سعيد الجعفر
الحوار المتمدن-العدد: 1950 - 2007 / 6 / 18 - 05:14
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بقلم: كارل يوهان جارديل(2)
عادت السلفية كحالة, للظهور ثانية في مختلف الأديان. وهي وبشكل رئيس أداة لتعبئة الفقراء والفئات
ا لمهمشة فيما يمكن تسميته بالموجة الثالثة للاحتجاج على التحديث.
أطاحت الثورة الإيرانية بالحياة السياسية في الشرق الأوسط ,ولو أردنا المغالاة ,في العالم كله وقضت على توازن القوى بين الدول الكبرى, وكشفت ظاهرة الانتحاريين في العقدين الأخيرين عن عجز الدولة الحديثة. فقد أكدت تفجيرات الحادي عشر من أيلول ضد مركز التجارة العالمية والبنتاجون من جديد على الفاعلية الكبرى للمنظمات الدينية الإرهابية. وخلال أكثر من 200 عام أي منذ عصر التنوير, تبنى الباحثون الغربيون ( والمتأثرون بالغرب) بلا تمحيص فكرة كون التصور الديني في العالم قد أخذ ينحسر بشكل تدريجي لصالح التصور العلمي والأيديولوجيات الوضعية. وفي نهاية الخمسينيات أكد آية الله الشيعي العراقي محمد باقر الصدر متشائماً كون جيل الشباب قد ابتعد عن الإسلام والمبادئ التي تسير عليها البلاد لصالح الشيوعية والحياة الغربية والفكر البعثي العروبي العلماني, ولم تسلم حتى المدارس الدينية من تلك التأثيرات. بيد أن الصحوة الدينية التي إنتشرت مثل النار في الهشيم في نهاية ستينيات القرن الماضي وسبعينياته قلبت تصورات القائلين بالفكر الوضعي رأسا على عقب. وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي بدأ العمل في" مشروع طموح" حول السلفية في جامعة شيكاغو وكان من المفترض ان يستمر لمدة عشر سنوات. وقد إشترك فيه ما يقارب 75 منظمة دينية سياسية فاعلة من جميع القارات وممن تملك جذوراً في مختلف الأديان العالمية, والتي قام بتحليلها الباحثون في الأديان والمؤرخون و المؤرخون ومختصو علم النفس والعلوم السياسية. وقد تمخض عن تلك المساهمة البحثية خمسة مجلدات ضخمة نشرت خلال الأعوام 91-95 ,وقد كان أحد المسؤولين عن المشروع المؤرخ الأمريكي ر.سكوت أبلباي R.SKOTT APPLEBY وهو ناشط في جامعة روتردام الكاثوليكية في ساوث بيند في ولاية إنديانا.
وبعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 والحرب الكونية ضد الإرهاب التي أعلنها الرئيس بوش, فإن ظاهرة السلفية الدينية /السياسية قد سيطرت على الخطاب السياسي بشكل لم يسبق له مثيل. وقد قام أبلباي بالتعاون مع المختص بالعلوم السياسية جابرييل آ آلموند GABRIEL A ALMOND والمؤرخ الإسرائيلي عمانوئيل سيفان IMMANUEL SIVAN , واللذان اشتركا في مشروع السلفية, بنشر كتاب يقرأ من عنوانه هو " الدين المكين. صعود السلفية في جميع أنحاء العالم"( 281 صفحة مطبعة شيكاغو). والكتاب الذي يلخص نتائج البحث المتمخضة عن المشروع حول السلفية( الآنف الذكر- المترجم) يوجه الانتباه وبطريقة تستدعي التفكير الى الظروف التأريخية والاجتماعية التي تساعد قي إيضاح موجة الصحوة الدينية التي أثرت على العالم في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.
تعتبر السلفية الدينية ظاهرة حديثة, وهي رد فعل على العلمانية التي نفذت وبسرعة في العالم مبتدأة في أوربا الغربية والولايات المتحدة قبل أكثر من مئتي سنة.وبإمكان السلفيين أن يشكلوا من جهة طوائف كارثية شاذة في البلدان المتقدمة ذات الرفاهية الاجتماعية, وأن يشكلوا رأس حربة في الأحزاب الشعبوية في المجتمعات التي تهزها أزمات عميقة في تركيبها الاجتماعي. فعدو السلفية هو التحديث بالذات بمدنه الكبرى المجهولة وحرية الاختيار والتنوع الثقافي والوفرة الغامرة للبدائل الكثيرة في وجهات النظر التي تدخل كل مكان وتطيح بالمؤسسات المتسلطة الثابتة. خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر بدأت الكنائس البروتستانتية في الولايات المتحدة ذات الإخلاص العميق بالمسيحية ببناء الجدران الأخلاقية إتقاءً للمحيط, كما يقول أبلباي. وبدأ التقوقع بشكل تدريجي في جيوب تشبه الغيتو في محاولة يائسة لحماية المؤمنين من مجتمع بدأ بالفساد يوماً إثر يوم, من مجتمع يعج بالإغراءات الآثمة. ومن بين التهديدات الثقافية الأكثر خطراً لاحت نظرية التطور الدارونية والتفسيرات الليبرالية للإنجيل الموجهة للعامة والتي كانت تهدد بهدم الأسس العقائدية للمؤمنين حرفياً بالإنجيل.
ظهر مفهوم السلفية الى الوجود لأول مرة سنة 1920 فقد جرى الحديث عن حماية أسس الدين المسيحي مثل استشهاد المسيح من أجل تخليص البشر و قصة الخلق التوراتية. ويمكن ملاحظة بصمات الثورات السلفية في جميع الأديان في أنحاء العالم قاطبة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
وتحسم الخصائص الشخصية للقائد الديني التطور اللاحق للحركة السلفية. والعامل الحاسم هو الشخصية الساحرة للقائد الديني, هذه الهدية التي وهبها الإله والتي تحسم فيما إذا كان( ويتعلق الأمر غالباً بالرجال) يصلح أن يكون راعياً لرعيته. ولما كانت النصوص المقدسة تعتبر الكلمات البحتة للرب, فإنه لا يمكن بناءً على ذلك وضعها موضع التساؤل من قبل الناس فإن القائد الموحى اليه هو فقط المهيأ لإعادة تفسير النصوص أو تجديدها بالشكل المطلوب بحيث لا يؤثر ذلك على وحدة المجموعة. فالقائد هو الوحيد القادر- مدعمّاً بنبوءات جديدة- على تغيير إستراتيجية المجموعة دون أن يخالف التقاليد. فالقائد ذو الشخصية الساحرة هو من يستطيع أن يمشط التركة الدينية الغنية ويستخرج الأماكن التي تحوي نصوصاً تمنح الأهلية لإستراتيجية جديدة.
قام الناشط الإسلامي في إحدى التنظيمات المسلحة والمدعو شكري أحمد مصطفى, والذي وجهت اليه في السبعينيات( من القرن الماضي- المترجم) تهمة محاولة قتل أحد الوزراء, بإلقاء محاضرة في قاعة المحكمة أمام القاضي المشدوه, بضرورة إعادة تفسير القرآن وتجديد ذلك التفسير. وقد قامت أغلب المجموعات الإسلامية المتطرفة الجديدة برفض المدارس الفقهية التقليدية والتطور الذي جرى على مدى الف سنة في مجال الفقه لصالح تفاسير مصممة بإتقان تلائم الحاجات الحالية للمجموعة المقصودة. وحتى في إيران لم تستطع النخبة الدينية أن تتوحد حين ثبتت الدكتاتورية الدينية نفسها بين أعوام 1979-1981. فقد أكد القائد الديني الكبير والمحافظ آية الله شريعة مداري بأن ولاية الفقيه, وهي نظرية الخميني التي لا سابقة لها القائلة بولاية رجل الدين على العالم, لا تملك دليلاً يدعمها لا في القرآن ولا في النصوص الدينية. فولاية الفقيه هي ابتداع حديث.
أغلب الحركات السلفية تبشر بكون يوم القيامة على الأبواب. فالمجموعة المسماة باليهودية السرية JEWISH UNDERGROUND وهي فصيل متطرف ضمن الحركة اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة غوش أمونيم, خططت مثلاً عام 1984 للقيام بقتل يأخذ شكل الطقس للمحافظ الفلسطيني للضفة الغربية وأن تقوم في الوقت نفسه بتفجير المسجد الأقصى في قبة الصخرة في القدس. وقد أرادت المجموعة الإرهابية مستندة الى النصوص المقدسة أن تمهد الطريق لإمكانية بناء المعبد الثالث ومن خلال ذلك تسرع عودة المسيح الى الأرض. وكما يعتقد أبلباي والمؤلفون المشتركون معه فإنه يمكن تصنيف الطوائف المؤمنة بفكرة نهاية العالم الى مجاميع مؤمنة بنهاية العالم قبل الألفية الثالثة ومجاميع مؤمنة بنهاية العالم بعد الألفية الثالثة. فالحركات المسيحية المؤمنة بنهاية العالم قبل الألفية الثالثة عادة ما تؤكد على أن الشر يحكم العالم. فكل يوم يمر يزيد الوضع سوءاً للقلة المؤمنة الباسلة أي مجموعتهم هم.وأخيراً وحين يبدو التشاؤم مطبقاً تقع المعركة الفاصلة بين قوى الخير والشر والتي تقود الى نهاية العالم حيث يعود المسيح ليقيم دولة الألف عام على الأرض. ويتصف المؤمنون بنهاية العالم قبل الألفية الثالثة بالسلبية. فهم من النوع الذي ينطوي على نفسه في مغارات في الصحراء, الأمر الذي فعلته جماعة التكفير والهجرة في مصر, منتظرين قدوم يوم القيامة. وقد قامت بعض المجموعات المسيحية في الولايات المتحدة، والتي تنتمي الى اليمين المتطرف، خلال العقود الأخيرة بالانطواء على نفسها في أماكن مهجورة في الغرب الأوسط (الأمريكي- المترجم) لبناء ملاجئ تقي من الحرب النووية منتظرين الحكومة الإلهية.
وعلى العكس فإن المؤمنين بنهاية العالم بعد الألفية الثالثة نشطون ويعتبرون أنفسهم حاملين لتفويض إلهي بتسريع أفول النظام الحالي في العالم. ومن الأمثلة على ذلك القاعدة واليهودية السرية التي ذكرناها سابقاً وجماعة الهجمات بالغاز اليابانية أوم شنريكيو AUM SHINRIKYO. بيد أن الجماعات السلبية كما يؤكد كتاب البحث ممكن أن تتحول الى مجاميع من الإرهابيين القتلة حين يجد القائد أن الوقت قد نضج. إن الكثير من القادة السلفيين واقعيون بشكل يجعلهم يسايرون الاتجاهات العامة وبخبرتهم المتراكمة يجعلون دوماً إطروحاتهم توائم الوضع الاجتماعي.
ففي عام 1979 أعلن المبشر التلفزيوني الأمريكي جيري فالويلGERRY FALWELL ، وهو أحد المبادرين لتشكيل حركة الأغلبية من أجل الأخلاق، بأن القوى الشيطانية قد ضاعفت من قوتها الى درجة يصعب معها النضال بشكل سلبي لتعجيل قدوم المسيح.
وبالطبع فأن الحركات السلفية الآسيوية، والتي تمتد جذورها في الهندوسية والبوذية والسيخية، لاتبني بالطبع تخيلات عن دولة الألف عام. ولكن الحلم في العودة الى بناء الدول الأسطورية المثالية أو بعثها من جديد والتي يقال أنها وجدت في حقبة ما قبل التأريخ يفي بالغرض ذاته. فالحركة التحررية المعادية للاستعمار والتي إنتشرت بين السنهاليين في سريلانكا تشبعت بكل من الدين والسياسة. وعلى المستوى السياسي فقد تطلع القوميون الى دولة سنهالية"نقية" العنصر دون الالتفات الى التاميل الهندوس والأقليات "الغريبة". وقد حكمت سيلان خلال أربعمئة عام من قبل البرتغاليين والهولنديين والإنجليز. وفي الوقت نفسه انبثقت حركة نهضة ثيرفادية- بوذية تطلعت الى تطهير الدين التقليدي مما دخلت عليه من العناصر الهندوسية والإسلامية والمسيحية. إن إعادة بناء المملكة البوذية القديمة والتي وصلت قمة ازدهارها في عهد القيصر الهندي المؤله أشوكا ( 272-231 ق م) كانت خلال فترة القرن العشرين بكاملها الهدف الطوباوي للأصوليين السنهاليين. فقد طبع الحياة السياسية في سريلانكا صراع دموي بين البوذيين والتاميليين منذ أن أصبح الحزب السنهالي القومي لبندرنايكه ( حزب الحرية السريلانكي) القوة المسيطرة في الحكومة بعد انتخابات 1956.
المثال الآخر هو خالصا دال KHALSA DAL وهي الحركة الإنفصالية السيخية التي سحقت عام 1983 حين اقتحم الجيش الهندي المعبد الذهبي في المدينة المقدسة أمرستار. وكان القائد صاحب الشخصية الساحرة جارنيل سنغ بندرا نواله قد وجد التأييد الرئيس لدى الفلاحين الصغار المدقعين من السيخ والطلاب الذين يعيشون دوماً تحت تهديد البطالة والتهميش. وقد طالب بندرانواله بدولة سيخية مستقلة- خالستان- تحكمها نخبة من المحاربين المقدسين ويمكن بلا شك مقارنة الحلم بخالستان الغد, وهي دولة دينية عادلة وشمولية يذوب فيها الدين والسياسة في بعضهما البعض, بالتصورات عن الجنة في دين البراهمة, بحسب أبلباي والكتاب المشتركين معه.
إن القمع والتهميش يقوي بلا شك نزعات القسوة لدى الحركات السلفية. فالملاحقة القاسية قد تفجر التهيؤات عن نهاية العالم وتغري القادة باستخدام إستراتيجيات إرهابية – في أشكالها المتطرفة قد تقود الى استخدام الأسلحة النووية- لكي يجري تنفيذ هارماجيدون (يوم القيامة بالعبرية – المترجم) حقيقي. ومن جهة أخرى يؤدي التسامح والتقبل الى طرح التخيلات عن نهاية العالم جانباً ويقو ي الاتجاهات الداعية الى الحوار مع المحيط داخل الحركة. ومن الأمثلة النيرة الحركة الشيعية حزب الله التي تحولت عقب إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990 من منظمة إرهابية قاسية الى حزب برلماني ومنظمة خيرية وإمبراطورية مالية. والمثال الساطع الآخر هو الحركة القومية الهندوسية هندوتفار المتواجدة في الهند وجناحها المدني وهو حزب السلطة الحالي باراتيا جاناتا. فالتقدم المثير في الانتخابات والمسؤولية الحكومية حولت الهندوس المتطرفين المسلحين الى برلمانيين يتقبلون الحلول الوسطية.
يمكن وصف الصحوة الدينية العالمية خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين بكونها موجة الاحتجاج الثالثة ضد الحداثة, كما يقول المؤلفون. فالموجة الأولى حدثت بعد نهاية الحرب النابليونية والثانية خلال فترة مابين الحربين العالميتين- أخذت طابع الأيديولوجيات الشبيهة بالدين مثل الفاشية والبلشفية والقومية العرقية المتطرفة. بيد أن الحركات السلفية الحديثة لا تريد بأي حال من الأحوال إرجاع الزمن الى الى الماضي السحيق.فالخرافة المتعلقة بالمجتمع المثالي لما قبل التأريخ والجنة الأولى التي تعود الى الظهور أبان عودة المسيح ماهي إلا أدوات تعبئة يستخدمها القائد ذو الشخصية الساحرة لكسب الأنصار من بين المتضررين من الوضع الاجتماعي. فالفئات الاجتماعية المظطهدة والتي ترعبها البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي تحمل بين ظهرانيها القاعدة الأساس للتعبئة للحركات السلفية.
إن الإستراتيجية الأكثر فعلاً لنزع سلاح السلفيين, كما يعتقد أبلباي والمؤلفون المشتركون معه, هي الإصلاحات الاقتصادية والسياسة المشجعة للتطور والديمقراطية. ولدعم هذه الأطروحة تضرب تونس مثلاً من بين الأمثلة العديدة. فحين تحسن الاقتصاد التونسي بسبب تحسن وضع الاقتصاد العالمي في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ( من القرن الماضي- المترجم) ترك أنصار السلفية المنظمات الإسلامية المسلحة الى اتجاهات معارضة لها. فقد اختفى الدافع الى الاحتجاج. فالأمل بمستقبل مشرق هو الخطر الأكبر على السلفية الحديثة.
(1) نشر هذا المقال بتأريخ 15 8 2003 في الملف الثقافي لصحيفة سفينسكا داج بلادتSVENSKA DAG BLADET وهي الصحيفة رقم 2 في السويد بعد الداغنز نيهيتر وتعتبر سفينسكا داج بلادت صحيفة ذات إتجاه محافظ بيد أني أرى المقال المنشور متصفاً بالموضوعية والرؤى الصحيحة فيما يخص معالجة مشكلة الحركات السلفية.
(2) يوهان جارديل
دكتوراه في التأريخ وصحفي في مجال الثقافة وبروفيسور ومؤلف للعديد من الكتب المهمة حول الحركات السلفية والنازية الجديدة والفاشية ويعمل أستاذاً في جامعة ستوكهولم
ترجمة سعيد الجعفر عن السويدية
#سعيد_الجعفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟