ماذا لو قطع ترامب المساعدات عن منظمات المجتمع المدني؟ الجزء الثاني


نادية محمود
الحوار المتمدن - العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 18:47
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات     

بعد ان تطرقنا في القسم الاول في المقالة الى موضوعة قطع المساعدات المالية عن المنظمات غير الحكومية وان هذا القطع يجب ان لا يوقف النضال النسوي من اجل انهاء التمييز الجنسي متعدد الاشكال ضد النساء، ولا يقوض النضال من اجل انهاء النظام الابوي الذكوري الرأسمالي الذي نعيش تحت "رحمته" الان، فلا النضال النسوي هو "مشاريع"، ولم يكن معتمدا يوما المسعى لاحقاق حقوق النساء على دعم دول مانحة. كان للدعم المالي لمنظمات المجتمع المدني( ممم) اسبابه، و لتقليص الدعم او ايقافه اسباب ايضا. في هذه المقالة ساسلط الضوء على الاسباب التي دفعت الدول الغربية الى تقديم المنح في المقام الاول و اسباب ايقاف او تقليص الدعم المالي.
جاء دعم منظمات المجتمع المدني في الكثير من دول العالم وعلى الاخص: افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية ودول الكتلة الشرقية في سياق تاريخي محدد وهو: تبني النظام النيوليبرالي في الثمانينات من القرن الماضي. يقوم هذا النظام على ثلاثة أسس : اولا، تقليص دور الدولة في الاقتصاد في الاجابة على حاجات المواطن وبعد تخلي الدولة عن مسؤولياتها وتراجعها عن برامج وسياسات الرفاه الاجتماعي التي تقدمها للمجتمع، ثانيا، توسيع دور السوق للقيام بهذا الدور، ثالثا، تقوية منظمات المجتمع المدني لتحل محل الدولة بتقديم الخدمات التي تراجعت عنها الدولة والتي يعجز المواطن عن الحصول عليها عن طريق السوق.
من جهة ثانية تم التركيز على (ممم) مع انتشار خطاب الديمقراطية والترويج له على صعيد عالمي وخاصة في الدول التي كانت تشدد فيها قبضتها على حقوق وحريات الجماهير في اماكن مختلفة من العالم، وخاصة في الدول التي كانت يطلق عليها دول العالم الثالث، والتي كانت تعاني بلدانها من هيمنة الدولة على السياسة والاقتصاد، وضعت مهمة اضافية على عاتق منظمات المجتمع المدني- او المنظمات غير الحكومية، وهي مهمة "الدفاع عن قيم الديمقراطية وحقوق الانسان".
الا ان الشرط الذي وضع على هذه المنظمات من لحظة ولادتها هو عدم التدخل في السياسة، ولا تسييس العمل المدني ولا تسييس العمل الاجتماعي والاحتجاج الاجتماعي، والعمل بنظام الشراكة مع الدولة او المنظمات الدولية كشريكة في تحقيق الهدفين: تقديم خدمات، واعطاء منصة للتعبير عما يريده المواطن عبر اعمال " المناصرة والمدافعة والحملات ونشر الوعي والتدريب" لمحاسبة الدولة ومراقبتها كمسالة تقنية وادارية. اي تحول هذه المنظمات الى قنوات مساعدة ومكملة للدولة، وتقنين احتجاج المواطنين والتعبير عن ما يريدوه بدلا من المضي نحو القيام بتغييرات ثورية كالمشاركة في الانتفاضات او الثورات او الاطاحة بالانظمة الحاكمة. اي وضع لها مهمة محاولة اصلاح ما يمكن اصلاحه بما يتوافق ويضمن بقاء الانظمة كما هي. ان اللاتسييس هو المنهجية التي وضعها النظام النيولبرالي للمجتمع المدني بحجة هي ان هذه المنظمات تمثل " المجتمع المدني" وليس المجتمع السياسي. وبهذه السياسة، تم ابعاد هذه المنظمات واعضائها عن الانخراط في اية نشاطات يفهم منها انها يمكن ان تساهم" بتهديد" النظام القائم. اذن استهدفت هذه المنظمات ومن يمولها ابعاد الناس عن التدخل السياسي الحر المباشر للجماهير، وفرض الارادة الغربية وتصوراتها لمدى حدود عمل " المجتمع المدني" في العديد من البلدان ومنها العراق.
وتم استخدام حجب المساعدات المالية كوسيلة لضبط عمل (ممم)، اضافة الى السبل القانونية للسيطرة على الناشطين باستخدام سلطة المال، فالمنظمة التي تتجاوز الخطوط الحمراء او لا تعمل وفق شروط الجهات المانحة تحرم من الدعم المالي. وبهذا تضمن الدول الغربية ان منظمات المجتمع المدني تسير وفق التصورات لتلك الدول او الجهات المانحة باجهاض اي محاولات او اعمال ثورية تهدد الحكومات وتهدد الجهات الدولية التي تدعمها. اي هدف هذه الدول المانحة هي تكريس الاوضاع القائمة دون حدوث تغيير اجتماعي من حركات اجتماعية من القواعد الجماهيرية.
مع تراجع خطاب " الديمقراطية" الذي صدعت القوى الرأسمالية الغربية اسماعنا به ومع صعود اليمين الى الحكم في العديد من الدول الاوربية والولايات المتحدة. بدأت هجمة عالمية على المجتمع المدني وعلى منظماته، واحزابه ونقاباته، وحتى على المشجعين لفرق كرة القدم. مرد هذه الهجمة هي حقيقة الازمات المتواصلة التي تمر بها الدول الغربية، والتي اماطت اللثام عن كذب وزيف هذه الدول وادعاءاتها بالديمقراطية وحقوق الانسان، من ازمة كورونا التي اثبتت عجز الدول الغربية والمتقدمة عن انقاذ البشر الى الحرب على اوكرانيا، الى الحرب على غزة، وتصاعد اليمين وهجمته على كل الحركات الاحتجاجية والمناهضة لسياسات هذه الدول.
من هنا، يأتي تقويض القدرات المالية لمنظمات المجتمع المدني في هذا السياق. في سياق هجمة اليمين، حيث لم تعد "حقوق الانسان" و" القيم الديمقراطية" "شعارا تعبويا "!!! كافيا لنشر النفوذ الغربي في البلدان من دول الجنوب وشرق اوربا وامريكا اللاتينية وافريقيا من اجل اطلاق ايدي الطبقات الرأسمالية الحاكمة في كل بلد من بلدان العالم في فرض سيطرتها وقبضتها على الشعوب لتضييق اية فرص للحريات والتعبير عن نفسها، ومن اجل تقليص المجال العام والحريات وكبح جماح هذه الحركات. هكذا ، كنتيجة وتحصيل حاصل تقوم هذه الدول بتقليص الدعم المالي، تقليص الحريات السياسية والمدنية والتعدي على حقوق الانسان وحقوق المرأة.
انتهى خطاب " الديمقراطية" لم يعد الان يتحدث احد عن الديمقراطية. فاستخدام العنف والقمع سائد في كل مكان على انحاء المعمورة. الخارجية الاميركية ابلغت سفاراتها في كل انحاء العالم، تفحص منصات التواصل الاجتماعي لكل شخص كتب او نشر على صفحته او صفحتها ما يناويء اسرائيل، يمنع من دخول الولايات المتحدة.
الا انه ينبغي التأكيد ان الجهات المانحة ليست كيانات منسجمة او متشابهة، فهنالك العديد من الاهداف التي تتعقبها الجهات المانحة، منها ما يقع في خدمة الاهداف الانسانية، كأهداف نبيلة ومشروعة. ان قطع المساعدات بالتاكيد له اثار سلبية على المنظمات العاملة في الميدان، ولكن سننهي هذا القسم بالتساؤل: هل تقليص الدعم هو مؤشرا سلبيا، ام يمكن ان يكون مؤشرا ايجابيا يتيح المجال للمنظمات للتفكير بطرق مبتكرة وجديدة؟ والتحرر من شروط الجهات المانحة؟ التي كانت تقيد نشاط وعمل المنظمات بما ينسجم مع اعمالها اكثر مما ينسجم ويتجاوب مع الحركات الاجتماعية واحتياجاتها المالية؟