أسئلة ما بعد سقوط نظام آل الأسد
عبدالله تركماني
الحوار المتمدن
-
العدد: 8187 - 2024 / 12 / 10 - 16:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بعد أن سالت دماء سوريات وسوريين من أجل التغيير الوطني الديمقراطي أضحى هذا التغيير على جدول الأعمال السوري بعد سقوط النظام صبيحة يوم 8 كانون الأول/ديسمبر، لذلك من المهم محاولة رؤية محتوى ومستويات هذا التغيير وصوغ أسئلته. إذ يمكن تلخيص السردية السورية في التحول المؤسسي القائم على مجموعة قيم: الحرية والكرامة والشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد عقد الشعب السوري العزم على أن يخرج من حياة العبودية، التي تخبط في أوحالها وظلماتها أكثر من 50 سنة. فما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير يحدث من تلقاء نفسه أم لابد من إدارته؟ وما هي الفترة التي ستستغرقها عملية التحول؟ وهل يمكن لثقافة سياسية بكاملها أن تتغير لتحل محلها ثقافة أخرى؟
والسؤال الرئيسي هو: كيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في سورية؟ أي كيف يتم تفكيك آثار النظام الشمولي السابق والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساساً للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟
إنّ التحولات العميقة التي تشهدها المجتمعات الإنسانية جعلت من الديمقراطية وحقوق الإنسان أحد علامات العصر. إذ صارت الديمقراطية ضرورة لا غنى عنها، واختياراً لا مفر منه، فهي معيار صلاحية الاختيارات الأخرى على صعيد السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، إنها ما يمنح هذه الاختيارات جميعها بعدها الإنساني. ولا يمكن تمثّل هذه التحولات بعمق إلا في إطار الدولة الحديثة التي تقوم على أسس ثلاثة: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ورقابة المجتمع على سلطة الدولة، وخضوع سلطة الدولة نفسها للقوانين التي تسنها.
لقد تجمعت لدى أغلبية الشعب السوري مؤشرات عديدة أظهرت أنّ هذا النظام بات محنّطاً وعصيّاً على الإصلاح، لأسباب عديدة منها الخلل العميق في تركيبته الداخلية نفسها، وطريقة فهمه لدوره وموقعه من الدولة السورية، ولطبيعة الهياكل التي أنشأها انسجاماً مع تلك التركيبة وهذا الفهم. خاصة بعد تماهي الدولة مع السلطة وحزب البعث الحاكم والزعيم الواحد الأحد، منذ انقلاب حافظ الأسد في عام 1970.
لقد انتفض السوريون في وجه الدولة الأمنية التي استبدت في كل مجالات عيشهم، وقرروا أنه لا بد من التغيير على كل المستويات الوطنية.
تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف
لاشك أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سورية، ليتم التركيز على متطلبات تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعة والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية.
إنّ سورية أحوج ما تكون إلى الدولة الديمقراطية القادرة والعادلة والفاعلة، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، بما هي دولة الكل الاجتماعي. هي دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والمكوّنات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي.
ولعلَّ مسألة الديمقراطية هي من أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها، فقد أدى إضعاف دور المواطن وتقليص المشاركة الحقيقية في العملية الإنمائية إلى ضعف الإنجازات التنموية الحقيقية، إذ إنّ التقدم الشامل لا يمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب التغيير السياسي، والاستناد إلى قاعدة ديمقراطية أوسع وتمتّع فعال بالحريات السياسية والفكرية. ومن غير الممكن تصوّر سورية لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة.
وهكذا فإنّ الحل للخروج من مأزق الدولة السورية المستمر هو مغادرة بنيان الإقصاء والعنف إلى رحاب بنية اجتماعية - سياسية - ثقافية تقوم على العمل المنتج واستثمار الموارد الاقتصادية والبشرية وزيادتها، وتحرر إرادة الوطن والمواطن، والإطار الصحيح لقيام هذه البنية هو:
- المواطنة المتساوية الحقوق والواجبات، كعقد لتنظيم علاقات الأفراد والجماعات.
- الديمقراطية كإطار لقيام مشاركة سياسية تضمن فصل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتداولها.
- التنمية الشاملة لاستثمار الموارد الاقتصادية والبشرية وتطويرها وتوظيفها لقيام اقتصاد منتج، يرفع مستوى معيشة السكان ويؤمّن العدالة الاجتماعية.
إنّ السلطة السورية السابقة كانت تعتمد على مركّب سياسي - أمني - اقتصادي، هو ما لا معنى لأي تغيير في البلد من دون تفكيكه. هذا المركّب هو ما يتعين تغييره، بما يعني شيئين أساسيين: أولهما، طي صفحة الحكم الأبدي الوراثي واستعادة أصول النظام الجمهوري. وثانيهما، رفع الحصانة عن الأجهزة الأمنية وإخضاعها للمساءلة القانونية، وتغيير بنيتها وعقيدتها بحيث تصبح معنية بأمن السوريين، لا بأمن السلطة فقط.
إعادة صياغة القيم السائدة
إنّ عملية التحول الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة، وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحولات، من أهمها: التغيير من مناخ اليأس والقدرية إلى مناخ الثقة بالذات والقدرة على التحكم في المصير، والانتقال من القدرية التي يسيطر عليها الماضي إلى التوجهات المستقبلية.
وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، لأنّ تصفية الحساب مع الماضي ينبغي، استعانة بخبرات الدول الأخرى التي انتقلت من السلطوية إلى الديمقراطية، ألا تؤدي في النهاية إلى تفكيك الدولة ذاتها إلى مكوّناتها الفسيفسائية.
فحين يصبح هذا التمييز منغرساً في وعينا الجمعي، ومنبثاً في ثقافتنا السياسية، نستطيع ترتيب ولاءاتنا بشكل عقلاني وسليم، حيث تنتصب الدولة الوطنية، باعتبارها دولة حق وقانون، في المقام الأول، وتتصدر غيرها من الإعاقات، وهي كثيرة في سورية. ولكنّ هذه الإعاقات قابلة للتجاوز بالتدريج والمراكمة الفعلية، إذا توفرت سلسلة من الشروط المساعدة والميسِّرة لها، وفي مقدمتها حصول مصالحة مزدوجة: مصالحة المجتمع مع الدولة، على أنها بيت للجميع، ومصالحة الدولة مع المجتمع، باعتباره محور الدولة وقطب رحاها.
إنّ ترسيخ قيم المواطنة، فكرياً وعملياً، لدى أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة، أصبحت من واجبات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، هذه القيم التي يأتي في مقدمتها: الوعي بمهام الدستور الجديد، وبالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفرد والمجتمع، وبمهام الفرد، ومدى الحريات الممنوحة له وأنواعها، وبكيفية تشكيل القرارات السياسية، وكيفية تنفيذها، وبنمط الحكم السائد، وبشروط التمثيل النيابي، وبكيفية المشاركة في الانتخابات، وتشكيل المجالس النيابية، وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سوية المواطنة ذاتها، وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقلية وثقافة الراعي والرعية، وكل ما يعيق تحقيق دولة الحق والقانون. هذه الدولة، إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها، ستشكل الرافعة العملية والفكرية لاستمرار الدولة السورية وقوتها بعد التغيير.
والتحدي الكبير هنا لا يقتصر على إصلاح التخريب الإنساني والوطني الذي تسبب به الاستبداد، بل يتعداه إلى ظهور الإنسان الجديد، الفرد المستقل الضمير والعقل. فما هو قادم لا يزال كبيراً، ولا يقل عن ثورة دائمة في أشكال وتعبيرات سياسية وثقافية وإنسانية مختلفة. وما هو قادم أصعب من أن يُحتوى بتنازلات شكلية أو بحلول اقتصادية لمشكلات هي في الأساس سياسية. فالحكم الصالح اليوم يتطلب دستور جديد يؤكد قيم الحرية والعدالة، وينجح في إرساء تقاليد التداول على السلطة في ظل انتخابات حرة وشفافة وضمانات لكل مكوّنات المجتمع.
في هذا السياق يجدر بنا أن نلاحظ أن تكوين منظومة المفاهيم والقيم السياسية والثقافية والأخلاقية الخاصة بالثورة السورية لا يأتي على أيدي المفكرين والمثقفين والمنظرين من مختلف الحقول فقط، بل يُسهم في هذا كله أولئك الذين قادوا التغيير، مع الأمل بأن تكون ممارساتها منسجمة مع خطابها المعلن، وليس العودة إلى خطاب التطرف. إذ إن الشباب السوري بقدر ما هو بحاجة ماسة إلى تجارب الآخرين فهم كذلك يدركون أهمية إنتاج وعيهم التاريخي والمهمات التاريخية الملقاة على عاتقهم في إطار كفاحهم من أجل سورية الحرية والكرامة والعدالة، مع ملاحظة أنّ ذلك من أجل أن يكون دقيقاً، لابدَّ من وضعه في سياق البنية المجتمعية العامة السورية ولما لها من استطالات سياسية وتاريخية ومستقبلية.
لقد فشل نظام آل الأسد، على مدى 54 عاماً، في بناء دولة لكل مواطنيها. وبالتالي، فإنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن تشويه صورة الدولة المركزية إلى حد جعل شرائح واسعة من المجتمع السوري تتطلع إلى صيغ حكم بديلة، قاسمها المشترك تقليص دور السلطة المركزية.
وتبدو سورية اليوم ملغّمة بكل عوامل الانفجار الداخلي وعصية على التوحد الوطني ضمن دولة مركزية، مما يتطلب البحث عن صيغ أكثر جدوى لإعادة بناء الدولة السورية الحديثة في ظل الجمهورية القادمة. وبما أنّ السلطات المركزية المتعاقبة لم تستطع النهوض بعبء مهام بناء الدولة الحديثة، فإنّ العقلاء يعتقدون بأنّ اختفاء رائحة الموت من سورية مشروط اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالدعوة الصريحة إلى إقامة نظام لامركزي موسّع يكفل الوحدة الوطنية الطوعية.
أسئلة النظام الانتقالي
هل يكون النظام الانتقالي مفتاحاً لتوافق سوري عام على محتوى التغيير المقبل، وفسحة لانتقال سلمي وهادئ نحو نظام جديد في سورية؟ مع إعلان فوري لوقفٍ تام لاستخدام السلاح والشبيحة ومنع الاعتقال، وإطلاق سراح جميع معتقلي الرأي والضمير، وإعلان عفو عام عن جميع المحكومين السياسيين والمبعدين خارج البلاد وعودتهم دون قيد أو شرط.