الإجراء الملموس في الظرف الملموس
ثامر الصفار
الحوار المتمدن
-
العدد: 7018 - 2021 / 9 / 13 - 22:54
المحور:
الارشيف الماركسي
مع بداية عام 1881، أي قبل سنتين من وفاة كارل ماركس، توفرت فرصة جديدة لهذا المفكر العظيم ليشرح وجهة نظره حول الانتقال الى المجتمع الجديد، الاشتراكي. إذ قام فرديناند دوميلا نيوينهوس (1846-1919)، وكان حينها شخصية بارزة في حركة الطبقة العاملة في هولندا، ومؤسس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الهولندي، ثم أصبح عضوا في البرلمان عام 1888، ومندوبا إلى مؤتمرات الأحزاب البروليتارية خلال الأعوام 1889، 1891، 1893، لينتقل بعدها إلى الأناركية في تسعينيات القرن التاسع عشر، بإرسال رسالة الى كارل ماركس بتاريخ 6 كانون الثاني/ يناير، قبيل انعقاد مؤتمر للأحزاب العمالية في أوروبا، كان مقررا له ان ينعقد نهاية كانون الثاني /يناير في زيورخ ثم جرى نقله الى مدينة شور بسبب الحظر البوليسي ليعقد في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من نفس العام. الهدف الأساسي للمؤتمر هو توحيد أكبر الأحزاب البروليتارية في أممية جديدة. في هذه الرسالة وجه نيوينهوس سؤالا الى ماركس معتبرا إياه سؤالا بالغ الأهمية: «ماهي التدابير التشريعية، على المستويين الاقتصادي والسياسي، التي يجب أن تتخذها حكومة ثورية فور وصولها إلى السلطة لتضمن نجاح الاشتراكية؟»
في رده على رسالة نيوينهوس، التي نقدمها الى القارئ العربي لأول مرة، لم يكن ماركس، كعادته، ميالا الى إعطاء وصفة عامة عند إجابته على أسئلة من هذا النوع، بل حتى انه أعتبر هذا النوع من الأسئلة «بلا معنى» لأن «ما يجب القيام به، وما يجب القيام به فورا في أي لحظة معينة في المستقبل، يعتمد، بالطبع، كليًا وتماما، على الظروف التاريخية الفعلية التي يتعين فيها اتخاذ الإجراء. ان السؤال المذكور، الذي يأتي من الفراغ، يطرح، في الواقع، قضية خاطئة لا جواب عليها إلا بنقد سؤال على هذا النحو. لا يمكننا حل معادلة لا تحمل في داخلها عناصر حلها».
كان ماركس واثقا أيضا في رده فكتب: «تيقن من شيء واحد - لن تتولى حكومة اشتراكية زمام القيادة في بلد ما، إذا لم تصل الأمور إلى مرحلة تستطيع فيها، قبل كل شيء، اتخاذ مثل هذه الإجراءات التي من شأنها أن ترهب البرجوازية لتحقيق أول الأهداف المطلوبة: توفير الوقت المطلوب لاتخاذ الإجراءات الفعالة». يدل هذا على قناعة ماركس بأن إقامة نظام اشتراكي للإنتاج والتوزيع ستكون عملية معقدة وطويلة، لا يمكن تحقيقها ببساطة بمجرد الاستيلاء على السلطة. ثم يواصل ليقول: «لا يوجد شيء "اشتراكي" محدد حول مآزق حكومة ظهرت فجأة نتيجة لانتصار شعبي». ثم يرفض ماركس جهارا فكرة استنساخ التجارب دون النظر الى الاختلافات في الظروف والزمان، فيكتب: ان «كومونة باريس، وبصرف النظر عن حقيقة أن هذه كانت مجرد انتفاضة لمدينة واحدة في ظروف استثنائية، فإن غالبية قيادة الكومونة لم تكن بأي حال اشتراكية، ولا يمكن أن تكون غير ذلك». وبالتالي لا يمكن اعتبارها مرجعية لنا لاختلاف الزمان والظروف.
ينتقل ماركس بعد ذلك الى مقارنة أوضاع الطبقة العاملة في عصره مع أوضاع البرجوازية الفرنسية قبل سقوط النظام القديم، ليؤكد عدم وجود وصفات جاهزة، فيكتب: «كانت المطالب العامة للبرجوازية الفرنسية قبل عام 1789، مع أخذ تغير الظروف في الاعتبار، محددة جيدًا، بدرجة معقولة من التجانس، تماما كتحديد البروليتاريا في جميع بلدان العالم التي يوجد فيها إنتاج رأسمالي، لمطالبهم الأساسية والفورية. ولكن هل كان يمكن لأي فرنسي من القرن الثامن عشر، ان تكون لديه بشكل مسبق، أدنى فكرة عن الطريقة التي سيتم بها تنفيذ مطالب البرجوازية الفرنسية؟» أي، ضرورة وجود إجراء ملموس يتناسب مع الظرف الملموس.
من ماركس الى فرديناند دوميلا نيوينهوس في لاهاي
لندن، 22 شباط/ فبراير 1881
41 شارع ميتلاند بارك
الرفيق العزيز،
يعود صمتي المطول إلى حقيقة أنني كنت أرغب في أن أضمّن إجابتي على رسالتكم المؤرخة 6 كانون الثاني/ يناير، مجموعة من التعديلات التي قد ترغب في إجرائها في حال أصدرت الطبعة الثانية من كتابك كارل ماركس: رأس المال والعمل Karl Marx: Kapitaal en Arbeid. ولكن كنتيجة لبعض المشاغل العائلية، وحدوث الكثير مما لم أتوقعه، وغيرها من الاضطرابات، لم أنجز ذلك بعد، ولذا سأرسل هذه الرسالة بدون مجموعة التعديلات، خشية أن تسيء فهم صمتي المستمر. وعموما فأن التعديلات التي أعتبرها ضرورية تتعلق بالتفاصيل؛ فالشيء الرئيسي، روح الشيء، موجود بالفعل في كتابك.
يجب أن أشكرك على الإهداء اللطيف ، لأنك رميت، شخصيًا، قفاز التحدي في وجه خصومنا البرجوازيين.
كتب لي مؤلف كتاب رجال مهمون Mannen van beteekenis، وهو مفتش مدارس أو شيء من هذا القبيل، طلبًا لمعلومات عن سيرتي الذاتية، إضافة إلى أنه كان قد طلب من ناشره الاتصال بعديلي، جوتا، بهدف إقناعي بالموافقة على طلب من هذا النوع الذي أرفضه عادة. كتب لي السيد - مؤلف كتاب رجال - قائلاً إنه لم يشاطرني آرائي، لكنه أدرك أهميتها، وعارضا احترامه، وما إلى ذلك. وكان لدى هذا الشخص نفسه، فيما بعد، قدرا كبيرا من الوقاحة ليطرح في كتيبه افتراءات ذلك الجاسوس البروسي سيئ السمعة، ستيبر، ولاتهامي أيضا – مدفوعا، بلا شك، من أحد الاشتراكيين الكاثوليك ذوي الكراسي في بون - بالخطأ المتعمد في الاقتباس، ولم يكلف نفسه حتى عناء قراءة جدالي ضد برينتانو Brentano القدير في صحيفة دولة الشعب Volksstaat، حيث كان سيرى أن برينتانو، الذي شجبني في الأصل في صحيفة كونكورديا Concordia (صحيفة الشركات المصنعة) « بالتزوير الرسمي والموضوعي»، قد قام لاحقًا بتخليص نفسه من اتهامه الباطل بطرحه كذبة أخرى تقول بأنه قد أساء فهمي، وما إلى ذلك. وقد اقترحت مجلة هولندية فتح أعمدتها لي لتوبيخ «مفتش المدارس»، لكنني من حيث المبدأ، لا أرد على مثل هذه الوخزات. لم أعر أدنى انتباه، حتى في لندن، لمثل هذا النباح الأدبي. أي مسار آخر يعني إضاعة الجزء الأفضل من وقتي في إجراء تصحيحات في كل مكان، من كاليفورنيا إلى موسكو.
في أيام شبابي، كنت أحيانًا أقوم ببعض الضربات القاسية للرد عليها، لكن الحكمة تأتي مع تقدم العمر، على الأقل بقدر ما يتجنب المرء إهدار القوة غير المجدي.
يبدو لي أن «سؤالك» حول مؤتمر زيورخ القادم الذي ذكرته هو سؤال خاطئ، بلا معنى. ان ما يجب القيام به، وما يجب القيام به فورا في أي لحظة معينة في المستقبل، يعتمد، بالطبع، كليًا وتماما على الظروف التاريخية الفعلية التي يتعين فيها اتخاذ الإجراء. ان السؤال المذكور، الذي جاء من الفراغ، يطرح، في الواقع، مشكلة خاطئة لا جواب عليها إلا بنقد سؤال على هذا النحو. لا يمكننا حل معادلة لا تحمل في داخلها عناصر حلها.
لنفكر سوية بالموضوع، لا يوجد شيء «اشتراكي» محدد حول مآزق حكومة ظهرت فجأة نتيجة لانتصار شعبي. على العكس تماما، يشعر السياسيون البرجوازيون المنتصرون على الفور بأنهم مقيدون «بانتصارهم»، في حين أن الاشتراكي يكون قادرا، على الأقل، على التدخل دون قيود. تيقن من شيء واحد - لن تتولى حكومة اشتراكية زمام القيادة في بلد ما، إذا لم تصل الأمور إلى مرحلة تستطيع فيها، قبل كل شيء، اتخاذ مثل هذه الإجراءات التي من شأنها أن ترهب البرجوازية لتحقيق أول الأهداف المطلوبة: توفير الوقت المطلوب لاتخاذ الإجراءات الفعالة.
قد تحيلني، ربما، إلى كومونة باريس، لكن بصرف النظر عن حقيقة أن هذه كانت مجرد انتفاضة لمدينة واحدة في ظروف استثنائية، فإن غالبية قيادة الكومونة لم تكن بأي حال اشتراكية، ولا يمكن أن تكون غير ذلك. مع قدر ضئيل من الفطرة والنباهة، كان من الممكن، الحصول على أقصى ما يمكن الحصول عليه - حل وسط مع فرساي مفيد للناس ككل. كان من شأن الاستيلاء على بنك فرنسا وحده أن يضع حداً سريعاً للمجد الباطل لفرساي، وغيره، وغيره.
كانت المطالب العامة للبرجوازية الفرنسية قبل عام 1789، مع أخذ تغير الظروف في الاعتبار، محددة جيدًا، بدرجة معقولة من التجانس، تماما كتحديد البروليتاريا في جميع بلدان العالم التي يوجد فيها إنتاج رأسمالي، لمطالبهم الأساسية والفورية. ولكن هل كان يمكن لأي فرنسي من القرن الثامن عشر، ان تكون لديه بشكل مسبق، أدنى فكرة عن الطريقة التي سيتم بها تنفيذ مطالب البرجوازية الفرنسية؟» إن توقع برنامج عمل ثورة قادمة بشكل مسبق، وهو امر سيكون قطعا عقائديا وخياليا، لن يؤدي إلا إلى تشتيت الانتباه عن النضال الحالي. لقد ألهم الحلم بنهاية وشيكة للعالم نضال المسيحيين الأوائل ضد الإمبراطورية الرومانية ومنحهم الثقة في النصر. نظرة علمية إلى التفكك الحتمي، الذي يحدث الآن بثبات أمام أعيننا، للنظام الاجتماعي السائد؛ الجماهير نفسها، غضبها الذي يتصاعد تحت سياط شياطين الحكومة البالية؛ التقدم الهائل والإيجابي الذي يحدث في نفس الوقت في تطوير وسائل الإنتاج - كل هذا يضمن بشكل كاف أنه في اللحظة التي تندلع فيها ثورة بروليتارية حقيقية، فإن شروط وأسلوب عملها الأولي الفوري (التي لن تكون مثاليةً طبعا) ستكون حاضرة هي الأخرى.
قناعتي هي أن الظرف الحاسم لتكوين أممية جديدة للعمال لم يحن بعد؛ ومن ثم فإنني أعتبر أن جميع مؤتمرات العمالية و/أو المؤتمرات الاشتراكية، بقدر ما لا تتعلق بالظروف الفورية والفعلية السائدة في هذه الدولة أو تلك، ليست عديمة الفائدة فحسب، بل ضارة أيضًا. سوف تتلاشى دائمًا في مجموعة من التفاهات المعممة المعاد صياغتها.
تفضلوا بقبول فائق الاحترام،
كارل ماركس
نُشرت لأول مرة باللغة الروسية في صحيفة البرافدا وطُبعت وفقًا للأصل في 14 آذار/ مارس 1928؛ ثم نشرت هذه الرسالة بالإنجليزية لأول مرة في برلين عام 1931 في مجلة المراسلات الدولية، العدد 13. يمكن الاطلاع على النص الإنجليزي في ماركس-انجلز الأعمال الكاملة MECW، المجلد 46، الصفحات 65-67.
ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1881 في هولندا؛ ثم ظهرت الطبعة الثانية عام 1889.
جاء في الإهداء: «إلى كارل ماركس، المفكر الجريء، المناضل النبيل من أجل حقوق البروليتاريا، أهدى هذا الكتاب كرمز للاحترام».
الإشارة هنا الى كتاب رجال مهمون في أيامنا -ضمن سلسلة كتب نُشرت في هارلم خلال فترة 1870-1882. احتوى المجلد العاشر من السلسلة، الذي حرره ن. س. بلاسم، على سيرة ذاتية لماركس كتبها أرنولد كردجك.
الاشتراكيون ذوو الكرسي بذراعين، أو الاشتراكيون الكاثوليكKathedersozialisten، وهم أتباع تيار الاشتراكية البرجوازية الذي ظهر في ألمانيا في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر. في عام 1873، أسس أبطالها (غوستاف شمولير، أدولف فاغنر، ولوجو برينتانو) جمعية تسمى جمعية السياسة الاجتماعية Verein für Sozialpolitik والتي كان لها مطبوع يحمل اسم كتابات جمعية السياسة الاجتماعية Schriften des Vereins für Sozialpolitik. أيد الاشتراكيون ذوو الكراسي سياسة بسمارك الاجتماعية، التي دعا من خلالها الى الانسجام الطبقي وعارض العمل الثوري العمالي.
كان ما أثار جدال ماركس مع لوجو برينتانو مقال الأخير في مجلة برلين كونكورديا، العدد 10، 7 آذار/مارس 1872. حاول برينتانو، الذي نشر المقال دون الكشف عن هويته، تشويه سمعة ماركس كعالم من خلال اتهامه بعدم الكفاءة العلمية والتعمد في الاقتباس الخاطئ للمصادر التي استخدمها. وعندما نشرت صحيفة دير فولكسستات في 1 حزيران/ يونيو 1872 رد ماركس، ردت كونكورديا (العدد 27، 4 تموز/ يوليو) بمقال آخر بقلم برينتانو (مجهول أيضًا) فرد عليه ماركس في Der Volksstaat، العدد 63، 7 آب/ أغسطس 1872. بعد وفاة ماركس، قام الاقتصادي البرجوازي البريطاني سيدلي تايلور بالعودة الى حملة الافتراء التي أطلقها برينتانو، والذي كشفه إنجلز في يونيو 1890 في مقدمة الطبعة الألمانية الرابعة من المجلد الأول من رأس المال وفي عام 1891 في الكتيب في حالة برينتانو ضد ماركس، في قسم الوثائق، أعاد إنجلز نشر رسالتي ماركس إلى دير فولكسستات.