قرن من النضال: ضوء على خبرات الحزب الشيوعي اللبناني ومخزون تجاربه المتنوعة
أحمد الديين
الحوار المتمدن
-
العدد: 8170 - 2024 / 11 / 23 - 12:51
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تحلّ الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني في ظل ما يتعرض له لبنان وشعبه ومقاومته من عدوان صهيوني غاشم مدعوم من الغرب الإمبريالي، ما يجعل من هذه الذكرى بالضرورة ليس مجرد مناسبة لتحية الشيوعيين اللبنانيين احتفالاً بمرور قرن على انطلاقتهم فحسب، وإنما الأهم هو ما تشكله هذه الذكرى من مناسبة لتأكيد التضامن الكفاحي مع لبنان وشعبه ومقاومته وضمنها الحزب الشيوعي اللبناني في مواجهة العدوان ودعماً للصمود الشعبي، ومن أجل لبنان حرّ عربي مقاوم للعدو الصهيوني وصولاً إلى تحقيق ما ناضل من أجله الشيوعيون اللبنانيون طوال تاريخهم من أجل إقامة دولة وطنية ديمقراطية علمانية لبنانية عادلة اجتماعياً.
أما هذا المقال، فهو محاولة لتسليط بعض الضوء على جوانب مهمة من مسيرة الحزب الشيوعي اللبناني تتعلق بما تميّز به نضال هذا الحزب الطليعي ودوره وخبراته وتجاربه المتنوعة، التي تشكّل له رصيداً نضالياً تاريخياً غنياً ويفترض أن تكون مصدر إلهام ثوري للمناضلين العرب، وبالأساس قوى اليسار والحركة الشيوعية، فيما يتصل بالطبيعة الطبقية العمالية والتكوين الأممي للحزب الشيوعي اللبناني منذ تأسيسه وتنوع أساليب عمله ونضاله ومبادراته، على أمل أن تتم لاحقاً دراستها وبحثها على نحو تحليلي نقدي موسع يساعد اليسار العربي والشيوعيين العرب على الاستفادة منها لاستعادة دورهم النضالي المفترض في طليعة حركة شعوب أمتنا العربية من أجل التحرر والوحدة والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.
التأسيس العمالي للحزب:
لئن كان تأسيس الأحزاب الشيوعية والعمالية مرتبطاً بتكوّن الطبقة العاملة، إلا أنّ تأسيس الغالبية الساحقة من الأحزاب الشيوعية والعمالية العربية، بل ربما في معظم بلدان العالم، استند إلى مبادرات قام بها مناضلون ثوريون لا ينحدرون بالضرورة من الطبقة العاملة ذاتها، بينما نجد أنّ المبادرين الرئيسيين، الذين تصدوا للمهمة التاريخية المتصلة بتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني كانوا في غالبيتهم من العمال، أي من صفوف الطبقة العاملة نفسها، وفي مقدمتهم الرفيق فؤاد الشمالي، وهو عامل بالمعنى الدقيق للكلمة، حيث كان يشتغل عاملاً أجيراً في معمل للسكائر في الاسكندرية، عندما كان مقيماً في مصر قبل إبعاده إلى لبنان، وهناك شارك في العام 1922 مع عمال لبنانيين يشتغلون في معامل صناعة الدخان والسكائر بتأسيس حزب تحت اسم "حزب العمال اللبناني"، ثم أسس في العام 1923 مع رفاق آخرين ما أسماه "الحزب الاشتراكي السوري اللبناني"، وبعدما جرى إبعاد فؤاد الشمالي من مصر إلى لبنان في ذلك العام اشتغل عاملاً في معمل للسكائر في بكفيا وأسس نقابة عمالية هي "النقابة العامة لعمال الدخان في لبنان"، ثم بادر خلال صيف وخريف العام 1924 مع ثلاثة من زملائه العمال هم فريد طعمة وإلياس قشعمي، وانضم إليهم لاحقاً بطرس حشيمة، إلى تأسيس "الحزب الشيوعي" بالتعاون مع رفيقهم الرابع وهو المثقف الثوري يوسف يزبك، وشكلوا في وقت متزامن "حزب الشعب اللبناني" كوجه علني للحزب.
وقد تولى الرفيق فؤاد الشمالي منصب الأمين العام للحزب حتى بداية العام 1933، كما ألّف عدداً من الكراسات والكتب من أشهرها كتابه "في نقابات العمال في البنان" في العام 1928، وكتابه "الاشتراكية" في العام 1936، وهناك طبعة جديدة موحدة لهما تضم الكتابين معاً.
ولعلّ الانتماء الطبقي العمالي لمعظم مؤسسي الحزب ساهم في تعزيز الصلة الحيّة مع الطبقة العاملة الفتية وتوسيع نفوذ الحزب الناشئ داخلها وفي الحركة النقابية العمالية الوليدة، وتكريس الطابع الطبقي العمالي للحزب الشيوعي على نحو ملموس.
التكوين الأممي:
وفي السياق ذاته، فإنه إذا كانت الأحزاب الشيوعية والعمالية أحزاباً أممية مثلما هي أحزب عمالية، فقد تميّز الحزب الشيوعي اللبناني منذ تأسيسه بتكوين أممي فريد، حيث شارك في انطلاقته الأولى الشيوعيون اللبنانيون الأرمن إلى جانب الشيوعيين اللبنانيين العرب، ولا ينتقص هذا من كون الحزب الشيوعي اللبناني حزباً عربياً، إذ كان قد تشكّل في العام 1924 بين صفوف الشبيبة الأرمنية اللبنانية اتحاد ثوري حمل اسم "اتحاد شبيبة سبارتاك"...وعندما أقام "حزب الشعب اللبناني" أول مهرجان علني بمناسبة عيد العمال العالمي في الأول من مايو/ أيار من العام 1925 في قاعة سينما الكريستال كان سكرتير "اتحاد شبيبة سبارتاك" الرفيق أرتين مادويان من بين الحضور، وبعدها جرت لقاءات بين ممثلين عن الحزب الشيوعي اللبناني و"اتحاد شبيبة سبارتاك" أدت إلى انضمام أعضاء الاتحاد إلى الحزب، ثم تشكلت لجنة مركزية باسم "اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في لبنان وسوريا" من الرفاق فؤاد الشمالي، يوسف يزبك، أرتين مادويان، وهيكازون بوباجيان، ولعلّ أسماء أعضاء اللجنة المركزية يعبّر بوضوح عن التكوين الأممي للحزب الشيوعي اللبناني منذ انطلاقته الأولى.
وشارك الرفاق الشيوعيون من اللبنانيين الأرمن في قيادة الحزب الشيوعي ونضالاته طوال قرن كامل، ويسجل تاريخ الحزب أسماء عشرات الشهداء الميامين من الرفاق اللبنانيين الأرمن، ويمكن الاطلاع على تفاصيل ذلك في كتاب "حياة على المتراس" لأرتين مادويان الصادر عن دار الفارابي في العام 1986، وكتاب "النضال التحرري الوطني في لبنان (1939-1958)" لنقولاي هز هوفهانسيان، الصادر عن دار الفارابي في 1974.
هذا ناهيك عن الارتباط المبكر للحزب الشيوعي اللبناني بالحركة الشيوعية والعمالية العالمية عبر صلته أول الأمر مع الحزب الشيوعي الفلسطيني، ثم من خلال انضمامه كحزب مستقل إلى صفوف الأممية الشيوعية بدءاً من مشاركته المباشرة في المؤتمر السادس للأممية في موسكو عام 1928 عندما صار اسمه "الحزب الشيوعي السوري – فرع الانترناسيونال الشيوعي" حتى حلّها في العام 1942.
خبرات السرية والعلنية:
*عندما تأسس الحزب الشيوعي اللبناني مارس نشاطه العلني عبر اسم "حزب الشعب اللبناني" مستفيداً من هامش محدود من العلنية النسبية، ولكن بدءاً من العام 1930 في أعقاب انعقاد الكونفرنس الثاني للحزب والإعلان عن الاسم الصريح للحزب اشتدت ملاحقات سلطات الاحتلال الفرنسي الموجهة ضد الحزب الشيوعي وجرى اعتقال عدد من قيادييه ومحاكمتهم، ما اضطر الحزب إلى ممارسة النضال السري، ثم زاوج بين العمل السري والعمل العلني، واستمر الوضع كذلك إلى بداية أربعينيات القرن العشرين، حيث استفاد الحزب من مشاركته في معركة الاستقلال، وتمكن من توسيع نطاق حركته العلنية عندما أصدر في ديسمبر/ كانون الأول من العام 1941 مجلة "الطريق" كلسان حال عصبة مكافحة الفاشية، وعادت إلى الصدور جريدة الحزب اليومية "صوت الشعب" في نوفمبر/ تشرين الثاني 1942، وخاض الحزب الانتخابات النيابية في سوريا ولبنان رغم عدم فوزه بأي مقعد، ثم نظم الحزب مؤتمره الوطني الأول في نهاية العام 1943 بصورة علنية وبحضور نائب رئيس الوزراء حبيب أبوشهلا وتليت في جلسة افتتاحه برقية من رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، وتنامى حجم الحزب الشيوعي ووزنه في الحركتين الوطنية والعمالية، ولكن الأمر تبدّل في أواخر العام 1947 عقب صدور قرار التقسيم عندما تعرض الحزب إلى التضييق والملاحقة، فاضطر للانتقال مرة أخرى إلى العمل السري بعدما حظرته الحكومة، وخلال عقدي الخمسينات والستينات زاوج الحزب في عمله بين السرية والعلنية بدرجات متفاوتة حتى نال إشهاره القانوني في أغسطس/ آب من العام 1970.
وخلاصة الأمر أن هناك خبرات وتجارب غنية للحزب الشيوعي اللبناني في مجالات العمل السري والعمل العلني والمزاوجة بينهما، ولعلّ كتاب الرفيق عزيز صليبا "العمل السري في الحزب الشيوعي اللبناني مع صفحات من تاريخه" يكشف جوانب هامة من تجارب العمل السري للحزب وما راكمه من خبرات غنية.
الحركة النقابية العمالية:
ارتبط تأسيس الحركة النقابية العمالية اللبنانية بمبادرات الرفاق الشيوعيين اللبنانيين، ويكفي دلالة على ذلك أنّ مؤسس الحزب الشيوعي اللبناني الرفيق فؤاد الشمالي هو مؤسس "النقابة العامة لعمال الدخان" في بكفيا، ومن بين صفوف مؤسسي تلك النقابة العمالية انبثقت النواة الأولى للحزب الشيوعي، هذا ناهيك عن الدور الريادي المتميز، الذي سبق أن لعبته "نقابة عمال زحلة" بقيادة رشيد سويد.
ومع أنّ نقابة عمال المطابع قد سبقتهما في التأسيس عام 1913، إلا أنّ الدور السياسي لنقابتي عمال الدخان وزحلة كان مميزاً، وتطورت في بداية الثلاثينات أهمية نقابة عمال المطابع، خصوصاً بعد الإضراب الكبير الذي قادته في 21 أغسطس/ آب 1933 وأدى إلى توقف إصدار جميع الصحف، وكان من بين مطالب ذلك الإضراب مطلب ديمقراطي هام هو إلغاء التعطيل الإداري للصحف، ومطلب اجتماعي مميز هو مطلب الضمان الاجتماعي، ومن بين صفوف تلك النقابة برز قادة نقابيون عماليون شيوعيون يقف في مقدمتهم الرفيق مصطفى العريس والرفيق سعد الدين مومنة.
ومن المواقف المشهودة للحزب الشيوعي اللبناني تأييده لإضراب سائقي السيارات اللبنانية في مارس/آذار من العام 1933، الذي شلّ الحركة في عموم لبنان، للمطالبة بخفض الضرائب وأسعار البنزين، وفي ذلك الإضراب استشهد رفيقان شيوعيان برصاص قوات الأمن هما السائقان حبيب دياب ونمر الزمور المكلفان بحماية الإضراب.
ولاحقاً ساهم الحزب الشيوعي اللبناني في تشكيل "الاتحاد الوطني لنقابات العمال في لبنان" الذي مثّل بحقّ مصالح الطبقة العاملة اللبنانية وقاد نضالاتها المطلبية خصوصاً في ستينات وسبعينات القرن العشرين، وكان عضواً نشطاً في الحركة النقابية العمالية العالمية المنتظمة ضمن إطار اتحاد النقابات العالمي.
تنوع أساليب النضال:
ربما كان الحزب الشيوعي اللبناني واحداً من أكثر الأحزاب الشيوعية والعمالية التي واجهت أوضاعاً وصراعات وطنية وقومية واجتماعية وسياسية معقدة ومتشابكة ومتباينة، ما فرض عليه اتباع وسائل نضالية متنوعة قلّ أن يمارسها حزب سياسي خلال فترة قصيرة من حياته، فخلال ربع القرن الواقع بين العام 1958 والعام 1982 خاض الحزب الشيوعي اللبناني النضال الوطني الديمقراطي والاجتماعي بأشكاله المختلفة السياسية والعسكرية، التي تتراوح بين مشاركته المشهودة مع القوى الوطنية والقومية اللبنانية في انتفاضة 1958 ضد المشاريع الإمبريالية في المنطقة ولمواجهة تآمر الرئيس كميل شمعون، مروراً بدوره في النضالات العمالية والطلابية والشعبية في عقدي الستينات والنصف الأول من السبعينات، وصولاً إلى اضطراره لحمل السلاح في الحرب الأهلية ضمن صفوف "الحركة الوطنية اللبنانية" بدءاً من العام 1975، ودوره المشهود في التصدي للعدو الصهيوني عبر "الحرس الشعبي" أول الأمر، ومشاركته في العام 1969 بتأسيس "قوات الأنصار" مع عدد من الأحزاب الشيوعية العربية، ثم من خلال مبادرته التاريخية لإطلاق "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية – جمول" ومساهماته المشهودة في الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني بعد اجتياحه لبنان في العام 1982، وخلال تلك المعارك الوطنية والقومية والاجتماعية قدّم الحزب الشيوعي اللبناني نحو ألف شهيد من أعضائه في سبيل الوطن وحريته وفي مواجهة العدو الإمبريالي والصهيوني ومن أجل لبنان وعروبته ودفاعاً عن قضايا الناس.
وبالتأكيد فإنّ هناك مخزوناً ضخماً من الخبرات والتجارب النضالية المتنوعة والمتراكمة للحزب الشيوعي اللبناني، التي تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها ودراستها وتحليلها والاستفادة من دروسها.
حزب مبادر:
ومن بين ما يُسجل للحزب الشيوعي اللبناني أنه حزب مبادر، فهذا الحزب هو الذي بادر منذ مؤتمره الثاني في العام 1968 إلى استعادة دوره في النضال القومي العربي وتصحيح العلاقة بين الوطني والقومي والأممي في النضال التحرري للشيوعيين العرب، كما أنّه المبادر إلى فتح الأبواب أمام مراجعات فكرية هامة في صفوف اليسار العربي حول أزمة حركة التحرر الوطني العربية خلال عقدي السبعينات والثمانينات عبر مفكريه الكبار وفي مقدمتهم الشهيد مهدي عامل أو على صفحات مجلته الفكرية "الطريق"، بالإضافة إلى الدور المميز للحزب الشيوعي اللبناني في جمع صفوف اليسار العربي عبر مبادرات متعددة كان أبرزها دوره في تأسيس "اللقاء اليساري العربي" في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2010 وهي تجربة تحتاج إلى تطوير وتعزيز ونضال وصولاً إلى ما يفترض أن يكون عليه حال اليسار العربي كيسار عربي مقاوم وطليعي.
باختصار، إنّ تنوع وغنى خبرات الحزب الشيوعي اللبناني وتجاربه طوال قرن كامل تتطلب منا المزيد من البحث والدراسة والاستفادة منها ليس كتراث تاريخي مقدّر، وإنما الاستناد إليها كأساس يُبنى عليه لنهوض الحركة الشيوعية واليسار العربي.
*عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتية