باحث وخبير بحريني في الشؤون الآسيوية
بمناسبة زيارة رئيس الحكومة "الإسرائيلية" أرييل شارون الرسمية والأولى من نوعها الى الهند يزداد بكاء العرب ونحيبهم على اللبن الهندي المسكوب، وبنفس الطريقة التي بكوا فيها من قبل على اللبن الصيني المسكوب يوم أن حل جيانج زيمين في تل أبيب مدشنا عهدا غير مسبوق من التعاون ما بين بلاده والدولة العبرية. وبدلا من أن يحاسبوا أنفسهم ويمتلكوا شجاعة الاعتراف بتقصيرهم، فأنهم يلجأون الى انتقاد الهند، بل الى شتمها وتهديدها كما لو كانت إحدى جمهوريات الموز الخائبة.
وفيما هم على هذه الحالة يتساءلون: كيف قبل بلد رفض قبل نحو أربعة عقود أن يأذن لرئيس الدولة العبرية بمجرد لمس قدميه التراب الهندي، أن يستقبل رئيس حكومة ذات الدولة بالأحضان؟ وكيف لنظام قام على التسامح والسلام واللاعنف ودعم الشعوب المقهورة وغير ذلك من المبادئ العظيمة التي آمن بها المهاتما غاندي ودفع حياته ثمنا من اجلها أن يحتفي برجل تلطخت يداه بدماء الأبرياء ووصلت أخبار جرائمه الى كل الأصقاع؟ وكيف لساسة لطالما عارضوا فكرة إقامة الكيانات السياسية على أساس ديني صرف، أن يقبلوا التعاون مع دولة لا يختلف اثنان على حقيقة استنادها الى الدين حصرا من بعد باكستان؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات تكمن ببساطة في المصالح، التي لا تعرف صديقا دائما أو عدوا ثابتا وتتغير فتتغير معها السياسات والمواقف والأحلاف. وهذا ما لا يدركه العرب، أو لنقل انهم يدركونه لكن من دون إتقان فنون التعاطي معه، مستسلمين دائما لضغوط الأيديولوجيا والعواطف في علاقاتهم بالآخر، في وقت لم تعد فيه العلاقات الدولية محكومة بالأيديولوجيا والمثاليات، وإنما بالمصالح المشتركة وحدها.
إن اختلاف المشهد ما بين عام 1966 حينما حطت طائرة الرئيس "الإسرائيلي" الأسبق زالمان شازار في مطار كلكتا وهو في طريقه الى النيبال، لكن من دون أن يتمكن من الترجل منها لقضاء ليلة وحيدة على الأراضي الهندية ريثما تتحسن الأحوال الجوية في بلد الوجهة الأصلية كنتيجة لرفض نيودلهي التعامل مع الزائر المفاجئ حتى على مستوى موظفي التشريفات، وعام 2003 الذي حل فيه شارون ضيفا رسميا على الدولة الهندية وفرشت له السجادة الحمراء، لهو كبير كبر الأحداث والمتغيرات التي توالت على العالم ما بين التاريخين، وفشل العرب في قراءتها والتعامل معها بطريقة صائبة.
في زمن حدوث المشهد الأول لم تكن هناك حاجة هندية ملحة الى توثيق الروابط مع الدولة العبرية. كانت الأخيرة وقتها شبه منبوذة سياسيا، ولم تكن قد حققت بعد طفرة اقتصادية أو صناعية أو تكنولوجية يمكن الاستفادة منها. الى ذلك كانت "إسرائيل" تقف في الخندق المعادي لموسكو، حليفة الهند الاستراتيجية الأولى وداعمتها الرئيسية في عملية البناء والتصنيع وتحقيق الاكتفاء الذاتي. ومن جانب آخر لم يكن لهاجس الأمن الداخلي الحضور الطاغي على فكر الساسة الهنود كما هو حالهم اليوم. إذ لم تكن الهند وقتها تواجه حركات مسلحة ذات امتدادات خارجية وصبغات إسلامية أصولية تستهدف استقرارها وسلامتها وديمومة كيانها الاتحادي وبما يبرر التحالف حتى مع الشيطان. نعم كان هناك هاجس التهديد الباكستاني، لكن موازين القوى العسكرية والجيوسياسية والاقتصادية المائلة لصالح الهند كانت كفيلة بالتعامل معه على نحو ما حدث في حرب عام 1965 ثم لاحقا في حرب البنغال. وكان هناك هاجس تفوق الخصم الصيني وتهديداته، لكن هذا أيضا تم التعامل معه بذكاء من خلال استغلال ظروف الحرب الباردة والنزاع الأيديولوجي السوفييتي الصيني.
وهكذا ظلت علاقات الهند ب "إسرائيل" التي لم تعترف بها الأولى إلا في عام 1953 كأمر واقع، محصورة في مكتب قنصلي معزول في بومباي دون أن يكون له مقابل في تل ابيب. بل إن هذه القنصلية لم يكن يسمح لها بالاحتفال سنويا بميلاد الدولة العبرية، وحينما حاولت ذلك ذات مرة ثم أصدرت بيانا ينتقد السياسات الخارجية الهندية طلب من مسؤولها الأول مغادرة الهند لتدخله في الشؤون الهندية الداخلية.
وبرغم ما أصاب الهنود من إحباط لمواقف الدول العربية غير الحاسمة من قضية صراعهم مع باكستان وخلافاتهم مع الصين، فإنهم لم يترددوا لحظة في دعم مختلف القضايا العربية في المحافل الدولية بقوة ابتداء من قضايا استقلال دول المغرب العربي وأزمة السويس وانتهاء بالقضية الفلسطينية واستعادة الأراضي المغتصبة بعد حرب يونيو/ حزيران. وحينما ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني كانت الهند أول دولة غير عربية تعترف بها وتمنحها وضعا دبلوماسيا في نيودلهي، ناهيك عن تقديم الدعم السياسي والإعلامي للمقاومة الفلسطينية، بل والمالي أيضا بحسب ما أخبرنا به أبوعمار يوم أن زرناه كطلبة في ما سمي بجمهورية الفكهاني داخل بيروت.
وسواء كان رفض الحكومة الهندية للانجذاب نحو الدولة العبرية وتحملها بصبر ضغوط المعارضة اليمينية الداعمة لفكرة الانفتاح على تل أبيب ردا على عدم مقابلة العرب للمواقف الهندية بالمثل وتفضيلهم للتعاون مع باكستان، أملتها اعتبارات مثل علاقة الهند التاريخية مع العرب أو اعتبارات أخلاقية ومبدئية أو اعتبارات عدم وجود مصلحة وطنية حقيقية، أو اعتبارات التنسيق مع الحليف السوفييتي في حقل السياسة الخارجية، أو اعتبارات الشراكة الإقليمية مع مصر عبدالناصر، أو اعتبارات استمالة الناخب الهندي المسلم، أو كل هذه الأمور مجتمعة، فان الجهود "الإسرائيلية" في سبيل كسب الهند أو على الأقل تحييدها في الصراع العربي "الإسرائيلي" لم تتوقف لحظة واحدة، كما لو أنها كانت تتوقع ثقل الهند المستقبلي. ومثلما يدعي العرب اليوم أن سبب ما يجري على صعيد العلاقات "الإسرائيلية" الهندية هو غياب حزب المؤتمر عن السلطة ووجود حكومة يمينية متطرفة في نيودلهي (رغم أن من فتح أبواب الهند ابتداء أمام "إسرائيل" هو رئيس حكومة حزب المؤتمر ناراسيمها راو في عام 1992 وبعدما تسابق العرب والفلسطينيون أنفسهم نحو التعامل والتفاوض مع تل ابيب، وصار من غير المنطقي أن تظل الهند ملكية أكثر من الملك)، فإن "الإسرائيليين" علقوا في الماضي أسباب ابتعاد نيودلهي عنهم على مشجب سياسات حزب المؤتمر. لذا فانهم بمجرد خروج الأخير من السلطة في عام 1977 للمرة الأولى منذ استقلال الهند هللوا ورحبوا بمجيء حكومة حزب جاناتا دال اليميني ومنوا أنفسهم بعلاقات متميزة مع الهند على حساب العرب، لكنهم صدموا بتبني الحكومة الجديدة لنفس سياسات سلفها. والمفارقة هنا أن من وجه لطمة الى وجه وزير خارجية "إسرائيل" موشيه ديان (الذي كان قد جاء على عجل الى نيودلهي في زيارة سرية) بقوله إن الهند لن تتعاون مع "إسرائيل" إلا بعد حل عادل للقضية الفلسطينية ولقضية الصراع في الشرق الأوسط هو أتال بيهاري فاجبايي وزير الخارجية وقتذاك وزعيم الهند الحالي.
ومرة أخرى أصيبت الهند بالإحباط من مواقف العرب يوم أن صموا آذانهم عن نصائح السيدة انديرا غاندي حول مخاطر مواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان بحرب جهادية مقدسة انطلاقا من باكستان. فقد رأت هذه السيدة العظيمة ببصيرتها الثاقبة وخبرتها السياسية الطويلة أن المحصلة النهائية سوف تكون زعزعة الاستقرار في عموم أرجاء شبه القارة الهندية والشرق الأوسط، وظهور حركات مسلحة أصولية لن تكتفي بالنصر في أفغانستان، الأمر الذي ثبت صحته لاحقا. لكن العرب رأوا في تلك النصائح مؤامرة تستهدف إطالة عمر الوجود السوفييتي في أفغانستان وتهديد باكستان، فألقوا بقضهم وقضيضهم خلف إسلام آباد وواشنطن اللتين كانتا تعملان من اجل مصالحهما الاستراتيجية الذاتية. وكانوا في هذا يعولون على أن الهند، مهما تبدلت حكوماتها فإنها في جيبهم، مذكرين دائما بحاجتها الى النفط العربي والأسواق العربية وتحويلات الهنود العاملين في الأقطار العربية، ونسوا أن دوام الحال من المحال وان البيئة الدولية والظروف الاقتصادية قابلة للتبدل.
وحتى حينما ثبت في التسعينات أن باكستان تستغل زخم الجهاد المتولد من الحرب الأفغانية في الإضرار بأمن الهند انطلاقا من كشمير من اجل غاياتها الاستراتيجية الخاصة، لم يتنبه العرب للمخاطر البعيدة لتلك السياسات على مصالحهم وروابطهم مع الهند. بل راحوا رسميا ومن خلال منظمة المؤتمر الإسلامي يضعون كل بيضهم في سلة باكستان مدفوعين بضغوط الأيديولوجيا، كما لو أن قضية كشمير هي قضيتهم القومية الأم أو كما لو أن تحرير كشمير وضمها الى باكستان سوف يحقق لهم الرفعة والنهضة المنشودة ويعزز مصالحهم العليا.
وقد يقول قائل إن المشهد الراهن للعلاقات الهندية "الإسرائيلية" كان سيحدث حتى لو لم يكن هناك تهديد للأمن الهندي من حركات الجهاد المسلحة. وفي هذا شيء من الصحة، خاصة حينما نأخذ في الاعتبار أن البلدين قد اصبحا اليوم خارج دائرة الدول البائسة وانتقلا الى دائرة الدول الصناعية والتكنولوجية الناهضة، مما يجعل تعاونهما واستفادة كل منهما من منجزات وأسواق الأخرى أمرا منطقيا. ف "إسرائيل" تستطيع أن تمد الهند بآخر تقنياتها العسكرية المتطورة مثل أجهزة الرادار والكشف والإنذار المبكر من نوع فالكون وصواريخ آرو وطائرات التجسس الخفيفة من اجل مواجهة خصومها في الشمال والغرب وتعزيز أمن حدودها. وفي المقابل تستطيع الهند أن تكتسح الأسواق "الإسرائيلية" خاصة بمنتجاتها من البرمجيات وتقنية المعلومات التي حققت فيها تقدما مذهلا، وان تبيع خبراتها وإنجازاتها في حقول الاتصالات الفضائية والزراعة والمنسوجات والأدوية ( ينتظر أن يرتفع حجم التبادل التجاري ما بين البلدين في عام 2004 الى ملياري دولار بعد أن كانت في منتصف التسعينات حوالي 500 مليون دولار). لكن الأهم من هذا كله هو وصول الهند من خلال المعبر "الإسرائيلي" الى التقنية الأمريكية الأكثر تطورا والى كسب دعم القطب العالمي الأوحد سياسيا واقتصاديا وعسكريا، في زمن لم تعد فيه وريثة الحليف السوفييتي السابق قادرة على تلبية طموحات الهند في الارتقاء الى مصاف الدول الكبيرة.
لكن هل يحق للعرب أن يعترضوا على تعاون كهذا في ظل عدم امتلاكهم شيئاً يقدمونه للآخر وفشلهم في تحقيق نهضة تكنولوجية أو صناعية توازي ما حققته "إسرائيل" أو غيرها من أقطار اصغر حجما واقل ثراء؟ وهل يحق لهم، وهم من لم يستثمر إمكانياته الكبيرة الاستثمار الأمثل، ولم يستفد من تجارب القوى الحية الناهضة، وظل يجري وراء الخاسرين والأمم البائسة باسم الأيديولوجيا، ويتفنن في تبرير إخفاقاته بالشعارات ونظريات المؤامرة، أن يملوا على الناجحين كيفية إدارتهم لعلاقاتهم الخارجية؟
إن هذا السؤال يقودنا مرة أخرى الى مسؤوليتنا عن ابتعاد أصدقائنا التقليديين عنا وتوجههم نحو عدونا التاريخي. لقد أضعنا زمنا طويلا من دون أن ننجز فيه أي إنجاز حقيقي يضعنا في مصاف العالم المتقدم القادر على التأثير في العلاقات والتحالفات الدولية، فحق للآخرين ألا يلتفتوا إلينا ويمضوا في طريقهم غير آبهين بخطبنا العنترية الفارغة.