التام وشرع بالقيام ببرامج واسعة النطاق لمحاربة التخلف، وقد جمعت هذه الجهود عامة بين مناهج التناول الكلاسيكية الثلاثة، أي: الدراسة في الخارج، وتوسيع المؤسسات التعليمية الوطنية، واستخدام الخبراء الأجانب. وهكذا كان في سنة 1978، أكثر من 25000 طالب عربي في الولايات المتحدة، وإعداد اكبر في أوروبا والاتحاد السوفيتي. وفي سنة 1980 سيزيد عدد خريجي الجامعات العربية عن مليون ومائة ألف. وفي المملكة العربية السعودية وحدها أكثر من 100 ألف أوروبي وأمريكي، وأكثر، ولا ريب، عن مليون عربي ينتمون إلى فئات " المعلمين والمهندسين والكتبة والحرفيين" وقد يكون من المفيد أن نلاحظ هنا أن عدد السعوديين الذين نالوا درجة الدكتوراه في الولايات المتحدة حتى سنة 1979 هو أكثر من 1000، أي أكثر من عدد مواطني الولايات المتحدة الذين حصلوا على درجاتهم في أوروبا، في القرن التاسع عشر. وقد كان عدد الباحثين منذ بضع سنين 18 ألفا في مصر وحدها. (3)
ويتميز الوطن العربي بتوفر جميع العوامل التي تعتبر ضرورية للانطلاق والتقدم كالقوى البشرية والأموال والموارد. ولكن كيف يتم استخدام القوى البشرية في الدول العربية؟ ومن هو المسؤول عن هروب العقول وهجرة الأدمغة خارج أقطار الوطن العربي؟
أولا ـ مشكلة هجرة العقول:
بلغت مشكلة هجرة العقول العربية والكفاءات العالية إلى خارج الوطن العربي درجة من الأهمية جعلها احد القضايا الهامة التي تواجهها عملية التنمية الاقتصادية الاجتماعية، بل من أهم القضايا التي تجابهها البلاد من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وتتمثل أهم الآثار السيئة لهجرة الأدمغة على المدى الطويل، في كونها تؤدي إلى صرف الانتباه عن القضايا الأكثر أهمية التي تواجهها الدول العربية. إن عجز حكومات الدول العربية عن المعالجة الحازمة لمشكلة هجرة العقول كان عاملا مساعدا ومهما إن لم يكن حاسما، مسؤولا عن تزايد واطراد الهجرة إلى خارج حدود الوطن العربي. لكننا لا نستطيع أن نفصل مشكلة هجرة الأدمغة عن التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي.
إن هجرة العقول من البلدان العربية خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية لهي ظاهرة ذات ارتباط وثيق باستغلال الدول الإمبريالية المتقدمة للبلدان النامية، ذلك الاستغلال الذي يعود إلى وضع هذه البلدان في النظام الاستعماري العالمي، والى تبعيتها الاقتصادية للدول الإمبريالية. ولقد اتخذ هذا الاستغلال بعد الحرب العالمية الثانية أشكالا متعددة، منها استنزاف الثروات الطبيعية للدول النامية واستغلال قواها العاملة. ولقد اكتسب استغلال القوى العاملة المؤهلة تأهيلا عاليا في البلدان النامية عن طريق هجرة العقول إلى الدول الرأسمالية المتقدمة، أهمية متزايدة خلال العقدين الأخيرين. (4)
إن ظاهرة هجرة الأدمغة ( هجرة أو هروب) مرتبطة بالاستغلال الإمبريالي أو الرأسمالي للبلدان النامية، لأنها جزء من التقسيم الدولي للعمل. إذ أن الدول الإمبريالية بالإضافة إلى الاستفادة من الموارد الطبيعية للبلدان النامية، فإنها تقوم باستغلال الكفاءات العالية لهذه البلدان عندما تهاجر إليها.
" وهكذا تعمل الدول العربية على تقديم هدية عزيزة للغرب تبلغ 7% من الأدمغة المهاجرة إليه مع أن العرب لا يشكلون سوى 4% من سكان كوكبنا الأرضي. ويشير الرقم الذي أوردته هيئات الرصد والإحصاء في العالم العربي إلى أن العرب خسروا ما يعادل 10.6 مليار دولار نتيجة هجرة الكفاءات العربية إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، والتي تقدر بحوالي 24000 طبيب و17000 مهندس 7500 فيزيائي و 18200 من الأيدي العاملة الخبيرة والفنيين"(5)
ووفقا للحسابات التي اجراها الخبير أنطوان زحلان حول هجرة العقول العربية إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1976 يبين أن نسبة المهاجرين من الأطباء قد بلغت 50% والمهندسين 23% والعلماء العرب 15% من مجموع الكفاءات العربية. هذا بالنسبة للهجرة خارج الوطن العربي (6). وبذلك نستطيع أن نتصور مقدار الخسارة التي لحقت بالعلوم العربية نتيجة لنزوح هؤلاء الأطباء والمهندسين والعلماء من أقطار الوطن العربي سواء ما يتعلق بما صرفته الدول العربية من تكلفة لتكوين هذه الأدمغة أو الخسارة التي لحقت بها نتيجة لعدم قيام هذه الأدمغة في العمل وخدمة وطنها، والاستفادة من خبراتها.
ثانيا ـ أنواع الهجرة:
يتوزع السكان في العالم بصورة غير متوازنة حسب القارات، وتحتل آسيا المركز الأول ويقطنها 55.7% من سكان العالم، أمريكا 14% أوروبا 13.2%، أفريقيا 9.6%.
ويرتبط تطور أية مجموعة سكانية بعدد الولادات وعدد الوفيات الحاصلة خلال عام واحد، وتكون نسبة الزيادة السكانية الطبيعية لدولة معينة هي عبارة عن الفرق بين نسبة الولادة ونسبة الوفيات، وأدت الاكتشافات الطبية وتطور العلم إلى انخفاض نسبة الوفيات، وأصبح عدد السكان المسنين يمثل جزءا متعاظما من مجموع السكان وتتألف مجموعة السكان لبلد معين من الناحية الاقتصادية من فئتين:
1 ـ مجموعة السكان غير الناشطين: وتشمل جميع الأشخاص الذين لا يعملون أو الذين لا يقومون بوظيفة ما بسبب يتعلق بسنهم مثل ( الأطفال والشيوخ) أو لكونهم لم يجدوا عملا يقومون به.
2 ـ مجموعة السكان الناشطين: وتضم جميع الأشخاص من الجنسين الذين يعملون وينتجون أو يقومون بوظيفة مهنية، وتتكون القوة العاملة من مجموعة السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 20 ـ 59 سنة، وهي مجموعة السكان القادرين على العمل أو الذين يستطيعون الالتحاق بمراكز العمل، أما اليد العاملة في دولة ما فهي تمثل مجموعة السكان العاملين فعليا.
تخضع المجموعات البشرية ( المجموعات السكانية ) لحركات كبيرة أو صغيرة تعبر عن نفسها بالانتقال من مكان لآخر، وقد تنمو أحيانا وتتراجع في حين آخر، خاصة ما يتعلق منهم بمجموعة السكان الناشطين، وهذا ما يسمى بالهجرة، ولكن عندما تتعلق الهجرة بفئة معينة من المجتمع مثل الأطباء المهندسين والعلماء نسميها هجرة الأدمغة.
وهناك عدة أشكال للهجرة، وذلك حسب اتجاه الهجرة أو حسب الوقت الذي تستغرقه، أو حسب كفاءات ومؤهلات المهاجر أو حسب أسباب الهجرة نذكر منها:
أ ـ حسب اتجاه الهجرة:
1 ـ الانتقال من الدول النامية إلى الدول المتطورة أو العكس.
2 ـ الانتقال ضمن الدول المتطورة.
3 ـ الانتقال ضمن الدول النامية.
4 ـ الانتقال من الدول النامية للعمل في المنظمات الدولية ( الأمم المتحدة )
ب ـ حسب الوقت الذي تستغرقه الهجرة: وهي أما أن تكون مؤقتة أو دائمة.
ج ـ حسب ظروف الهجرة: وهي إما أن تكون حرة وصاحب القرار في الهجرة هو المهاجر نفسه دون أن يؤثر على هذا القرار أي مؤثر خارجي أو أن تكون هجرة إرغامية حيث يكون المهاجر مرغما على الهجرة من وطنه إلى بلاد أخرى.
د ـ حسب الكفاءات والمؤهلات:
1 ـ هجرة عمال عاديين غير مهرة.
2 ـ هجرة الكفاءات العالية ( مهندسون، أطباء، علماء )
هـ حسب أسباب الهجرة: وهي إما أن تكون اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.
د ـ الهجرة الاستيطانية.
كانت الهجرات تتم في الماضي بصورة إعداد كبيرة من العمال غير المؤهلين كانوا يهاجرون كقوة عاملة من منطقة لديها فائض إلى مناطق تعاني من نقص في القوة العاملة، وفي معظم الأحيان كان المهاجرون يستقرون في المناطق التي هاجروا إليها حيث أصبحوا مرتبط اقتصاديا بها، ولكننا بدأنا نلاحظ ظاهرة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية تتمثل في هجرة القوة العاملة المؤهلة ذات الكفاءات العالية مثل ( العلماء، المهندسون، والأطباء ) من الدول المتخلفة إلى الدول المتطورة اقتصاديا، إلى الدول الغنية.
وفي بداية الستينات بدأت الدول النامية تحاول وضع البرامج والخطط الكفيلة بتقليص الفجوة في التطور بينها وبين الدول النامية الصناعية الكبرى( الدول المتطورة).
ولكن ظهرت بعض الظواهر التي تؤدي إلى زيادة الهوة بين الدول النامية والدول المتطورة وتعمق الفجوة في التطور من هذه الظواهر هجرة الأدمغة من الدول النامية إلى الدول المتطورة وخاصة القوة العاملة المؤهلة والكفاءات العالية التي تكون الدول النامية في مرحلة التنمية الاقتصادية بأمس الحاجة إليها، إن هذه الظاهرة أصبحت تدعى بظاهرة ( سرقة الأدمغة).
وتبدو هذه الظاهرة واضحة جدا في الدول العربية خاصة، حيث أن الأيدي العاملة الماهرة والمهندسين والأطباء ـ الذين أوطانهم بأشد الحاجة إليهم تهاجر إلى الدول المتطورة، مع العلم بان الاحتياطي الذي تملكه الدول العربية في الكوادر الفنية المؤهلة قليل نسبيا، وفي انتقال هذه الكفاءات تزداد الدول العربية فقرا في الكوادر الفنية المؤهلة، بينما تزداد الدول المتطورة فنا" وهذا يؤدي إلى ازدياد الفوراق في النمو والتطور الحضاري بين الدول النامية العربية وبين الدول الفنية التي بدأت تسرق الكفاءات العربية لتوظيفها في خدمتها بدلا من أن تقوم هذه الأيدي في المساهمة بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان التي تنتمي إليها.
وتشير بعض الإحصائيات إلى انه خلال الفترة 1965 ـ 1971 هاجر من الدول النامية إلى ثلاثة دول متطورة تحتل المركز الأول في عملية سرقة الأدمغة حوالي /222438/ شخص بين عالم وطبيب ومهندس حوالي 80% منهم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية /176838/ شخص والباقي إلى كندا /33110/ والى بريطانيا /12490/ والشيء الذي يزيد هذه المشكلة تعقيدا هو أن أعداد المهاجرين ذوي الكفاءات العالية تزداد باستمرار حيث ازداد عدد الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ووصل في عام 1972 إلى حوالي /39106/ أشخاص(8).
ولقد أدت هجرة الأدمغة إلى تواجد حوالي 10% من القوة العاملة ذات الكفاءات العالية في الدول النامية خارج أوطانهم الأصلية، وخاصة الأطباء والمهندسون.
" أثناء فترة 1966 ـ 1977 دخل حوالي ستة آلاف عالم ومهندس مولودين في الدول العربية إلى الولايات المتحدة الأمريكية كمهاجرين. وشكل المهاجرون من العلماء والمهندسين من الدول العربية حوالي 5 في المائة من مجموع المهاجرين من العلماء والمهندسين الذين دخلوا إلى الولايا المتحدة أثناء هذه الفترة، كما شكلوا نحو 5 في المائة من مجموع سمات الهجرة عن هذه البلدان. ويتألف أكثر من ثلثي هؤلاء المهاجرين من المهندسين، وربعهم من علماء الطبيعيات، والباقون من علماء الاجتماع.
إن المصدر الرئيسي للعلماء والمهندسين المهاجرين إلى الولايات المتحدة من الدول العربية هو مصر، التي هاجر منها نحو ثلثي المجموع. وهناك مصادر رئيسية أخرى هي: العراق، لبنان، ويقدم كل منهما نسبة 10 في المائة من المجموع، وسورية والأردن، ويقدم كل منهما أكثر من خمسة في المائة من المجموع، وفلسطين التي أسهمت بنحو 4.5 في المائة من المجموع. (9)
رابعا ـ هروب الكوادر الوطنية المؤهلة:
تحديد السياسة التنموية الواجب إتباعها في الوطن العربي وتوظيف الأموال في خدمة عملية التنمية والتطور، ثم تحديد الأهداف ووضع الخطة العلمية السليمة لتحقيقها وكذلك توظيف القوى العاملة والكوادر الوطنية الفنية المؤهلة والكفاءات العالية في خدمة عملية التنمية الاقتصادية الاجتماعية، هذه هي الشروط التي إذا تحققت تستطيع القول أن عملية التنمية تسير بطريق سليمة وسوف تحقق وتائر عالية من النمو ورفاهية مؤكدة لأبناء الوطن جميع هذه الشروط هامة وضرورية ولكن الشرط الأخير وهو توظيف القوى العاملة والكوادر الوطنية في خدمة عملية التنمية هو الشرط الأكثر أهمية.
حيث أن الكوادر الفنية الوطنية ذات الكفاءات العالية هي التي تسهر على مراقبة تنفيذ عملية التنمية وتمارس مهامها في هذه العملية، وبقدر ما تكون هذه الكوادر مخلصة لموضوع التطور والتقدم في بلدها بقد رما تتسارع وتائر النمو الاقتصادي الاجتماعي وبالتالي زيادة ورفع مستوى المعيشة في هذا البلد، لذلك نرى أن الدولة تهتم ببناء كوادر فنية مخلصة وهي تسارع ضمن مخططاتها من اجل بناء الكفاءات والخبرات العالية لمواطنيها بناء متكاملا مع بقية القطاعات الأخرى بما يخدم عملية التطور والتقدم، ولابد من توفير فرص العمل اللازمة واستيعاب القدرات العلمية الوطنية وتوظيفها في المكان المناسب الذي يكون عاملا محرضا للتطور.
ونجد أن هجرة الأدمغة تعتبر من أهم المشاكل التي تعاني منها أقطار الوطن العربي حيث أن عدد كبيرا من الخبرات والعلماء والاقتصاديين العرب يعملون خارج الوطن العربي إما أنهم درسوا هناك واستقروا في البلدان التي حصلوا فيها على الخبرة والعلم أو أنهم بعد الحصول على الكفاءات والخبرات عادوا إلى أوطانهم ولكنهم لم يجدوا المكان المناسب الذي يستطيعون من خلاله أن يتابعوا البحث العلمي الذي بدأووه ولذلك هاجروا مرة ثانية إلى البلدان التي قدمت لهم الإغراءات المادية والمعنوية،ومشكلة هجرة الأدمغة هذه من اخطر المشاكل التي تواجه عملية التنمية في الدول العربية حيث لا يمكن الاعتماد على الخبرة الأجنبية التي لن تكون أبدا مخلصة إلا لبلادها ولا يمكن أن تعوض الخبرات الوطنية العربية أو أن تكون بديلا عنها.
وقد يكون هروب الأدمغة إلى الداخل أيضا، عندما نلاحظ أن بعض الدول العربية والدول النامية، يفضل أبناؤها المهن الإدارية عن مجال البحث والعلم، لذلك يترك كثيرا من العلماء مجال البحث العلمي عندما تعرض عليهم مناصب إدارية أو سياسية وهذا يعود طبعا إلى أن الإداري أو السياسي يلقى من التقدير أكثر مما يلقاه العالم إضافة إلى التمييز في المعاملة بين الخبراء المحليين والخبراء الأجانب، عندما يلاقي الخبراء الأجانب من التقدير أكثر مما يجده أقرانهم من الخبراء المحليين أو العرب الذين يساوونهم مكانة ومؤهلات. (10)
كيف أصبحت اليابان من الدول الصناعية والمتطورة؟ وكيف أصبحت المنتجات اليابانية من السيارات والالكترونيات تغزو أسواق العالم وتزاحم المصنوعات الأمريكية والأوروبية وتفوز عليها؟ ولماذا بدأت الولايات المتحدة الأمريكية ودول السوق الأوروبية باتخاذ الإجراءات للحد من المنافسة اليابانية لبضائعها التي بدأت تغزوها في عقر دارها. مما أدى إلى كساد منتجاتها ومصنوعاتها.
يروى أن اليابان بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية وتدمير البلاد قد بدأت من نقطة الصفر. حينذاك أوفدت الحكومة اليابانية، إلى أوروبا الغربية مركز التكنولوجيا الحديثة والعلوم المتطورة مجموعات كبيرة من الشباب، في بعثات علمية للحصول على الخبرات والكفاءات والتقنيات الحديثة وأسرار الصناعات المتطورة، والعودة إلى اليابان للاستفادة منها في تطور وتقدم البلاد. أما الموفد الذي يعود فاشلا" في دارسته، ودون أن يحصل على شيء جديد يفيد بلاده، يعتبر هذا جريمة وطنية في حق اليابان عقوبتها الإعدام، وتم فعلا" إعدام بعض الذين فشلوا في دراستهم حين عادوا إلى وطنهم.
النتيجة أصبحت اليابان خلال سنوات معدودة من الدول الصناعية الكبرى التي يحسب لها ألف حساب ليس من الدول النامية بل من الدول الصناعية المتطورة مثل أمريكا والدول الأوروبية. وأخذت منتجاتها تغزوا أسواق العالم هذا يوضح لنا دور الكفاءات العالية في بناء تطور وتقدم أوطانهم. وفي صنع الحضارة الإنسانية.
خامسا ـ كلفة تكوين " الدماغ":
يقصد بالعقول المهاجرة ( هجرة الأدمغة) عادة الكفاءات العلمية، من مهندسين، وأطباء مختصين، وفيزيائيين، وكيميائيين، وعلماء إضافة للأيدي العاملة الماهرة، الذين تقود اختصاصاتهم وعملهم إلى نهوض البلد الذي يعملون به وتقدمه. ولهذه الكفاءات العلمية قيمة ذاتية عالية تتجاوز الحدود الإقليمية ولا تنحصر فائدتهم ضمن حدود دولتهم الأم فقط بل تتعدى ذلك إلى حدود أي بلد يعملون به ويستقبلهم.
يقول الفرد مارشال إن العنصر البشري من أهم عوامل التنمية الاقتصادية وهو ما يدعوه برأس المال البشري. لذلك فان هجرة الكفاءات والمهارات، إنما تنقل من الدول النامية رأس مالها البشري الذي كان يجب أن يساهم في عملية التنمية الشاملة. كما أن هجرة العمال، ولاسيما المهرة منهم تخلق أوجه نقص في العمالة وخاصة في مجال الصحة والتعليم.
" والحقيقة التي تقفز لكل ذي بصيرة هي أن في الوطن العربي قوة ( نابذة) أو ( طاردة ) تعمل على تغير العلماء وتهجيرهم كي تستقطبهم دول الغرب حيث يجدون بيئتهم المناسبة، وإذا كانت الدول العربية لا تفتقر للمصارف الراقية التي برهنت عن كفاءتها العالية في المعاملات المالية وتحديد مختلف أسعار العملات الصعبة بدقة متناهية، فهي تخلو تماما من ( بنوك الرجال) والتي تصرفها دول الغرب حق المعرفة فتمنحهم كل ما يمكن من حرية الحركة والمكانة التي يستحقونها وكم يخسر العرب من جراء ذلك رجالا أفذاذا لا يقدرون بثمن، وان كان الأخصائيون اليابانيون يحسبون أن كلفة تكوين" الدماغ" الواحد ما يعادل 125000 دولار أو قرابة 10 كيلوغرامات من الذهب الإبريز، هذا دون أن نأخذ بالحسبان ما سينتجه هذا العالم في المستقبل وما سيساهم به في رقي بلاده على مختلف المستويات مما لاتطاله الأرقام. (11)
وتشير الدراسة التي أعدتها فاطمة زهره افريحا حول هجرة الكفاءات في الجزائر إلى أن متوسط الكلفة السنوية لتدريس احد أفراد الكفاءات العالية في المؤسسات الوطنية تبلغ 70 ألف دينار جزائري، بالنسبة للموظف من الدرجة الأولى، ويصل إلى 61 ألف دينار، بالنسبة للموظف من الدرجة الثالثة. إضافة إلى هذه التكاليف التي تمثل المدفوعات الخارجية النقدية عن كل فرد، ينبغي إضافة التكاليف الأخرى مثل تلك المتعلقة بإدراة التدريب الأجنبي وهجرة الكفاءات ذاتها (12)
لقد أدت هجرة العقول والخبرات العلمية والفنية من الوطن العربي إلى عرقلة الجهود التنموية ومشاريع التنمية الشاملة وحرمتها من عناصرها الأساسية. ليس هذا فحسب بل ألحقت هذه الهجرة بالعالم العربي خسائر جسيمة من ناحية المبالغ والكلفة التي قدمت لتكوين هذه الأدمغة والكفاءات أثناء الدراسة. والأكثر إيلاما" أن الهجرة مازالت في تزايد مستمر نحو العالم الرأسمالي الغربي بشكل خاص.
سادسا ـ أسباب الهجرة:
يحاول ( ويليم قلازر w. GLAZAR ) في دراسته التي أعدها لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث حول هجرة الأدمغة، أن يحدد دوافع هجرة الكفاءات من خلال تسليط الضوء على المهاجر والبلد المضيف بما يقدمه من إغراءات للهجرة. أما الموطن الأصلي فان له دور سلبي، لعدم قيامه بتأمين الظروف والشروط المادية والمعنوية التي تحتاجها الكفاءات. ويعطي مثالا هنا عن دوافع الطلاب للهجرة وقرار الدراسة في الخارج ومتابعة الاختصاص، وماهية روابط هؤلاء الطلاب بالموطن الأصلي، والدور السلبي له في عدم تأمين ما يمكنهم من الدراسات العليا ومتابعة الاختصاص (13)
يساعد البلد المضيف على هجرة الكفاءات من الدول النامية عن طريق توفر عوامل الترفيه والجذب الذي يأخذ شكل استقطاب نحو الدول المتقدمة. ( إن مصدر عوامل الجذب بالنسبة للجزائر ينشأ في البلدان المتقدمة بصفة عامة، وفرنسا بصفة خاصة، هناك نوع من الاستقطاب من جانب واحد يحكم العلاقات بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية. )0 وهناك أسباب كثيرة لعوامل الجذب هذه. أولا المرتبات اسمية كانت أو فعلية، تتميز بأنها أكثر ارتفاعا في البلدان المتقدمة. يضاف إلى ذلك أن السلع الاستهلاكية متوفرة هناك بدرجة اكبر، وان الطلبة والمتدربين يتعودون عليها. وعندما يعودون إلى الجزائر يجدون أن هذه السلع نادرة إلا بالنسبة لقلة متميزة قادرة على توفيرها رغم مشكلات التوزيع السائدة)(14) إضافة إلى قدرة الدول المتقدمة على تأمين الجو العلمي والفني والثقافي الذي تحتاج إليه الكفاءات العالية.
ونرى أن الأسباب الرئيسية لمشكلة هجرة الأدمغة هي:
ـ مستويات صافي الأجور للكفاءات العالية.
ـ إبعاد وتهميش الخبرات والكفاءات والاختصاصين وذلك نتيجة للقمع الإداري الذي يمارسه بعض البيروقراطيين بسبب تخوفهم من الخبرة القادمة هدفهم تحقيق مصالحهم الشخصية قبل مصلحة الوطن.
ـ إيلاء مكانة ارفع لرجال السياسة والإدارة بمقارنتهم بالعلماء.
ـ عدم الاهتمام بالابحاث والدراسات العلمية التي تعتبر غذاء للاختصاصيين يدعوهم للعمل والاستمرار ويفيد الوطن بتحسين أساليب العمل والإنتاج وتطويره.
ـ عدم وضع الرجل المناسب. والإحباط الناتج عن نقص التسهيلات العلمية الكافية ( مخابر، مكتبات، معدات )
ـ عدم احترام القدرات العلمية والفنية والكفاءات التي ترغب صادقة في خدمة وطنها وتنمية خبراتها. مع الافتقار إلى التشجيع من قبل زملاء المهنة.
سابعا ـ خاتمة
ينبغي على الدول العربية أن تتخذ بعض التدابير للاحتفاظ بالكفاءات العالية العربية، واستعادة الأدمغة التي هاجرت، أهمها: (15)
ـ تحسين مستوى الدخل وزيادة المرتبات، وتحسين ظروف العمل.
ـ إشاعة جو من الاحترام والتقدير للعلماء
ـ إنشاء مؤسسات علمية جيدة التجهيز وتشجيع الطباعة والنشر على الصعيد المحلي، وتسهيل وتشجيع نشر الإنتاج العلمي.
ـ إنشاء مراكز بحوث وطنية للعلماء والمتفوقين، وتوفير الفرص لمتابعة أحدث التطورات في البحث العلمي( الدورات، المؤتمرات، المكتبات )
ـ تطوير النظام التعليمي بحيث يتجاوب مع الاحتياجات الوطنية، سلامة توزيع المنح الدراسية، مع الحفاظ على صلات كافية بالدراسين في الخارج.
ولابد من التعاون بين الدول النامية والدول المتقدمة والمنظمات الدولية في حل مشكلة هجرة الكفاءات، لان ذلك سيكون أكثر جدوى وأكثر فعالية.
اتخذت الحلقة الدراسية التي عقدت في تونس ( 4 ـ 6 تشرين الأول 1976) بإشراف رابطة الشبيبة العلمية والتعاون مع منظمة ( اليونسكو ) لمناقشة وضع العلماء والكفاءات العالية في الدول النامية، اتخذت بعض التوصيات لمعالجة مشكلة هجرة الأدمغة ( إن إيقاف هجرة الكفاءات والنهضة العلمية في البلدان العربية لابد أن يقوما على أساس تهيئة الظروف المادية المناسبة للعلماء، وفي ظل بيئة ملائمة من الناحية الاجتماعية والثقافية، مع إشراك العلماء في عمليات التخطيط الإنمائي واتخاذ القرارات على الصعيد الوطني. )(16)
كما قامت منظمة ( اليونسكو) بتنظيم أول مؤتمر دائم لوزراء الدول العربية المسؤولين عن تطبيق العلم والتكنولوجيا على التنمية في مدينة الرباط( آب 1976 ) وناقش المؤتمر موضوع هجرة العقول والكفاءات العربية. وحاول تقدير حجم هذه المشكلة في الدول العربية ( وقد طرحت على الاجتماع تقديرات مبدئية لحجم مشكلة هجرة الكفاءات العربية مشفوعة بعرض لعوامل ( الدفع والجذب) التي أدت إلى تفاقم حدة المشكلة في بعض البلدان العربية. وقد طرح في ذلك الحين اقتراح بتنظيم برامج ناجحة شأنها مساعدة الدول العربية على تجميع بعض مواردها البشرية والمالية بغية توفير فرص أفضل للكسب وللمعرفة على صعيد المنطقة)(17)
ويجب أن ندرك أن العقول التي هاجرت من أوطانها ( المهندسون والأطباء والعلماء والعمال المهرة) لا يعيشو في بلاد المهجر في نعيم مقيم وارتياح روحي ومعنوي بل منهم الكثير الذي يعاني الغربة. ويلاقي من الهم لبعدهم عن أهلهم وأوطانهم ومسقط رأسهم، ولعدم قدرتهم على الذوبان في البيئة المستضيفة الجديدة، مع عائلاتهم وأبنائهم وبناتهم بعد أن يبلغ سن الرشد. وضياعهم بين تراثهم الروحي وحضارة البلد الذي فرض عليهم العيش فيه.
إن عملية التنمية الشاملة دائمة ومستمرة، وهجرة الكفاءات العربية لها اثر كبير على سير هذه العملية في الوطن العربي. لذلك إذا أردنا أن تحقق تنمية شاملة لابد لنا من معالجة مشكلة هجرة العقول العربية، ومعالجة الأسباب التي أدت إلى هجرة الكفاءات والخبرات والمهارات، وبناء كوادر وطنية قادرة على قيادة وخدمة الاقتصاد الوطني.
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق - كلية الاقتصاد
[email protected]