|
ثنائية -الإيمان- و-الإلحاد-.. نشوءاً وتطوُّراً
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 1950 - 2007 / 6 / 18 - 11:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الغالبية العظمى من البشر "يؤمنون" بوجود، وبوجوب وجود، الله، أو خالق الكون.. هذا الكون الذي اختلفت صورته في أذهان البشر باختلاف أزمنتهم العِلْميَّة. وهذا "الإيمان" لا نراه عند العامَّة من الناس فحسب، فجزء كبير، إنْ لم يكن الجزء الأكبر، من "الخاصَّة"، أي من أهل الفكر والثقافة والعِلْم والقلم، يقول بوجود "الخالِق"، ويَعْتَقِد بدين، أو بفكر ديني.
بعضٌ من "المؤمنين"، من العامَّة من الناس ومن ذوي الفكر والعِلْم، قد يُظْهِرون من القول والفعل ما يناقِض إيمانهم بوجود "الخالِق"، أو التزامهم الديني؛ ولكنَّ وعيهم، في عمقه وغوره، يَحُول بينهم وبين التأثُّر بـ "الفكر الإلحادي" تأثُّرا يَعْدِل لجهة قوَّته الإيمان بوجود "الخالق"، فقلَّةٌ من الملاحدة هُم الذين يملكون من صلابة الوعي الإلحادي ما يضاهي صلابة الإيمان بوجود الخالق.
وقد رأيتُ كثيرا من الملاحدة، أو ممَّن يدَّعون الإلحاد، في أحزاب شيوعية، أو ممَّن ينتمون إلى فكر إلحادي، في تناقض بيِّن بَيْن ما يُظْهِرون وما يُبْطِنون من فكر ووعي ومُعْتَقَد. إنَّهم، وفي الأحوال والظروف التي يُوْلَد فيها وينمو الإيمان الديني، يُظْهِرون من "الوعي الباطني" ما يجعلهم غير مختلفين، في الجوهر والأساس، عن المتدينين، أو المؤمنين بوجود "الخالق".
وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يدل على أنَّ الوعي الإنساني، في تطوُّره التاريخي، قد جعل عقول البشر ونفوسهم قوَّة جذب للإيمان الديني، بصوره ودرجاته ومستوياته المختلفة، وقوَّة طرد ونبذ للفكر الإلحادي، فالإيمان بوجود، وبوجوب وجود، "الخالق"، يظلُّ، مقارنةً بالإيمان المضاد، أو الفكر الإلحادي، الأقرب إلى عقول ونفوس البشر.
وهذا ما نراه واضحا لدى المقارنة بين نتائج جهد الإقناع (بوجود "الخالق") ونتائج جهد الإقناع المضاد، فليس ثمَّة ما هو أسهل وأيسر من أن تُقْنِع إنسانا بوجود "الخالِق"، وليس ثمَّة ما هو أصعب وأشق من أن تُقْنِعه بما يضاد ويناقض ذلك. وفي هذا الصدد، أذْكُر حكاية جاء فيها أنَّ أحدهما قال للآخر أثْبِتْ لي أنَّ الله موجود فأعطيكَ هذا المبلغ من المال، فردَّ عليه قائلا أثْبت لي أنَّ الله غير موجود فأعطيكَ ضعفيه.
الحضارة بدأت قبل "التاريخ المكتوب" بزمن طويل. وقد بدأت إذ شرع البشر يُنْتِجون ما يلبي حاجتهم إلى المأكل، وينشئون ويطوِّرون "اللغة". وكان لديهم، في نمط عيشهم البدائي، من الأسباب والعوامل ما يَحْمِلهم ويَدْفَعهم إلى إنشاء وتطوير فكرة "الخالق الميتافيزيقي"، في بُعْديها الفلسفي والاجتماعي. تلك الفكرة ضَرَبَت جذورها عميقا في "العجز الإنساني"، وفي الشعور بهذا العجز، في وجهيه: "العجز عن التفسير"، و"العجز عن التغيير".
وأحسب أنَّ "الحاجة الاجتماعية" إلى فكرة "الخالق الميتافيزيقي" قد وُلِدَت أوَّلاً، فالبشر، في نمط عيشهم البدائي، كانوا مضطَّرين إلى أن يركِّزوا جهدهم الذهني في أمر عيشهم المحفوف بالمخاطر (نقص الغذاء، والوحوش، و"عداء" الطبيعة).
بعضٌ من جهدهم الذهني هذا كان "واقعيا"، أي كان يُتَرْجَم بما يمكِّنهم من درء تلك المخاطر عنهم قدر المستطاع، فـ "الواقعية الفكرية (البدائية)" كانت بالنسبة إليهم شرط بقاء. وبعضٌ منه كان يُسْتَنْفَد في اختراع (في إنشاء وتطوير) كائنات وقوى من طبيعة ميتافيزيقية.
لقد شرعوا يخترعونها إذ أوهموا أنفسهم، أو ظَهَرَ من يوهمهم، أنَّ تلك الكائنات والقوى يمكن أن تكون (أو أن تصبح) لهم حليفا في صراعهم من أجل البقاء.. من أجل اتِّقاء شرَّ الموت جوعا، وشرَّ الطبيعة ووحوشها.
على أنَّ كلمة "اختراع" قد تُفْسِد وتُشوِّه المعنى الحقيقي للطريقة التي من خلالها توصَّلوا إلى الكائنات والقوى الميتافيزيقية، فَهُم سعوا أوَّلا إلى "التفسير الواقعي" لبعض الظواهر والوقائع والأمور؛ ولكنَّ عجزهم عن التوصُّل إلى هذا التفسير، أو إلى إثباته وإقامة الدليل المُقْنِع على صدقه وصحَّته، شدَّد المَيْل لديهم إلى "الميتافيزيقيا (البدائية)"، فرضيةً وتفسيراً وتعليلاً، فتاريخ الفكر الميتافيزيقي، بألوانه وصوره المختلفة، إنَّما يُثبِت ويُظْهِر ويؤكِّد حقيقة معرفية في منتهى الأهمية هي أنَّ العجز عن إجابة بعض الأسئلة والتساؤلات "المؤرِّقة" للذهن البشري، أو التي تَلِجُّ في إثارتها حاجات ومصالح إنسانية واقعية، يُفْضي إلى "فراغ معرفي"، لا بدَّ للإجابات الميتافيزيقية من أن تملأه، فـ "الروح" هي الجواب الذي فيه، وبه، نُحَوِّل كل جهل إلى "معرفة"، فيهدأ العقل ويطمئن.
الإحساس بالجوع هو الإحساس الأقوى حتى لدى الإنسان. وهذا الإحساس المُقْتَرِن بالخوف من الموت جوعا هو الذي أرغم البشر على التعلُّم والعمل، وحَمَلَهُم، في الوقت نفسه، على الاعتقاد بوجود، وبوجوب وجود، كائنات وقوى ميتافيزيقية يمكنها، إذا ما عرفوا كيف يكسبون ودها، أن تكون لهم خير معين وحليف في مواجهة "عدوٍ"، بعضه من الطبيعة، وبعضه من الحيوان، وبعضه من بَشَرٍ آخرين.
وهذا الاعتقاد الميتافيزيقي سرعان ما قاموا بـ "تجسيمه"، و"تجسيده"، و"ترميزه".. وبإنشاء وتطوير ما استنسبوه له من شعائر وطقوس دينية، فالإيمان الديني يفقد منطقه وأهميته ودليل وجوده إذا لم يُرَ ويُسْمَع من خلال الشعائر والطقوس الدينية.
ولا شكَّ في أنَّ ذوي المصلحة في نشر وترسيخ وحماية المُعْتَقَد الميتافيزيقي (وبعضهم من المؤسِّسين له) هُم الذين حرصوا أكثر من غيرهم على إنشاء وتطوير ما يمكن أن يُرى ويُسْمَع من الإيمان الميتافيزيقي حتى يتأكَّدوا قوَّة أو ضعف تأثير هذا المُعْتَقَد في عقول ونفوس أتباعهم. وهذا ما يُفسِّر توافق الأديان جميعا على ضرورة "الإظهار" للإيمان الديني (الباطني) من خلال الشعائر والطقوس والعادات والأعمال الدينية.
إنَّ "البرغماتية" هي جوهر وأساس العلاقة التي أنشأها وطوَّرها البشر مع "السماء". وفي البدء، كانت "برغماتية أرضية خالصة"، فالبشر البدائيون أرادوا أوَّلا "آلهة" لا تنفعهم ولا تضرهم إلا في دنياهم، فـ "الحياة الآخرة" لم تكن "مُكْتَشَفَة" بَعْد، ولم يكن أمرها يعنيهم كثيرا، فـ "الحياة الدنيا" بخيرها وشرها هي وحدها التي كانت تَجْتَذب إليها جهدهم الذهني الميتافيزيقي ومنتجاته.
هذا المنطق البرغماتي هو الذي قادهم إلى أن يتصوَّروا العلاقة مع "السماء" على أنَّها تقوم على مبدأ "الخدمة المتبادلة"، فـ "الآلهة" تخدمهم في صراعهم من أجل البقاء ما ظلُّوا يتوفَّرون على خدمتها، أي ما ظلُّوا على استمساكهم بالشعائر والطقوس الدينية، ومؤدِّين على خير وجه لواجباتهم الدينية، التي فيها نفع كبير لزعمائهم وقادتهم، الذين كانت تجتمع فيهم السلطتان الاجتماعية والدينية.
هذا العجز البشري الأوَّل والأهم، أي العجز عن أن يملكوا من المعرفة، ومن والوسائل والطرائق الواقعية، ما يمكِّنهم من أن يدرأوا عن أنفسهم شرور النقص الغذائي، وشرور الطبيعة ووحوشها، هو الذي منه وُلِدَت فكرة "الخلاص السماوي"، وَوُلِدَ الاعتقاد بالمعجزات، ففي السماء كائنات وقوى يمْكنها، إذا ما تمكَّنوا من استرضائها، أن تهيِّئ لهم الأسباب لغذاء يكفيهم شرَّ الموت جوعا، وأن تقيهم شرَّ الحر والبرد، وشر فيضان النهر، وأن تجعلهم بمنأى عن "نار السماء"، وأن تنصرهم على أعدائهم من بَشَرٍ آخرين، ومن الوحوش المفتَرِسة.
وإذا كان من قانون يكشفه لنا تطوُّر المعتقدات والعقائد الدينية عبر التاريخ فهذا القانون إنَّما هو الآتي: كلَّما اشتد العجز الإنساني (عن "التفسير" و"التغيير") والشعور بهذا العجز، ارتفع منسوب الاعتقاد بالمعجزات. و"المعجزة" التي مال البشر البدائيون إلى الاعتقاد بها كانت من نمطٍ يشبه ويماثل نمط عجزهم؛ لأنَّها كانت "الجواب" عن "سؤال عجزهم". أمَّا "الآلهة" التي اخترعوها فكانت في خواص وصفات تشبه وتماثل خواص وصفات مجتمعهم، ونمط عيشهم وتفكيرهم، فـ "السماء" إنْ اختلفت وتغيَّرت فإنَّها لا تختلف ولا تتغيَّر إلا بما يعكس اختلاف وتغيُّر "الأرض"، أي المجتمع بنمط عيشه المادي.
في "الموت"، و"المرض"، و"الجوع"، و"الحرب"، كانت "المصادِر الأولى" لفكرة "الإله"، أو "الآلهة". إنَّ "غريزة البقاء"، أو "غريزة حب البقاء"، هي التي جَعَلَت "الموت" طريقا إلى "الاعتقاد الميتافيزيقي"، فهذه الغريزة لا تدفع الإنسان إلى أن يصارِع (حتى الموت) ضدَّ الموت وقواه، أي ضدَّ موته هو، فحسب، وإنَّما تُزَيِّن له الاعتقاد بحياة بَعْد الموت في عالَم آخر، فَرَفْضُ الموت نهاية "نهائية" لوجوده يُوَلِّد ويُقوِّي في نَفْس الإنسان الحاجة إلى فَهْم موته (الأرضي) الذي لا مَهْرَب منه على أنَّه الممر إلى حياة أُخرى، لا مكان فيها لموتٍ ثانٍ.
تجربة الإنسان، في هذا الصدد، لَمْ تأتِهِ بما يَجْعْلَهُ معتقدا بأنَّ عالَمه، الذي فيه مات، يمكن أن يكون هو ذاته العالَم الذي فيه يُبْعَثُ حيَّا، فليس من إنسان عاد إلى الحياة حيث مات، أي في "العالَم الأرضي". على أنَّ التجربة ذاتها لَمْ تأتِه بما يَدْحَض اعتقاده بأنَّ الميِّت يُبَعَثُ حيَّا؛ ولكن في عالَم آخر، فالمعتقدات البشرية التي يمكن إثباتها أو دحضها إنَّما هي المعتقدات التي فيها من الواقع والواقعية ما يجعلها ممكنة الاختبار، أمَّا إذا كانت مُفْرَغة تماما من الواقع والواقعية فإنَّ إثباتها أو دحضها يصبح مهمَّة مستحيلة.
لو جاءكَ إنسان يؤمِن بأنَّ الميِّت (من البشر) يُبْعَثُ حيَّا حيث مات، أي في عالمنا الأرضي، فإنَّكَ لن تَجِد مشقَّة في إظهار إيمانه هذا على أنَّه خرافة خالصة، فرودوس هنا، فَلِمَ لا يقفز هنا؟!
أمَّا لو جاءكَ قائلاً إنَّ الميِّت لن يُبْعَث حيَّا في عالمِنا الأرضي؛ ولكنَّه يُبْعَث حيَّا في عالَم آخر، لا يمكنكَ أبدا اكتشافه، أو معرفته، أو الوصول إليه، فإنَّ عجزْكَ عن دحض معتقده هذا لن يقلَّ عن عجزه عن إثباته لكَ واقعياً. إنَّه لن يقبل "منطقكَ" في "الدحض"؛ لأنَّه يَفْهَم "الحقيقة"، ويريد لكَ أن تفهمها، على أنَّها مؤلَّفة من قسمين: قسم يمكنكَ الوصول إليه من "طريق العقل"، وقسم لا يمكنكَ الوصول إليه إلا من "طريق الإيمان". وهو من هذه الطريق فحسب، أي من "طريق الإيمان"، وصل إلى الاعتقاد بوجود، وبوجوب وجود، حياة أخرى، أي استئناف الميِّت للحياة في عالَمٍ آخر لن تراه أبدا إلا بَعْد، وبفضل، موتكَ.
يكفي أن تعجزَ عن دحض معتقده ببعثٍ بَعْد الموت في عالَم آخر حتى يطمئن إلى سلامة معتقده، وكأنَّه لا يملك، ولا يمكنه أن يملك، من "دليل إثبات" سوى عجزكَ عن الإتيان بـ "دليل نفي"!
والقول بفكرة "الحياة الأخرى" إنَّما يشبه أن يقول لكَ أحدهم إنَّ "العنقاء" موجودة، مُتَحَدِّياً إيَّاكَ أن تُثْبِتَ أنَّها غير موجودة. هذا المُدَّعي المُتًَحَدِّي لن يَقْبَل منكَ دَحْضاً تعوزه "الأدلَّة والبراهين الواقعية"، فأنتَ ينبغي لكَ أن تأتي بما يقيم الدليل (الواقعي) على أنَّ العنقاء غير موجودة. أمَّا هو فَمَعْفِيٌّ من الإتيان بأي دليل واقعي على وجود العنقاء بدعوى أنَّ ثمَّة "حقائق" لا يمكن الوصول إليها بالعقل، أو التجربة، وإنَّما بـ "عقلٍ ثانٍ"، لا وجود له في الدماغ، هو "الإيمان"!
ومن "الموت"، في "مظاهره الواقعية"، و"نتائجه الواقعية"، طُوِّرِت، وتطوَّرت، فكرة "الحياة الأخرى". لقد فُهِمَت "التجربة الواقعية للموت" على أنَّها "الروح الخالدة وقد انفصلت عن الجسد الفاني"، فالجسد رأوه يفنى، ويتحوَّل بالتدريج، في القبر، إلى "تراب"، أمَّا "الروح"، التي فيها يكمن سرُّ الحياة، والتي فهموها بما يوافِق فهمهم لـ "الريح"، فقد غادرت الجسد، الذي ارتدته مؤقَّتا، إلى "العالَم الآخر"، الذي تحيا فيه حياة أبدية. ولا شكَّ في أنَّ رؤية ميِّت في المنام (الروح الزائرة) قد شجَّعتهم على الاعتقاد بـ "العالَم الآخر"، وبـ "الحياة الأخرى".
ويكفي أن تقول بـ "الإيمان" سبيلا إلى "الحقائق التي لا سبيل إليها بالعقل والتجربة" حتى يُنْبَذ "الواقع" بوصفه "دليل إثبات أو نفي" للأفكار والمعتقدات.
على أنَّ "الإيمان" وحده لا يكفي، فإيماني يمكن أن يناقِض إيمانكَ لجهة نتائجه. وعليه، كان لا بدَّ من "مَرْجِع" لهم في أمورهم الدينية. وهذا "المَرْجِع" كان قديما، أي قبل "الديانة المكتوبة"، الزعيم، أو القائد، الذي فيه تجتمع السلطتان الاجتماعية والروحية، والذي هو في منزلة "سفير السماء"، فما يقوله هو وحده دليل الإثبات أو النفي.
لقد غَذَّت "غريزة حب البقاء" الاعتقاد الميتافيزيقي للبشر بـ "الحياة الأخرى" وبـ "العالَم الآخر".
وكان لـ "المرض" حصَّته في المعتقدات الميتافيزيقية، فالعجز عن التغلُّب على مرض ما بـ "الواقعي" من العلاج والدواء ألْجأ الجماعة البشرية إلى "الطب الميتافيزيقي"، وإلى ممتهنيه. وعليه، كان "السِحْر" من أقدم معاني "الطب".
كل "عَجْز (عن "التفسير"، أو "التغيير")" كان مَصْدَر تغذية للاعتقاد بـ "المعجزات"، وللخضوع لِمَن "يأتي بها". لقد كان المرض لدى البشر القدماء من ألَدِّ الأعداء، فهو إنْ لَمْ يُقصِّر طريقهم إلى الموت، يصيبهم بالعجز عن العمل، الذي يكفي أن يعجزوا عنه حتى يتهدَّدهم خطر الموت جوعا. وكان يكفي أن يفهموا ويُفَسِّروا هذا الشر، أي المرض، على أنَّه من فِعْل قوى وكائنات ميتافيزيقية حتى يؤمنوا بالصراع ضده، وضد مسبِّبيه، بطرائق ووسائل وقوى ميتافيزيقية أيضا.
"الجوع"، أي الرغبة في درء مخاطره عن البشر، ساهم هو أيضا مساهَمَةً كبرى في التأسيس للمعتقدات الميتافيزيقية، وفي حفظها وإدامتها. إنَّ "الإحساس" بالجوع هو أقوى وأهم الأحاسيس لدى البشر، فلولاه لَمَا كانت "حضارة"، ولَمَا نشأت لدى الإنسان، واشتدت، الحاجة إلى "التعلُّم" و"العمل"..
وتأثير "الجوع"، أي الخوف من الموت جوعا، في البشر، أفرادا وجماعات، كان في منتهى القوَّة إبَّان سيطرة الطبيعة وقواها عليهم سيطرةً مُطْلَقة. وقد ظلَّ تأثيره فيهم قويا حتى عندما شرعوا يسيطرون على بعضٍ من الطبيعة وقواها، فإنتاجهم لغذاء يكفيهم شرَّ الموت جوعا لَمْ يكن دائما بالأمر الذي يسيطرون عليه، أو يتحكَّمون فيه، فعوامِل وقوى طبيعية كثيرة كانت تَضْرب بقوَّة، وعلى نحو مفاجئ، أمنهم الغذائي.
ونحن حتى الآن نَفْهَم "الأسعار".. أسعار البضائع والمنتجات، في صعودها وهبوطها، على أنَّها "ظاهرة ميتافيزيقية". وهذا الفهم الميتافيزيقي لَمْ يَنَلْ من قوَّته كثيرا تطوُّر عِلْم الاقتصاد، وما اكتشفناه من قوانين اقتصادية موضوعية كـ "قانون العرض والطلب" في "الاقتصاد الحر".
هذا العجز العِلْمي والعملي عن درء مخاطر قوى طبيعية (مثل الجفاف والقحط واحتباس المطر وفيضان النهر..) عن الأمن الغذائي للجماعة البشرية مدَّ المعتقدات الميتافيزيقية بمزيد من الغذاء، فاسترضاء السماء (صلاة الاستسقاء مثلا) التي من غضبها علينا تعاقبنا في لقمة عيشنا صار هو الحل الناجع للمشكلة.
وحتى لا يأتي الاختبار بما يدحض هذا المعتقد الميتافيزيقي، أو ينال من قوَّته، أضافوا إلى "غضب السماء وعقابها" الرغبة في الامتحان والاختبار، فالكائن الميتافيزيقي (السماوي) يُعرِّض الأمن الغذائي للبشر إلى الخطر عقابا لهم على ارتكابهم ما يغضبه، أو اختبارا لهم ولصلابة إيمانهم.
ثمة حاجات إنسانية أساسية وجوهرية لا مهرب للإنسان، في أي مكان، وفي أي زمان، من السعي في تلبيتها، التي تُعد شرطا أوَّليا لبقائه، أكان فردا أم جماعة؛ ولعل أهم هذه الحاجات هي حاجته إلى "المأكل" و"المسكن" و"الملبس" و"الأمن"، أي درء المخاطر عن وجود الفرد والجماعة التي ينتمي إليها، و"التكاثر" و"الرعاية الاجتماعية" للفرد، في مرحلتي الطفولة والشيخوخة، وفي حالة العجز المرضي في قواه الطبيعية الفردية.
ويُجْمِع علماء الاجتماع (العلميين) على أنَّ حاجة الإنسان إلى "المأكل" هي الأهم على الإطلاق، وعلى أنَّ "الإحساس بالجوع" هو أهم أحاسيسه، مفسِّرين "الحضارة"، نشوءا وتطورا، على أنها ثمرة هذا الإحساس ونتيجته الحتمية، فهذا الإحساس الأقوى (الإحساس بالجوع) هو الذي يرغم الإنسان على "العمل" و"التعلم".
لقد بدأ الإنسان حياته، قبل الحضارة، مستهلِكا لا مُنْتِجا، فكان يكتفي باستهلاك ما تنتجه له الطبيعة (البيئة الطبيعية التي يعيش فيها) من تلقائها. وفي نمط عيش بدائي كهذا كان مستحيلا أن يملك فرد (أو فئة من الجماعة) المقدرة على أن يلبي حاجته إلى "المأكل" من دون أن "يعمل" بنفسه؛ كما كان مستحيلا أن يملك ما يسمى "وقت الفراغ"، الذي هو الأصل في نشوء الحضارة، فالناس لن يعرفوا "الفلسفة" و"الفن" و"الأدب".. إذا كانوا مرغمين على أن ينفقوا كل ما لديهم من وقت وجهد في تلبية حاجتهم إلى "المأكل" و"المسكن" و"الملبس".
وبفضل اختراع الإنسان، وتطويره، أدوات العمل البدائية تهيأت الفرصة لأن يُنتِج الإنسان الفرد من "الغذاء" ما يزيد قليلا عن حاجته إلى أن يقي نفسه من خطر الموت جوعا. ومع جَمْع هذه الفوائض الغذائية الفردية الضئيلة في نطاق "الجماعة البشرية"، أي العشيرة، ظهرت إمكانية نشوء الحضارة، فبفضل جمع هذه الفوائض صار ممكنا تحرير بعض الأفراد (شيخ العشيرة والمقرَّبون إليه) من "العمل المباشر"، أي صار ممكنا أن يتمتع فرد أو مجموعة قليلة من الأفراد بامتياز "العيش من دون عمل"؛ وقد حصل شيخ العشيرة (والمقرَّبون إليه) على هذا الامتياز بفضل ما يتمتع به من "سلطة معنوية".
ومع تطور "أدوات العمل" وتزايد "الفائض الغذائي" اشتد ميل أصحاب هذا الامتياز إلى تملك "أدوات العمل" وإرغام "المنتجين"، بالتالي، على استخدامها في العمل لمصلحة مالكيها الجدد.
ومِنْ ذلك، تولَّد لدى غالبية الجماعة الشعور بالغبن والظلم والاستغلال، فاشتدت الحاجة لدى المالكين الجدد إلى إنشاء أدوات بدائية للقمع، حماية لهذا الامتياز.
وكلما تضاعف "الفائض الغذائي" تهيأ مزيد من الفرص لإعفاء مزيد من أفراد الجماعة من "العمل المباشر المُنْتِج للغذاء"، فنشأت، بالتالي، أعمال وحرف ومهن جديدة؛ كما نشأ "العمل الفكري" في أشكاله المختلفة (الفلسفة والفن والأدب والهندسة والفلك والطب..).
لقد اتَّضَحَت وتأكَّدت، في هذا السياق، حقيقة تاريخية في منتهى الأهمية هي أنَّ "الفائض الغذائي" كان شرطا أوَّليا لنشوء الحضارة، وأنَّ تطور الحضارة تَحدَّد، شكلا ومحتوى، بالمصالح الكبرى لفئة ضئيلة تتألف من مالكي أدوات العمل وذوي "الامتياز الاستهلاكي" وأصحاب السيطرة على "القوى المادية والروحية" اللازمة لإدامة واستمرار خضوع وإخضاع الأكثرية للأقلية.
هذا الخضوع، أو الإخضاع، إنما تحقق، ويتحقق، بفضل عوامل تاريخية ثلاثة:"الحاجة الماسة إلى العمل لدى مالك أدوات العمل" و"إنتاج ونشر الوعي الذي يعمي الأبصار ويشل الأيادي" و"القمع المباشر".
أمَّا ذوو الامتيازات الاقتصادية تلك فقد احتاجوا، على الدوام، إلى "السلطة المادية والروحية" للدفاع عن أنفسهم وامتيازاتهم. إنَّ الغالبية العظمى من البشر يبتنون الحضارة ويطورونها بدافع الحاجة الملحة إلى العمل لدى "أسياد العمل"، الذين يبتنون الحضارة ويطورونها بدافع الرغبة في الحفاظ على امتيازاتهم وزيادتها وتوريثها إلى أبنائهم، فحضارتنا هي، حتى الآن، ثمرة العلاقة بين "الذي يعمل ولا يملك" و"الذي يملك ولا يعمل".
"الشرطة الأرضية"، وعلى أهمِّيتها في الحفاظ على المصالح الاقتصادية (وعلى ما يتفرَّع منها من مصالح أخرى) ودرء المخاطر عنها، لَمْ تكن بكافية، فاشتدت الحاجة إلى تعزيز عملها بـ "الشرطة السماوية"، التي أسَّست وأقامت "مخافر" لها في العُمْق من النفس البشرية، فالثروات المادية التي من نمط يَجْعَل الفقراء (وغير الفقراء من الباحثين عن الثراء في طريقة "غير مشروعة") يَسْتَسْهِلون "سرقتها" لا بدَّ من حمايتها بـ "الشرطة السماوية"، البصيرة، السميعة، العليمة، والتي تُسَجِّل في سجلاتها كل انتهاك للمبدأ الأخلاقي ـ الديني الأوَّل وهو مبدأ "لا تَسْرِق". واستنادا إلى هذه السجلات، التي لا ريب في صِدْقِها ونزاهتها وموضوعيتها، سيلقى "السارق"، في "يوم الحساب"، العقاب السماوي الذي يستحق. ومع أنَّ النفس البشرية "أمَّارة بالسوء (وبالسرقة بالتالي)" فإنَّ "الشرطة السماوية" نجحت، على وجه العموم، في إبقاء تلك الثروات المادية في الحفظ والصون.
"نظام الثواب والعقاب السماوي" نشأ وتطوَّر بوصفه مُكَمِّلاً لـ "نظام الثواب والعقاب الأرضي"؛ وقد اسْتُنْفِد في إنشائه وتطويره جهد إنساني ضخم، اختلفت دوافعه وغاياته باختلاف الأزمنة والأمكنة، وباختلاف مصالح وحاجات واقعية فئوية ضيِّقة، وإنْ خالطها، لأسباب موضوعية، شيء من المصالح والحاجات الواقعية العامة. وهذا الجهد كان محوره، على الدوام، "الحلال" و"الحرام"، فسلوك وتصرُّف وعمل الفرد نُظِّم وَوُجِّه بما يتَّفِق مع مبدأ "الحلال والحرام".
مِنْ شعور الإنسان (البدائي على وجه الخصوص) بالعجز عن تفسير كثير من الأشياء والظواهر، وعن التغيير العملي والواقعي لكثير من الأشياء التي يدركها بحواسِّه، نشأ وتطوَّر وتوسَّع الاعتقاد والإيمان بوجوب، وبضرورة وجوب، القوَّة، أو القوى، الميتافيزيقية الخالقة. ومع ترسُّخ وتَوَطُّد وانتشار هذا المعتَقَد الأوِّلي والأساسي صار ممكنا اتِّخاذه كـ "حصان طروادة"، يُدْخِلون فيه ويهرِّبون كثيرا من المفاهيم والقيم والمبادئ الاجتماعية والاقتصادية الصالحة لمصالحهم، فأُضيف "وجهٌ اجتماعي" إلى "الوجه الفلسفي" لـ "السماء". وبحسب النسخة السماوية من سياسة "الترهيب والترغيب" الأرضية، صار بعض العقاب والثواب أرضيا عاجلا، وبعضه سماويا آجلا، فإذا أنتَ سرقتَ، أو تطاولت على الحقِّ المقدَّس لغيركَ في تملُّك أرض أو مصنع، لن تنجو من عقاب السماء، الذي بعضه أرضي عاجل، وبعضه سماوي آجل، فأنتَ قد يصيبكَ مكروه (سماوي) في صحَّتِكَ، أو مالِكَ، أو أهلكَ؛ وهذا الضٌرِّ الذي مسَّكَ في الدنيا (مِنَ السماء) لن يُنجيكَ من العذاب الأشدُّ إيلاماً في "الآخرة". أمَّا إذا أنتَ عملت بما يتَّفِق مع شريعة "الحلال والحرام" فسوف يعود عليكَ عملكَ هذا بالنفع والفائدة، دنيا و"آخرة".
وحتى يُحْفَظ الأمن الداخلي (الاجتماعي والاقتصادي والسياسي) للمجتمع على خير وجه طُعِّمَت الأديان بشيء من مبادئ الإصلاح، فـ "الشرطة الأرضية" لن تنجح في عملها إلا إذا راعت فيه مبدأ "رُدَّ سَيْفِكَ إلى غمده فإنَّ من يعش بالسيف يهلك به"؛ و"الشرطة السماوية" لن تنجح في عملها إلا إذا راعت فيه مبدأ "الجوع كافر".
واتَّسَع نطاق هذا التوظيف (الاجتماعي) للسماء، فزجُّوا بها في "ثقافة الحرب"، وغدت المفاهيم الميتافيزيقية جزء لا يتجزأ من عقيدة القتال.
ولا شكَّ في أنَّ الحاجة إلى الحرب، وإلى الانتصار فيها، هي التي جَعَلت للمحارِب الذي يُقْتَل في الحرب تلك المنزلة السماوية الرفيعة. ولا شكَّ أيضا في أنَّ تلك المنزلة هي التي صلَّبت وعزَّزت "الدافع القتالي" لدى المقاتل.
وكانت "القدرية السماوية" من أهم المفاهيم المسْتَخْدَمة في تعزيز وتقوية "الروح القتالية" لدى المقاتِل، فأنتَ تظلُّ على قيد الحياة ولو ألْقَيْتَ نفسكَ في حفرة من نار؛ لأنَّ السماء لَمْ تُقرِّر موتكَ في هذا المكان، وفي هذا الزمان، وفي هذه الطريقة. وأنتَ ستموت ولو كنتَ في بٌرْج مشيَّد؛ لأنَّ السماء قرَّرت (مِنْ قَبْل خَلْق الزمان) أن تموت هنا، والآن، وعلى هذا النحو.
هذا الإيمان بتلك القدرية، مع الجائزة السماوية الكبرى التي ستُمْنَح في "الآخرة" للمحارِب الذي قُتِل في الحرب، صَنَع دافعا قتاليا في منتهى القوَّة، فلولا "السماء"، في هذا المعنى، لَمَا انتصر محاربون كُثْر.
"الإلحاد" و"الإيمان (الديني)" ليسا بنمطين من الوعي، أو الفكر، أو الاعتقاد، يمكن، في أي مكان، أو في أي زمان، أن يُوْجَد أحدهما فحسب، فهما "ضِدَّان متَّحِدان اتِّحادا لا انفصام فيه، ومتصارعان، في الوقت نفسه، صراعا دائما مُطْلَقا". "الإلحاد" إنَّما هو كل فكر ينشأ، وينمو، في الصراع، وبالصراع، ضد "الإيمان". إنَّه، في نشوئه، ونموِّه، وتطوُّره، ثمرة التغلُّب على "الإيمان"، الذي هو، أيضا، ينشأ، وينمو، في الصراع، وبالصراع، ضد "الإلحاد"، ويمكن ويجب أن نفهمه، نشوءا، ونموَّا، وتطوُّرا، على أنَّه ثمرة التغلُّب على "الإلحاد". إنَّكَ لا تستطيع، أبدا، أن "تؤكِّد" الإلحاد من غير أن "تنفي"، في الوقت نفسه، الإيمان؛ ولا تستطيع، أبدا، أن "تؤكِّد" الإيمان من غير أن "تنفي"، في الوقت نفسه، الإلحاد. وإنَّكَ لا تستطيع أبدا أن تنفي أحدهما من غير أن تحتفظ به، وتبقي عليه، في الوقت نفسه؛ لأنْ لا وجود لأحدهما إذا لم يُوْجَد الآخر، في المكان ذاته، وفي الزمان ذاته؛ ولأنْ لا وجود أبدا لـ "الإلحاد الخالص (المطلق)"، أو "الإيمان الخالص"، فكلاهما يخالط الآخر دائما.
وفي تاريخهما المشترَك، نرى، دائما، أنَّ "الإيمان" هو "الجواب" عن "سؤال إلحادي"، وأنَّ "الإلحاد" هو "الجواب" عن "سؤال ديني"، فأحدهما يسأل والآخر يجيب. "المُلْحِد" يتحدَّى "المؤمِن"، دائما، أن يجيب عن سؤاله الآتي: ما هو دليلك وبرهانك على أنَّ الله موجود؟ و"المؤمِن" يتحدَّى "المُلْحِد"، دائما، أن يجيب عن سؤال الآتي: ما هو دليلك وبرهانك على أنَّ الله غير موجود؟ ولسوف يظلُّ كلاهما في صراع مع الآخر، تارةً ترجح كفَّة "المُلْحِد"، وطورا ترجح كفَّة "المؤمِن". ولسوف يظلُّ كلاهما في سعيٍ إلى الزجِّ بالعِلْم في صراعه ضد الآخر.
"الإله"، في المُعْتَقَد الديني القديم والبدائي، ما عاد اليوم بفكرة يمكنها أن تَجِد لها ملاذاً في العِلْم والعقل، وما عاد القائلون بها يستطيعون الدفاع عنها، وإلباسها لبوس العِلْم والعقل، إلا من خلال اقتلاع الفكرة من تربة "العقل"، وغرسها في تربة "الإيمان"، الذي صَوَّروه على أنَّه "العقل الآخر" للإنسان، والذي به فحسب، أو في المقام الأوَّل، يتوصَّل الإنسان إلى الله، أو من خلال تفسير "النص الديني" بما يَجْعَل له معنى لا يمتُّ بصلة إلى "معناه الحقيقي، القديم، المباشِر، التاريخي، الواقعي، الحرفي".
لقد انتعش "الفكر الإلحادي" إذ اكْتَشَفَت الفيزياء، وأثْبَتَت وأكَّدَت، أنَّ "المادة"، بوجهيها "الكتلة" و"الطاقة"، لا تُخْلَق ولا تَفْنى، وأنَّ "النشوء"، بالتالي، هو "نشوء شيء من شيء"، أي تحوُّل من "هذه" المادة إلى "تلك"، وأنَّ "زوال شيء ما" هو ذاته لحظة نشوء شيء آخر، أو أشياء أُخرى.
"الخَلْق"، في تصوُّره البدائي القديم، إنَّما كان خَلْقاً لـ "الجسم"، أو "الشيء"، أي كان خَلْقاً لـ "شيء بعينه"، كـ "خَلْق الشمس". وقد صُوِّر "الخالِق"، بالتالي، على أنَّه "خالِقٌ لأشياء (أو أجسام)"، يمكن تمييز بعضها من بعض (خَلْق "الشمس"، أو "القمر"، أو "النجوم"، أو "الأرض"، أو "الماء"، أو "الجبال"، أو هذا النوع من الحيوان أو ذاك). أمَّا "كيفية" الخَلْق لـ "الأشياء" فاختلفت وتضاربت وتناقضت، فـ "الشمس"، مثلا، لم يَخْلِقها الخالِق من شيء آخر، أو أشياء أُخرى، وإنَّما خلقها من "لا شيء". وهذا الـ "لا شيء" إنَّما هو "العدم" في مفهومه البدائي. في خَلْق هذا الشيء، أي الشمس، لم يُقَلْ في "نصِّ الخَلْق"، إنَّ الخالِق جاء أوَّلا بـ "سحابة من الهيدروجين"، ثمَّ كوَّن، أو خَلَق، منها "الشمس". ولكن قيل في خَلْق شيء آخر هو "الإنسان (الأوَّل)" إنَّ الخالِق لم يخلقه من "لا شيء"، فهو جاء أوَّلا بشيء آخر هو "الطين"، أو "الصلصال"، ثمَّ كوَّن منه، وخلق، "الإنسان"، أي جسد الإنسان فحسب؛ ذلك لأنَّ الخالق اسْتَكْمَل خَلْق الإنسان بـ "الروح" التي نقلها منه إليه. وتُرِكَت أشياء أخرى "مستقلَّةً" عن "عملية الخَلْق"، كمثل "الماء" الذي لم يأتِ "نصُّ الخلق" بما يُظْهِر، في وضوح كافٍ، أنَّه شيء قد خُلِقَ هو أيضا. وبعضٌ من "المخلوقات" لم يُفْهَم، عندما قالوا بخلقه، كما نفهمه اليوم، فـ "الشمس التي خُلِقت" لم تُفْهَم، ولم يُنْظَر إليها، على أنَّها هذا النجم الأكبر كثيرا من الأرض، والذي حَوْله تدور الأرض. لقد فُهِم، ونُظِر إليه، على أنَّه جسم أصغر كثيرا من الأرض، يزوِّدها "الحرارة"، مثلا، نهارا.
قانون "حِفْظ المادة (الكتلة والطاقة)" تحدَّى القائلين بوجود خالِق للكون، وبوجوب وجوده، أن يؤسِّسوا لـ "صُلْح جديد" بين الدين والفيزياء، فكان أوَّل شيء فعلوه توصُّلا إلى هذا الصُلح هو إضافة عبارة "على أيدي البشر" إلى نصِّ القانون، فأعادوا صياغة قانون "حِفْظ المادة" على النحو الآتي: المادة لا تُخْلَق ولا تُفنى على أيدي البشر فحسب، أي أنَّها يمكن ويجب أن تُخْلَق، وأن تُفنى، على يديِّ الخالق فحسب.
ثمَّ انتعش "الإيمان (الديني)"، وبفضل الفيزياء أيضا، أو بفضل بعض المفاهيم والنظريات (الفرضيات) الفيزيائية، فالفيزيائيون، أو قسم كبير منهم، إنْ لم يكن قسمهم الأعظم، أظْهروا مَيْلا، في فكرهم وبحثهم وجهدهم وتجربتهم، إلى فهم "المادة" على أنَّها شيء بعينه، أو أشياء بعينها، فكل المُركَّبات المادية يجب أن تنتهي، بعد التفكيك والتجزئة والتقسيم، إلى مكوِّنات أوَّلية، سمُّوها "الجسيمات الأولية"، كمثل "الكوارك"، والإلكترون"، و"النيوترينو (أو النيوترين)"، و"الفوتون". وهذا إنَّما يعني، على سبيل المثال، أنَّكَ إذا جئتَ بمقدار من الماء، وشرعتَ تُفكِّكه، فسوف ترى الآتي: الجزيء هو أصغر جزء من الماء. هذا الجزيء (جزيء الماء) يتألَّف من ذرَّات (ذرَّتا هيدروجين وذرَّة أوكسجين). كل ذرَّة تتألَّف من "نواة"، حَوْلها "غيمة" من "الإلكترونات". "النواة" تتألَّف من "بروتونات" و"نيوترونات". كل "بروتون"، أو "نيوترون"، يتألَّف من "كواركات". "الكوارك"، أو "الإلكترون"، لا يتألَّف من جسيمات أصغر، أي أنَّه "المادة الأوَّلية"، أو "الجسيم الأوَّلي".
انتعش الفكر الديني؛ لأنَّ القول بـ "مواد (أو جسيمات) أوَّلية (أساسية)"، يتألَّف منها كل شيء، أي كل "المُركَّبات المادية"، ولا تتألَّف هي من جسيمات أصغر، أثار السؤال الفيزيائي ـ الفلسفي الآتي: مِنْ أين، وكيف، جاءت تلك "المادة الأوَّلية"، التي تشبه "الأبجدية" لجهة علاقتها بـ "مفردات وعبارات وجُمَل المادة"؟ "الكوارك"، مثلا، هو جسيم (مادي) تتألَّف منه كل الأجسام والأشياء (المادية). على أنَّ هذا الجسيم ليس بـ "مُرَكَّب"، أي أنَّه لا يتألَّف من جسيمات (مادية) أصغر، فَمِنْ أين، وكيف، جاء؟ في صراعك ضد "الإيمان (الديني)"، يمكنك أن تقول، مثلا، إنَّه جسيم (مادي) لم يُخْلَق خَلْقا. لم يُخْلَق من "العدم". لم يَخْلقه خالق أو إله؛ وإنَّه، بالتالي، "جسيم أزلي ـ أبدي". على أنَّ قولكَ بـ "أزليته (وأبديته بالتالي)" يُناقِض، منطقا، "حقيقة كونية مادية فلسفية في منتهى الأهمية" هي أنَّ الشيء الذي يملك من الخواص ما يَجْعَل تمييزه من غيره أمراً ممكناً لا بدَّ من أن تكون له بداية في الزمان، ونهاية في الزمان، بالتالي، فالشيء، وهو "المادة في صورة من صورها (التي لا عدَّ لها ولا حصر)"، يجب أن تكون له بداية (ونهاية) في الزمان. إنَّ "الكوارك (و"الإلكترون"، و"النيوترينو"، و"الفوتون")" هو "شيء" لا يختلف عن سائر الأشياء (الشمس والقمر والمجرَّة والجزيء والذرَّة والبروتون..) لجهة نشوئه وزواله في مجرى الزمان، أي أنَّه شيء "ناشئ ـ زائل"، كانت له "لحظة نشوء"، وستكون له "لحظة زوال"، ولا يمكن، بالتالي، النظر إليه على أنَّه "أبدي ـ أزلي (خالد أو سرمدي)".
وأنتَ يكفي أن تقول بـ "جسيم (مادي) أوَّلي"، كمثل "الكوارك"، له بداية في الزمان، ولا بدَّ، بالتالي، من أن تكون له نهاية في الزمان، حتى تكون قد ذلَّلت العقبات من طريق القول بوجود الخالِق، وبوجوب وجوده، فـ "المادة الأوَّلية" يجب، بالتالي، أن تكون قد خُلِقت خلقا. يجب أن تكون قد خُلِقت من "العدم" على يديِّ "الخالِق".
لقد قالت الفيزياء منذ اكتشاف "الذرَّة" بـ "الجسيم الأوَّلي"، وبحثت عنه، وحاولت إثبات أنَّه "أوَّلي"، أي لا يتألَّف من جسيمات أصغر (منه). على أنَّ كل التجارب والاختبارات الفيزيائية انتهت إلى النتيجة الآتية: "الأوَّلي" من المادة ظلَّ "فرضية"؛ و"غير الأوَّلي" هو ما يتأكَّد، وجوداً، في استمرار. إنَّ "الجسيم الأوَّلي" هو خرافة خالصة، ولو قال به فيزيائيون عباقرة. ولسوف تُثْبِت التجارب والاختبارات أنَّ كل الجسيمات التي يُنْظَر إليها الآن على أنَّها "أوَّلية" ليست بـ "أوَّلية"، فـ "المادة"، في خاصِّيَّة جوهرية لها، "مُركَّبة"، وليس من جسيم، مهما صَغُر، يمكن أن يَثْبُت ويتأكَّد أنَّه "جسيم ليس له مكوِّنات (مادية)". كل شيء، مهما كَبُر أو صَغُر؛ كل جسم أو جسيم، إنَّما يشبه "الذرَّة" لجهة كونه وحدة لا انفصام فيها بين "المكوِّنات"، و"الحركة"، و"الفضاء (أو الفراغ)"، فـ "المادة" لا يمكن استنفادها.
غدا، ستقتحم الفيزياء "الكوارك"، و"الإلكترون"، و"النيوترينو"، كما اقتحمت من قبل "الذرَّة"، و"نواتها"، و"البروتون"، و"النيوترون"، ولسوف "ترى" تلك الجسيمات "الأوَّلية" من بواطنها، وتنتهي، بالتالي، إلى الاعتراف بأنَّها ليست بـ "اوَّلية".
وأخيراً، جاءت نظرية "الانفجار (الكوني) الكبير" Big Bang ونظريات كوزمولوجية أُخرى متفرعة منها أو مكمِّله لها لتحل "المشكلة" بما يُعزِّز حُجَج القائلين بـ "فكرة خَلْق المادة من العدم". القائلون بهذه النظرية يقولون أيضا بفكرة "الجسيم الأوَّلي" مثل "الكوارك". ويقولون بخلقه على يديِّ خالق (فيزيائي) يسمُّونه "الانفجار الكبير"، فهذا الانفجار هو الذي خلق الكون، بَدْءاً بخلق "أبجدية المادة"، أي "الجسيمات الأوَّلية". وعليه، ظلُّوا على إيمانهم بأنَّ "الكوارك" جسيم ليس له مكوِّنات (مادية) وقد خلقه "الانفجار الكبير"، الذي بقوَّته تمدَّد، ويتمدَّد، الكون. وهم يفهمون تمدُّد الكون على أنَّه تمدُّد لـ "الفضاء"، فالفضاء يتمدَّد، أو يتمطَّط، فتَظْهَر لنا "أجزاء (أو "جُزُر) الكون" على أنَّها تتباعَد.
أين تكمن الفكرة المثالية ـ الميتافيزيقية في نظرية "الانفجار الكبير"؟ إنَّها تكمن، أوَّلا، في خواص ذلك "الشيء" الذي منه انبثق وجاء الكون، فهذا "الشيء" الذي يسمَّى "المُفْرَد" Singularity ليس كمثله شيء؛ وإذا تواضعوا على اعتباره "مادة" Matter فإنَّهم يُجرِّدونه من "ماديَّته"، وكأنَّه "مادة ليست بمادِّية"، أي مُجرَّدة من الخواص الجوهرية الأساسية للمادة. إنَّه "شيء" لا "حجم" له، أي "عديم (معدوم) الحجم"، أي عديم الأبعاد الثلاثة للمكان. وإنَّه "شيء" لا أثر فيه لـ "البُعْد الرابع"، وهو "الزمان"، فالزمان، بحسب زعمهم، إنَّما خُلِق بـ "الانفجار الكبير"، وفيه، ومعه. وعليه، ليس من منطق، بحسب زعمهم، في أن تسأل عمَّا كان، أو عمَّا حَدَث، "قبل" هذا "الانفجار"، فـ "قبل" هي ظرف زمان؛ والزمان لم يُخْلَق بَعْد. وإنَّه "شيء"، اشتمل، على الرغم من كونه "عديم الحجم"، على "كل" مادة الكون، أي على كل "الكتلة" و"الطاقة" في الكون. وهذا "الشيء"، الذي اشتمل على "كل" مادة الكون، تفوقه الذرَّة "حجماً" بنحو 100 مليار مرَّة، على الرغم من قولهم إنَّه "عديم الحجم". ما هي "خواص"، و"مكوِّنات"، و"قوانين"، هذا "الشيء"؟ عن هذا السؤال يجيبون قائلين إنَّهم يجهلون الإجابة جهلا مُطلقا ومطبقا؛ ولكنَّهم قد يرون في هذا "المُفْرَد" منتهى "الجاذبية" و"الحرارة"، وكأنَّه المُطْلَق والخالص من "الجاذبية" و"الحرارة". مِنْ أين جاء هذا "الشيء" الذي هو "مادة ليست بمادة"؟ إنَّ بعضهم لا يتورَّع عن أن يجيب قائلا: لقد جاء من "العدم" Nothingness. ولا يتورَّع، أيضا، عن تفسير بعض الظواهر الفيزيائية في جوار "الثقب الأسود" Black Hole على أنَّها ظواهر "خَلْق للمادة من العدم"، وإن كان هذا الخلق لا يُنْتِجُ زيادة في مادة الكون؛ لأنَّ المخلوق من المادة يفنى في زمن متناهٍ في الضآلة والصِغَر.
هذا "الشيء"، أو "المُفْرَد"، والذي هو "مادة ليست مادِّية"، خُلِقت، أو يمكن أن تكون قد خُلِقَت، على ما يَزْعُم بعضهم، من "العدم"، "انفجر"، على حين غرة، وبـ "قوَّة مجهولة"، "انفجارا ليس كمثله انفجار". ويشبِّهون هذا "الانفجار"، الذي لم ينتهِ بَعْد، بـ "بالون يتمدَّد"، لم ينتهِ تمدُّده بَعْد. وفي هذا "المثال" ينبغي لكَ أن تتخيَّل أنَّ "كل" المادة قد "قَذَفَها" ذلك "الانفجار" مِنْ "مَرْكَز البالون" إلى "سطحه"، أو "محيطه"، فالكون، بفضائه ومجرَّاته ونجومه..، إنَّما هو "سطح"، أو "غشاء"، ذلك "البالون". و"أجزاء" الكون، أو "جُزُرِه"، إنَّما تشبه "نُقَطاً" على "سطح البالون"، تتباعَد (تتنافَر) بسبب "تمدُّد"، أو "تمطُّط"، المادة المصنوع منها البالون. "أجزاء" الكون إنَّما هي تلك "النُقَط"؛ أمَّا "الفضاء" فهو "غشاء البالون"؛ وكلَّما تمدَّد هذا الغشاء تباعدت، وتنافرت، على ما نرى في الظاهر، تلك "النُقَط". على أنَّ هذا "البالون الكوني"، المستمر في تمدُّده، ليس كمثله بالون، فلا "فضاء (ولا مادة)" في داخله، أو في خارجه؛ لأنَّ في غشائه، فحسب، كل الفضاء والمادة. و"الانفجار الكبير"، في زعمهم، هو "الخالِق الفيزيائي" للزمان، والمكان، ولكل شيء.
هذا "المُفْرَد"، بخواصه وتفسيره، إنَّما هو ثمرة المزاوجة بين الفيزياء والميتافيزيقيا، ويشبه لجهة تضافُر "الواقع" و"الخرافة" على خلقه، "عروس البحر"، التي هي "كائن خرافي"، وإنْ كانت "مكوِّناته (ذيل سمكة ورأس إنسان)" من "الواقع". إنَّهم، ومِنْ ظاهرة "تباعد (أو تنافر) أجزاء (أو جُزُر) الكون"، توصَّلوا إلى القول بهذا "المُفْرَد"، فهذا "التباعد" إنَّما يعني أنَّ "أجزاء الكون" كانت "متقاربة"، وأنَّنا كلَّما توغَّلْنا في ماضي الكون ازدادت تلك الأجزاء تقاربا. هذا "الصحيح" في الاستنتاج تحوَّل، أو حوَّلوه، إلى "خطأ"، و"وهم"، و"خرافة"، إذ أوْصَلوا "التقارب" إلى "المُفْرَد"، الذي لا يمكنكَ أن تراه كما رأوه، وأن تفسِّره كما فسَّروه، إلا إذا اجْتَزْت "الهوَّة السحيقة" بين الفيزياء والميتافيزيقيا بقفزة واحدة لا غير. ولقد "قفزوا"؛ وكانت "قفزتهم" هي تلك النظرية المسماة "الانفجار الكبير"، والتي، في جوهرها، ليست سوى "قصَّة الخَلْق التوراتية القديمة" وقد ألبسوها لبوس الفيزياء، لعلَّ مَنْ كفر وشكَّ يعود إلى الإيمان واليقين!
"الخَلْق" لا يمكننا فهمه إلا على أنَّه "مُثلَّثٌ"، يكفي أن يَفْقِد أحدى أضلاعه الثلاث حتى يَفْقِد منطقه. "الخالِق" هو ضلعه الأولى، و"المادة (أو المخلوق)" هي ضلعه الثانية، و"العدم" هو ضلعه الثالثة. وأنتَ في المنطق لا تستطيع أن تقول إنَّ A قد جاءت (أو انبثقت) من B إذا لم تُقِم الدليل أوَّلا على وجود B. وهذا إنَّما يعني أنَّ "العدم المُثْبَت المؤكَّد" هو الشرط الأوَّلي والمنطقي للقول بـ "خَلْق المادة من العدم"، فإذا أنتَ لم تستطع إثبات "فرضية العدم" فلا يمكنكَ أن تؤسِّس لفكرة "الخَلْق". "الخَلْق" إنَّما هو خَلْق المادة من العدم على يديِّ الخالِق. و"الفيزياء" قوَّضت فكرة "الخَلْق" إذ قالت، أي إذ أكَّدت وأثبتت، أنَّ المستحيل بعينه هو "خَلْق المادة من العدم"، أو "فناؤها"، فمتى أقامت الفيزياء الدليل على أنَّ الكون قد جاء، أو يمكنه أن يجيء، من "العدم"؟! متى أقامت الدليل على أنَّ الشيء، أي شيء، يمكن أن ينشأ من "لا شيء"، أي من العدم، أو يمكن أن يتحوَّل إلى "لا شيء"، إلى العدم، عند زواله؟!
الفيزياء (ومنطق التطوُّر) تُثْبِت وتؤكِّد أنَّ كل شيء "ينشأ"، وأنَّ كل شيء "يزول" بالتالي؛ ولكنَّها لم تُثْبِت وتؤكِّد أنَّ لـ "النشوء" معنى غير معنى "تحوُّل المادة من حال إلى حال"، أو أنَّ لـ "الزوال" معنى غير معنى "تحوُّل المادة من حال إلى حال".
ليس في الكون، أو في الفضاء، من "موضع"، ولو كان متناهيا في الصِغَر، يمكن أن تُثْبِِت الفيزياء أنَّه "موضعٌ تَنْبَثِق، أو يمكن أن تَنْبَثِق، فيه المادة من العدم". وليس في التاريخ العِلْمي والحقيقي للكون ما يُثْبِت ويؤكِّد أنَّ "العدم" هو "مبتدأ" الكون.
كل شيء في الكون (والكون ذاته) إنَّما يشبه "الذرَّة" لجهة كونه الوحدة التي لا انفصام فيها بين "المكوِّنات" و"الحركة" و"الفضاء". والشيء الذي "لا مكوِّنات (مادية) له" إنَّما هو "كائنٌ خرافي"، فليس لـ "السلسلة المادية" من بداية أو نهاية؛ لأنْ ليس لـ "المادة" من "أبجدية نهائية". "الحَرْف المادي" المُطْلق الخالص لا وجود له، فكل "حَرْف" من "أحرف أبجدية مادية ما" له "أبجديته".
إذا أنتَ فهمتَ "المادة" على هذا النحو فلن تقول أبدا بـ "نشوء المادة". تقول بنشوء هذا الشيء أو ذاك؛ ولكنَّ "المادة" لا تَعْدِل هذا الشيء أو ذاك حتى تقول بـ "نشوئها". وأنتَ يكفي أن تفهم "المادة" على أنَّها "مُرَكَّبة" حتى تَنْبُذَ كل تصوُّر لـ "المادة" على أنَّها شيء له "مبتدأ" في الزمان، والمكان، والتكوين.
"العدم" لم تؤكِّده الفيزياء، وإنَّما نفته، وأمعنت في نفيه، فهل يبقى "مُثَلَّث الخَلْق" بعد محو هذه الضلع (أي "العدم") منه؟!
إنَّكَ يكفي أن تنفي "العدم" حتى تؤكِّد أنَّ "المادة" لم تُخْلَق؛ وإنَّكَ يكفي أن تَنْظُر إلى "المادة" على أنَّها "ليست بالشيء المخلوق" حتى لا يبقى من وجود للعلاقة المنطقية بين "الخالِق" و"المخلوق"، فهل أنتَ "حامِلٌ لكتابٍ" إذا كان الكتاب "غير محمول" في يدكَ؟!
والقول بـ "خالِق للكون" إنَّما يُلْزِم القائل به أنْ يُمَيِّز "الخالِق الْقَبْلي" من "الخالِق الْبَعْدي"، فالخالِق قبل خَلْقِه الكون لا يمكن أن يكون هو ذاته الخالِق بَعْد خَلْقِه الكون، فالخالِق بوصفه "خالِقاً" إنَّما هو الخالِق في أثناء، أو بَعْد، خَلْقِه الكون. أمَّا قبل أن يشرع يَخْلِق الكون فليس بـ "خالِق"، بحسب "مَنْطِق" تلك "الصفة (صفة "الخَلْق" أو صفة "الخالِق")"، فهل كان "الإله" في صفة "غير الخالِق"؛ ثمَّ أصبح في صفة "الخالِق"؟!
وهل "الإله" يَعْرِفُ من "الصفات" ما كان "كامنا" في ذاته؛ ثمَّ "ظَهَر"، بعد، وبفضل، "الخَلْق"؟!
ثمَّة كثيرٌ من "صفات الذات الإلهية" لا يمكن فهمها، قبل "الخَلْق"، إلا على أنَّها صفات "كامنة"، أو "مُعَطَّلة (عن العمل)"، فكيف لصفات من قبيل "الرحمة"، و"العدالة"، و"المغفرة"، أن تَظْهَر وتتأكَّد قبل خَلْق البشر مثلا؟!
و"الإله" في صفاته إنَّما هو "الكائن (الميتافيزيقي)" الذي فيه تتناقض، مَنْطِقاً، الصفات، فوصفه بأنَّه "الكائن الذي ليس كمثله شيء" إنَّما يناقِضُ، مَنْطِقاً، وَصْفِه بصفات بشرية بَعْد "تضخيمها"، فليس من صفة يوصف بها "الإله" إلا ولها وجود في الكائن البشري؛ ولكن "في مقدار أقل" ليس إلا، وكأنَّ "الإله" هو الإنسان وقد أُطْلِقَت صفاته.
يَسْهُلُ مَنْطِقاً أنْ يُجاب عن "أسئلة الْخَلْق" التي تبدأ بـ "متى"، و"أين"، و"كيف"؛ ولكن يَصْعُب ويشق، مَنْطِقاً، أن يُجاب عن "سؤال الْخَلْق" الذي يبدأ بـ "لماذا"؛ لأنَّ كل ما قيل جواباً عن سؤال "لماذا خَلَق الخالِق الكون؟" يَسْتَغْلِق على كل عقل بشري يَحْكُمه ويتحكَّم فيه "المنطق". وأنتَ يكفي أن تُعدِّد وتشرح أسباب ودوافع خَلْق الخالِق للكون حتى تُخَفِّض كثيرا منسوب المنطق في فكرة الخَلْق، وكأنَّ "الإله" هو "العظيم" الذي تُصَغِّره أعماله، فـ "الإله" إنَّما يسمو بتساميه عن "دوافع" و"غايات" خَلْقِه للكون.
يُقال إنَّ "الحاجة هي أمُّ الاختراع (أو الخَلْق)". وأقول إنَّ هذا "القانون"، أي "قانون الحاجة"، يَصْلُح تفسيراً حتى لخَلْق الخالِق للكون، فثمَّة "حاجة إلهية" جاء خَلْق الخالِق للكون تلبية لها، مع أنَّ للخالِق صفة "الغِنى"، أي انتفاء الحاجة لديه إلى "المخلوق" الذي خَلَق.
و"الخالِق" يمكن ويجب أن يكون "معبوداً"؛ ولكن ليس من خلال "سعيه" إلى ذلك، فسموِّه إنَّما يَظْهَر ويتأكَّد من خلال تساميه عن "السعي" إلى جَعْل "مخلوقه" يعبده.
إنَّكَ "عظيم"، وفي منتهى "العظمة"، لو تمكَّنتَ من "خَلْق" نملة؛ ولكن هل يبقى من "عظمتكَ" شيء إذا ما "سعيتَ" في جَعْل تلك النملة تعبدك، وإذا ما وعدتها بـ "جزرة" إذا ما عبدتكَ، وتوعَّدتها بـ "عصا" إذا ما امتنعت؟!
"إله هيجل" كان حلاًّ لكثير من المشكلات المنطقية التي خلقتها فكرة الخَلْق، فهذا الفيلسوف الألماني المثالي الموضوعي "افتَرَض" الفكرة المُطْلقَة مبتدءاً لـ "الوجود"، فقبل "الوجود الطبيعي"، أي قبل "الطبيعة"، كانت تلك الفكرة، التي بفضل "جدلها الذاتي" تطوَّرت، و"تجسَّدت"، أي اتَّخَذت "الطبيعة" لبوساً لها. لا تسألوا هيجل "مِنْ أين جاءت تلك الفكرة (أو الروح) بهذا اللبوس؟"، فجوابه، إنْ أجاب، هو الآتي: لدى تلك الفكرة من الخواص والقوى ما جَعَلَ ممكنا، وحتميا، أن "تتجسَّد"، أو "تتجسَّم"، أي أن تلبس لبوس الطبيعة. هذه الفكرة التي لبست لبوس الطبيعة، في مجرى تطوُّرها الذاتي، لم تكن بـ "كائنِ يعي نفسه بنفسه"، أي أنَّها كانت كمثل "كائنٍ تحكمه وتتحكَّم فيه الغريزة". وبعد "تجسُّدها" في "الطبيعة"، "تجسَّدت" في "الإنسان"، الذي به، وفيه، وعت وأدركت ذاتها، فالإنسان (الذي انفصل عن المملكة الحيوانية) هو الكائن الذي به، وفيه، أصبح في مقدور "الفكرة المطلقة" أن تعي نفسها بنفسها.
"إله هيجل" الافتراضي هذا جاء حلاًّ، بدا منطقيا، لمشكلة "خَلْق الخالِق للمادة من العدم"، فـ "الروح (الكونية)" يمكنها، بحسب منطق هيجل، أن تكون في حالٍ من حالين: "روح بلا جسد (بلا مادة، بلا طبيعة وإنسان)"، و"روح مجسَّدة مجسَّمة"، أي تتَّخِذ الطبيعة والإنسان جسدا لها، أو لبوساً ترتديه. وهذه "الروح (الدياليكتيكية)" تتطوَّر ذاتيا حتى تبلغ درجتها العليا، أي درجة "وعي نفسها بنفسها" في الإنسان.
و"إله هيجل" هذا لا يشبه "الإله في الأديان" لجهة علاقته بالبشر، فهو ليس بـ "الحاكم" الذي يتَّخِذ البشر (أو جماعة من الجماعات البشرية) رعيَّة له، مُقرِّرا لها ما ينبغي لها قوله وفعله، وما ينبغي لها اجتنابه من أقوال وأفعال، في شريعة إلهية، ميزانها ميزان "الحلال والحرام"، وتوأمه ميزان "الثواب والعقاب". وأحسبُ أنَّ هيجل كان يريد لـ "إلهه" عَظَمَةً، لا يمكنها أن تؤكِّد ذاتها إلا بإقامة برزخ بينه وبين البشر (أفرادا وجماعات) بطرائق عيشهم وتفكيرهم، وكأنَّ "الإله العظيم" يَصْغُر بأقواله وأفكاره وأحكامه وأعماله.. "البشرية ـ الاجتماعية".
"إله هيجل"، بخواصه وصفاته، استمدَّ قوَّة منطقية نسبية من الدياليكتيك، الذي هو جزء لا يتجزأ من هذا الإله، فظَهَر، أو أظْهَرَهُ، لنا على أنَّه متحرِّر من "التناقض المنطقي" في خواصه وصفاته، فـ "المُطْلَق" من خواصه وصفاته "الإيجابية" لا يقترن ولو بالضئيل من السلبي منها، فـ "العدالة المُطْلَقَة"، مثلا، لا تقترن ولو بنزرٍ من "الظُلْم".
لو سألْتَ متدينا عن "عدالة" الخالِق لأجابكَ على البديهة قائلاً إنَّها "عدالة مُطْلَقة"، أي لا تشوبها ذرَّة من "الظُلْم". ولكنْ لا بدَّ لـ "الظُلْم"، أو لشيء من "الظُلْم"، من أن يَشْغُل حيِّزاً من منطق الخالِق، فالخالِق في "مشيئته المُطْلَقة"، التي لا تعلوها مشيئة، لا يسمح للإنسان بأن يكون حرَّاً في أقواله وأعماله.. لا يسمح له بأنْ يريد ما لم يُرِدْهُ له أن يُريد. ومع ذلك، يحاسبه يوم الحساب، فيُثيبهُ، أي يجازيه خيرا أو شرا. وفي هذا المثال، نرى "التناقض المنطقي (الحتمي)" بين "الصفتين"، صفة "العدالة المُطْلَقَة" وصفة "المشيئة (الإرادة) المُطْلَقَة"؛ ونراه (أي التناقض المنطقي) أيضا بين "العدالة المُطْلَقَة" وذاك "الظُلْم" الذي لا بدَّ منه. صفة "المشيئة المُطْلَقَة" تنطوي حتما على صفة "الظُلْم" إذا ما قرَّر الإله أن يعاقب البشر على أعمال أرادوها في الظاهِر، وأرادها لهم في الباطِن. وهذا "الظُلْم" الذي لا ريب فيه يُفْقِد صفة "العدالة المُطْلَقَة" منطقها، فـ "العدالة المُطْلَقَة" مشروطة بنفي صفة "المشيئة المُطْلَقة". وهذا إنَّما يعني أنَّ "العدالة المُطْلَقة" مشروطة بأن يقوم البشر بأعمال لم يكن قيامهم بها، وإرادتهم القيام بها، جزءا من إرادة ومشيئة الخالِق. إنَّ تَثْبيت صفة "المشيئة المُطْلَقَة" يقتضي نفي صفة "العدالة المُطْلَقَة"؛ وتَثْبيت هذه يقتضي نفي تلك.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-التقسيم الثاني- لفلسطين!
-
-حماس- خانت شعبها!
-
حرب إسرائيلية بسلاح فلسطيني وأيدٍ فلسطينية!
-
مناورات على مقربة من -ديمونا-!
-
حل مشكلة -حق العودة- يبدأ من هنا!
-
-النكسة-.. معنىً ومبنىً!
-
-لُغْز- العبسي!
-
أي -عفريت- سيَخْرج من قمقم -البارد-؟!
-
هل هذا ما يقترحه بوش على طهران؟!
-
هل هذا هو -الهدف الكامن-؟!
-
-عين الرمانة- إذ انتقلت شمالا!
-
-مبادَرة إسرائيلية- أم فخٌّ ل -المبادَرة العربية-؟!
-
-ثقافة التميُّز-.. عندنا!
-
أهو عام القضاء على القضية الفلسطينية؟!
-
غزة.. ملثَّمون في حصان طروادة!
-
-العودة-.. حقَّاً وحقائق!
-
-صبيانية- ليفني في القاهرة!
-
رأيٌ في رأي
-
انتخابات أم تذكرة سفر إلى الماضي؟!
-
-الحل- و-الاستقالة- خيارٌ ليس بالخيار!
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|