الهدنة في غزة ومعضلتا نتنياهو و«حماس»


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7999 - 2024 / 6 / 5 - 11:52
المحور: القضية الفلسطينية     


منذ نهاية الأسبوع الماضي، طغى على الأخبار المتعلقة بحرب الإبادة الجارية في قطاع غزة مشروع اتفاق الهدنة الذي أعلنه الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم الجمعة، ناسباً إياه إلى «إسرائيل» بدون توصيف الجهة الإسرائيلية التي أقرّته. وقد استغرب المعلّقون في أجهزة الإعلام أن يتم الإعلان عن مقترح إسرائيلي من قِبَل الرئيس الأمريكي بدل أن تعلنه المصادر الرسمية الإسرائيلية. بل زاد الارتباك عندما بدا وكأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يريد التنصّل من المشروع بتأكيده على شروط تتعارض ظاهرياً معه، أو تعقدّه، وأهمها الإصرار على مواصلة العدوان حتى القضاء النهائي على قدرات «حماس» العسكرية والسياسية، وضمان السيطرة الأمنية الإسرائيلية على كامل القطاع.
والحقيقة أن هذا الاختلاط الظاهري إنما يعكس ارتباكاً حقيقياً يتمحور في المقام الأول حول نتنياهو بالذات. ذلك أن الزعيم الصهيوني واقعٌ بين نارين: بين الضغط الأمريكي مدعوماً من المعارضة الإسرائيلية، ومن جماعة من داخل حزبه بالذات، أي حزب الليكود، يمثّلها وزير «الدفاع» غالانت، وضغطٍ مضاد يمارسه حلفاء نتنياهو في أقصى اليمين الصهيوني. فما هي طبيعة هذين الضغطين المتعارضين؟
لنبدأ بضغط الكتلتين «النازيتين الجديدتين» اللتين تحالف نتنياهو معهما قبل عام ونصف كي يحصل على أغلبية في الكنيست تخوّله العودة إلى سدة الحكم. فمن المعروف أن الكتلتين تريان أن لا جدوى من عقد أي اتفاق مع «حماس» ولو كان مؤقتاً لا غير، وأن غاية الحرب الجارية يجب أن تكون استيلاء الدولة الصهيونية على قطاع غزة بأكمله وضمّه إلى أراضيها بوصفه جزءاً من «أرض إسرائيل» بين النهر والبحر (وهو ما بات غاية أقصى اليمين الصهيوني بعدما اضطرّ إلى تحجيم مشروع «إسرائيل الكبرى» بوقفه عند حدود سيناء جنوباً ونهر الأردن شرقاً، مع التوسّع شمالاً إلى هضبة الجولان والطمع بشطر من جنوب لبنان). ويتطلّع أرباب أقصى اليمين الصهيوني إلى ترحيل الغزاويين عن القطاع، «طوعياً» كما يزعمون بنفاق وقِح، وإحلال مستوطنين يهود محلّهم، كما يرون أن هذه الغاية أهم من أرواح من تبقّى من المحتجزين لدى «حماس» وسواها من الفصائل الفلسطينية في غزة.
في المقابل، يرى جناحا الإمبريالية الأمريكية الحزبيان الرئيسيان أن مصالح دولتهما تتحقّق بتشكيل حلف عسكري إقليمي يشمل الدولة الصهيونية وحليفات واشنطن العربية، ألا وهي، من المحيط إلى الخليج: المملكة المغربية، ومصر، والمملكة السعودية والإمارات المتحدة وسواهما من دول «مجلس التعاون الخليجي» والمملكة الهاشمية. وهو المشروع الذي بذل دونالد ترامب من أجله مساعي حثيثة عندما كان في البيت الأبيض وقد واصل مساعيه خلَفه بايدن الذي كاد لا يتميزّ عنه فيما يخصّ «الشرق الأوسط الكبير». بيد أن تحقيق هذا المشروع يتطلّب «حلاً» للمسألة الفلسطينية يقوم على إنشاء «دولة فلسطينية» تباركه، كي ينطلي على الرأي العام العربي في نظر الحكومات المعنية.


أما مصير غزة وفق هذا التصوّر فيكون بالعودة إلى ما نجم عن اتفاق أوسلو من سلطة فلسطينية تُناط بها مهمة إدارة المناطق المأهولة بكثافة سكانية فلسطينية، على أن يحيط الجيش الصهيوني بهذه المناطق ويشرف عليها أمنياً علاوة على السلطة المذكورة. لكنّ التجربة أثبتت أن سلطة فلسطينية متعاونة مع الاحتلال ليس بمقدورها السيطرة وحدها على المقاومة الشعبية، كما يُجمع المسؤولون الأمريكيون وحلفاؤهم العرب على أن سلطة رام الله الحالية عاجزة عن الحؤول دون إعادة تحكّم «حماس» بغزة لو انسحب الجيش الصهيوني من مناطق القطاع المأهولة. لذا رأوا أن الحلّ الأمثل إنما يكون بنشر «قوات سلام» عربية في تلك المناطق المأهولة، تستند إليها السلطة الفلسطينية المتعاونة مع الاحتلال في السيطرة على السكّان. وقد كشفت صحيفة «فايننشال تايمس» نقلاً عن مصادر غربية أن ثلاث دول عربية أبدت استعدادها لإرسال قوات إلى غزة، هي مصر والمغرب والإمارات المتحدة.
هذا ويحتاج بايدن إلى هدنة ينسبها لجهود إدارته أمام الرأي العام الأمريكي، ولاسيما أوساط ناخبي الحزب الديمقراطي التقليديين، كيّ يعوّض عن الخسارة الانتخابية التي يُرجَّح أن يتكبّدها في هذه الأوساط. وقد بذلت إدارته جهوداً مكثفة لإقناع الحكومة الحربية الإسرائيلية التي جرى إنشاؤها إثر عملية «طوفان الأقصى» بالموافقة على مشروع هدنة ثانية تقوم مرحلته الأولى على وقف لإطلاق النار طيلة ستة أسابيع يجري خلالها الإفراج عن عدد من المحتجزين الإسرائيليين وعدد أكبر كالعادة من المحتجزين الفلسطينيين، مع انسحاب الجيش الصهيوني من المناطق المأهولة بكثافة سكانية فلسطينية (على غرار ما نصّ عليه اتفاق أوسلو) علماً أن هذه المناطق باتت مقصورة، إذ إن غالبية سكان القطاع باتت مهجّرة ومحصورة في مناطق لجوء محدودة.
وإذ ينصّ المشروع على مرحلة ثانية يجري خلالها الإفراج عمّا تبقى من المحتجزين الإسرائيليين ودفعة إضافية من المحتجزين الفلسطينيين، اختلف نتنياهو علانية مع ما جاء في المشروع من وعد بانسحاب إسرائيلي كامل من غزة، مؤكداً على أنه لم يقبل قط بذلك وأن الجيش الصهيوني لن ينهي الحرب قبل أن يتأكد من القضاء التام على قدرات «حماس» في القطاع. والحقيقة أن ما يريده بايدن ومعه أعضاء الحكومة الحربية الصهيونية لا يتعدّى هدنة مؤقتة مصحوبة بإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين غير الجنود الذكور، بحيث يبدون للرأي العام كأنهم قاموا بما أمكنهم لإنقاذ من أمكن إنقاذهم. أما الباقون فسيُحسبون على تكلفة الحرب العادية التي يستعدّ الجنود لدفعها عند انضمامهم إلى القوات المسلّحة. وإذ يعلم أعضاء الحكومة الحربية أن استكمال احتلالهم لمنطقة رفح سينجم عنه على الأرجح موت المحتجزين الذين يشكّلون الورقة الأخيرة بيد قيادة «حماس» داخل القطاع، يفضّلون تقليل عدد هؤلاء المحتجزين إلى ما يمكن أن يستوعبه الرأي العام الإسرائيلي.
أما المرحلتان الثانية والثالثة (إعادة بناء القطاع) من المشروع، فلن تتحققا إذ لن تتجاوز الهدنة مرحلتها الأولى، وهو ما أقنع نتنياهو بالقبول بالمشروع ولو على مضض لعلمه أن حلفاءه في أقصى اليمين لن يقبلوا به. هذا هو سبب اللغو والارتباك اللذين ظهرا في الأيام الأخيرة بينما يحاول نتنياهو اقناع حلفائه بأن لا يُبطلوا التحالف معه ويسحبوا تأييد كتلهم له، بحيث يضطرونه إلى الاتكال على المعارضة، سواء منها حزب غانتس المشارك في الحكومة الحربية أو حزب لابيد الذي رفض المشاركة. وقد أبدى الطرفان استعدادهما لتأييد بقاء نتنياهو في منصبه حتى الانتخابات النيابية القادمة لو قبِل بالهدنة ومن ورائها مشروع التسوية القائم على إشراك قوات عربية مع القوات الصهيونية في السيطرة الأمنية على القطاع.
وإنه لخيار صعب يواجهه نتنياهو اليوم، كان محتماً على اتكاله على جماعتين متطرّفتين، يبدو حزب الليكود نفسه، ذو الأصول الفاشية، «معتدلاً» بالمقارنة معهما. وإنه لخيار صعب بالمثل، إن لم يكن أصعب بعد، ذلك الذي يواجهه في الجهة المقابلة قادة «حماس» داخل القطاع، إذ يُطلب منهم التخلّي عن ورقتهم الأخيرة في تحصين أنفسهم لقاء بضعة أسابيع من الهدنة مصحوبة بدخول كثيف من المساعدات التي لا بدّ منها لتفادي موت عدد كبير إضافي من أهل غزة وأطفالها.