حرصُ حسن نصر الله على المدنيين


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 8083 - 2024 / 8 / 28 - 09:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في صبيحة الثاني عشر من تموز/ يوليو 2006، شنّ مقاتلو «حزب الله» اللبناني عملية بالغة الشجاعة، عابرين الحدود الجنوبية المسيّجة بالأسلاك الإلكترونية لنصب كمين لناقلات جنود إسرائيلية. وقد نتج عن العملية، التي أطلِق عليها اسم «الوعد الصادق» قتلُ ثمانية من أفراد الجيش الصهيوني وأسر فردين. هذا ومن المعلوم أن إسرائيل انتهزت تلك الفرصة لتشنّ حرباً تدميرية واسعة النطاق على مناطق انتشار «حزب الله» في لبنان. وبالرغم من أنه كان واضحاً أن العدوان كان معدّاً سلفاً وأن عملية «الوعد الصادق» ما كانت سوى فرصة انتهزها الحكم الصهيوني، اعترف الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، في مقابلة تلفزيونية شهيرة يوم 27 آب/ أغسطس 2006، بأنه أخطأ الحساب في تقدير ردّ الفعل الإسرائيلي المحتمل، مضيفاً: «لو كنتُ أعلم أن عملية الخطف هذه ستؤدي الى حرب بهذا الحجم بنسبة واحد بالمئة، فقطعاً لما فعلنا لأسباب إنسانية وأخلاقية وعسكرية واجتماعية وأمنية وسياسية».
وقد أدرك الأمين العام ومعه قادة الحزب منذ ذلك الحين أن الكلفة البشرية والمادية لأي هجوم مباشر داخل حدود الدولة الصهيونية ستزيد كثيراً عمّا يمكن أن يحققه الهجوم. لذا امتنع «حزب الله» مذّاك عن شنّ الغارات عبر الحدود، وعمد إلى تدعيم قدراته الدفاعية الرادعة بتجميع ترسانة هائلة من الصواريخ والقاذفات، ولاحقاً المسيّرات، بما أكّد أن العدوان الصهيوني لم يفشل في قضم الحزب وحسب، بل أدّى إلى تعاظم قوّته أضعافاً بحيث بات يُعتبر أقوى الجيوش في تاريخ «الجهات الفاعلة غير الحكومية». ولدى «حزب الله» بالتأكيد قدرات عسكرية تخوّله تحقيق ما هو أقوى بكثير من «طوفان الأقصى» إنما لا ولن يقوم بأي عملية مماثلة تفادياً لنتائجها المعلومة، ليس على مقاتليه أو قادته، وهم يتحلّون بثقافة الشهادة، بل على حاضنته الشعبية كما وعلى شعب لبنان بأسره. وهو أيضاً الاعتبار الرئيسي وراء الحدود التي فرضها الحزب على نفسه منذ أن عمد إلى تشغيل الجبهة الجنوبية تضامناً مع شعب غزة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إذ لبّى فرضاً معنوياً بالتضامن وهو يراعي في الوقت نفسه فرضاً أخلاقياً آخر في تجنيب لبنان مثل ما حلّ بغزة (أنظر «جنون العنف الصهيوني من الضاحية إلى غزة» 7/11/2023).
طبعاً، لا يخلو الأمر من مخاطرة كبيرة، إذ إن إسرائيل رأت في تشغيل الحزب لجبهتها الشمالية ما يؤكد حاجتها إلى القضاء على السيف المسلّط فوقها من الشمال، وسوف تولي هذا الأمر الأولوية لا مُحال بعد انتهائها من خوض حرب الإبادة في غزة. عندها سيوضَع «حزب الله» أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بالشروط الأمريكية الراهنة الداعية إلى انسحاب كامل لقوات الحزب إلى شمال نهر الليطاني، تطبيقاً لبعض ما نصّ عليه قرار مجلس الأمن الدولي 1701 لعام 2006، أو تحمّل مسؤولية حرب جديدة على لبنان، من المرجّح أن تكون أخطر وأكثر تدميراً وفتكاً من حرب 2006. هذا وناهيك مما قد يحصل لو فاز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، إذ سوف يُطلق يد نتنياهو أكثر بعد مما فعله جو بايدن، على الأخص ضد إيران ومنظومتها الإقليمية.

يبقى أن حسن نصر الله بصراحته وحرصه الأكيد على توفير حاضنة حزبه الشعبية وشعب لبنان برمّته، كما أفصح عنهما إثر حرب 2006، إنما كسب عطف واحترام جمهور واسع جداً، بمن فيهم العديد ممن يختلفون معه أيديولوجياً وسياسياً، لا يضاهيه في ذلك أي زعيم عربي معاصر. وقد كانت الكلمة التي ألقاها الأمين العام مساء الأحد الماضي إثر عملية «يوم الأربعين» مفعمة بروح المسؤولية الذي وصفنا، وهي موجّهة في المقام الأول إلى الحاضنة والشعب. بان ذلك منذ أن أضاف نصر الله بالعامية، بعد تشديده على أن خيار التصعيد كان إسرائيلياً (اغتيال فؤاد شكر) أن كلامه هذا موجّه إلى اللبنانيين، وأشار إلى أن قرارات حزبه تخضع «لاعتبارات ترتبط بالمقاومة ولاعتبارات أيضاً ترتبط بالوضع في لبنان، الوضع الداخلي ووضع الناس». وبان الأمر بكل وضوح في توكيد الأمين العام ما يلي:
«نحن منذ البداية وضعنا ضوابط أو عناوين للرد، أ- أن لا يكون الهدف مدنياً، نُريد ضرب هدف إسرائيلي ولكن لا نريد ضرب مدني، مع العلم أنه هناك شهداء مدنيّون في الضاحية الجنوبية ويحق لنا أن نستهدف المدنيين هناك،… لكن لأننا نعمل على معادلة [تتضمن] حماية المدنيين في لبنان، فمن أجل تأكيد حماية المدنيين في لبنان وتجنيبهم أي أذى قد يُلحقه العدو بهم فضّلنا أن نتجنّب المدني عند العدو. وهذه المعادلة هي التي حَمت حتى الآن بالرغم من 11 شهر من طوفان الأقصى بالأعم الأغلب، المدنيون، والشهداء المدنيون رغم أنه هنا بخصوص الشهداء لا يوجد قليل وكثير، لكن مع ذلك بالحسبة نستطيع أن نقول إنه تأمّن نسبة كبيرة جدًا جدًا من حماية المدنيين في لبنان»…
وقد حرص نصر الله على دحض أكاذيب القيادة الإسرائيلية التي زعمت أن الحزب كان ينوي إطلاق آلاف القذائف على مواقع مدنية، مشدّداً على «المعادلة» القائمة على الجمع بين قوة الردع والحرص على توفير المدنيين، وقد وصف نتيجتها كما يلي: «في لبنان العدو لا يجرؤ أن يمس بالمدنيين لماذا؟ هل لأنه يوجد قيم وأخلاق؟! أنتم ترون ما الذي يحدث في غزة، هل لأنه يوجد قانون دولي؟ هل لأن يوجد مجتمع دولي؟ هل لأنه يوجد عالم عربي؟ هل لأن يوجد جامعة دول عربية؟ هل لأنه يوجد منظمة تعاون إسلامي؟ لا، بل لأنه توجد مقاومة، توجد إرادة مقاومة ويوجد مقاومون شرفاء وتوجد بيئة تحتضن المقاومة مهما كان الثمن»…. والحقيقة أن قرار «حزب الله» توفير المدنيين أساسُ الفارق العظيم بين الإبادة الجارية في غزة وبين القتل الانتقائي المركّز على المقاتلين والمناضلين الذي مارسه الجيش الصهيوني في لبنان حتى الآن، ذلك أن الحكم الصهيوني حريص هو أيضاً على سلامة مواطنيه، لا يستطيع بسهولة أن يعرّضهم للقتل بتعمّده قتل المدنيين في لبنان بينما يعلم أن لدى «حزب الله» القدرة على إلحاق خسائر مدنية مهمة بالإسرائيليين.