بالعربية لأول مرة مراسلات ماركس – فيرا زاسوليج
ثامر الصفار
الحوار المتمدن
-
العدد: 6616 - 2020 / 7 / 12 - 20:34
المحور:
الارشيف الماركسي
بالعربية لأول مرة
مراسلات ماركس – فيرا زاسوليج
تضم المادة التي نعرضها للقاريء العربي لأول مرة، مع مقدمة توضيحية، رسالة بعثتها فيرا زاسوليج الى ماركس بتاريخ 16 شباط/فبراير 1881، وسعي ماركس للاجابة عليها من خلال صياغته أربعة مسودات (الأولى من 4500 كلمة، والثانية من 2000 كلمة، والثالثة من 2000 كلمة، والرابعة من 300 كلمة) لينتهي اخيرا الى صياغة رسالة قصيرة من 350 كلمة)، ارسلها الى فيرا في آذار/مارس 1881. وقد نُشرت الرسالة ومسودات الاجابة عليها لاول مرة بالروسية عام 1924 ثم خضعت لبعض التصحيحات ونُشرت بلغتها الأصلية عام 1985 ضمن مشروع المؤلفات الكاملة لماركس وأنجلز MEGA. وفي عام 2014، في شهر ايار تحديدا، تمت ترجمتها الى اللغة الأنجليزية من قبل أندي بلوندين، وها نحن اليوم ننشر ترجمتها الى العربية لأول مرة اعتمادا على الترجمة الأنجليزية، اضافة الى فقرات مقتطفة من المسودات الاربعة الاولى.
مقدمة:
في عام 1881 كتب ماركس رسالة إلى فيرا زاسوليج (1849 – 1919) ، وهي من أهم متابعيه الروس ، تتناول مسألة النظرية والتنبؤ عندما يتعلق الأمر بالتفكير في المسار المستقبلي للتاريخ. خصوصا، نكرانه بأن نظرياته قد حددت الآثار التنبؤية للتطور الرأسمالي أو الاشتراكي في روسيا. وسأورد لاحقا بعض الفقرات.
القضية مهمة: هل فكر ماركس في منظومته المعرفية بأعتبارها نظرية تنبؤية عامة؟ الرسالة نفسها تشير بوضوح إلى أنه لم يفعل ذلك.
الرسالة مثيرة للاهتمام من عدة نواحٍ. أولاً ، انها ترفض، جهارا، فكرة أن نظريات ماركس الاقتصادية والتاريخية مناسبة لمهمة تحديد المسار الضروري أو الحتمي للتطور التاريخي. وإنها ترفض فكرة التسلسل الضروري لأنماط الإنتاج. بدلاً من ذلك ، يُظهر ماركس نفسه على أنه يدرك الاحتمالية الموجودة في التطور التاريخي ، فضلاً عن الدرجة التي يخلق بها التاريخ ظروفًا جديدة في مساره تؤثر على التطورات المستقبلية.
السمة المهمة الأخرى للرسالة هي تحليلها الجوهري للخصائص المادية للمشاعة الفلاحية الروسية ، والإمكانات التي يمتلكها هذا الشكل الاجتماعي لتشكيل اللب المادي لطريق بديل الى الاشتراكية في روسيا. ومثلما توضح الرسالة ، يعتقد ماركس أن العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالمشاعة الفلاحية توفر أساسًا اجتماعيًا محتملاً لاقتصاد اشتراكي حديث. وسيكون هذا اقتصادًا ليس "ما بعد الرأسمالي" ولكنه مع ذلك متقدم تقنيًا واجتماعيًا.
على نحو ما، تتنبأ طروحات ماركس بنظرية "من جاء بعده من المطورين" - على سبيل المثال ، ألكسندر جيشنكرون (1904 – 1978) في مؤلفه "التخلف الاقتصادي في المنظور التاريخي"(1962). يقول ماركس إن الاشتراكية في روسيا كانت ممكنة من خلال مسار بديل. إذ يمكن لنسخة من الاشتراكية في روسيا مستندة على مشاعة "قديمة، مهجورة" ان تستفيد من التطورات في التكنولوجيا والتنظيم الاجتماعي التي خلقتها الرأسمالية المتطورة. وليس من الضروري أن يمر المجتمع الروسي بعملية التحديث الزراعي والتكنولوجي التي مرت بها إنجلترا لعدة قرون. ويمكن لروسيا، بدلاً من ذلك ، اعتماد التقنيات الحديثة المتاحة الآن.
لا تكمن أهمية هذه الرسالة في التنبؤات التاريخية التي تطرحها ، بل في المثال الذي تقدمه عن الطريقة التي عمل بها عقل ماركس. يمثل المنطق هنا مثالاً جيدًا على نهج ماركس المادي للتاريخ. إنه يريد الوصول إلى مستوى، مفصل إلى حد ما، من فهم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية - علاقات الملكية - التي شكلت شكلاً تاريخيًا للمشاعة الريفية. ثم يسعى إلى تقديم تحليل للطريقة التي يُتوقع أن تتطور بها هذه العلاقات في ظل مجموعة محددة من الظروف التاريخية. والمفتاح في هذا التحليل هو خلق الشكل المعين للملكية الذي يتوافق مع هذا النظام الاجتماعي – أي ،علاقات الإنتاج الاجتماعية
سأسمح لنفسي لأن أفترض أن الرسالة توضح شيئًا آخر أيضًا: اهتمام ماركس في اواخر حياته بإيجاد مسار بديل للاشتراكية. فقد مضى زمن طويل على ثورات 1848 ، ولم تنشأ ثورة بروليتارية. اما كومونة باريس فقد جرى قمعها بشكل حاسم وعنيف عام 1871. ولم تكن حالة الطبقة العاملة مؤاتية في البلدان الرأسمالية المتقدمة - فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا. لذا فإن آفاق الثورة في العالم الرأسمالي المتقدم لم تكن مشجعة لماركس. ولذا فإن العثور على بعض الأمل في عملية بديلة للتطور الاجتماعي يمكن من خلالها تحقيق أهداف الاشتراكية كان احتمالًا جذابًا لماركس.
فيما يلي الفقرات المقتطفة من المسودات الاربعة للرسالة :
1) في التعامل مع نشأة الإنتاج الرأسمالي ، ذكرت أنها تقوم على "الفصل التام للمُنتِج عن وسائل الإنتاج" (ص 315 ، العمود 1 ، الطبعة الفرنسية لرأس المال) وأن "أساس كل هذا التطور هو سلب المُنتِج الزراعي. وحتى الآن ، لم يتم تحقيق ذلك بطريقة جذرية في أي مكان باستثناء إنجلترا ... ولكن جميع دول أوروبا الغربية الأخرى تمر بنفس العملية "(المصدر السابق ، العمود الثاني).
لذا فقد حددت "الحتمية التاريخية" صراحة، على دول أوروبا الغربية. و ووضحت لماذا حددت ذلك؟ أتمنى عليك العودة الى الفصل الثاني والثلاثين للمقارنة ، حيث أقول:
إن "عملية التخلص من تحويل وسائل الإنتاج الفردية والمتفرقة إلى وسائل إنتاج مركزة اجتماعياً ، التخلص من ملكية الخنازير للكثير عبر سلب مؤلم وعنيف لممتلكات العمال، وحصرها بأيديهم فقط ، التي تشكل الأصل لنشأة رأس المال ... الملكية الخاصة ، المستندة على العمل الشخصي ... ستحل محلها الملكية الرأسمالية الخاصة ، المستندة على استغلال عمل الآخرين ، على العمل المأجور "(ص 341 ، العمود الثاني).
وبالتالي ، في التحليل النهائي ، انها مسألة تحويل شكل من أشكال الملكية الخاصة إلى شكل آخر من أشكال الملكية الخاصة. وبما أن الأرض التي هي في حوزة الفلاحين الروس لم تكن، يوما، ملكًا خاصًا لهم ، فكيف يمكن تطبيق هذا التطور؟
2) من الناحية التاريخية ، فإن الحجة الجدية الوحيدة التي طُرحت لصالح حل المشاعة الفلاحية الروسية هي: من خلال العودة إلى الوراء ، يمكن العثور على ملكية مشاعية من نوع غابر بهذا القدر او ذاك، في جميع أنحاء أوروبا الغربية ؛ وقد اختفت بفعل زيادة التقدم الاجتماعي. فلماذا تتمكن من تفادي نفس المصير في روسيا وحدها؟ أجيب: لأنه في روسيا ، وبفضل مجموعة فريدة من الظروف ، فإن المشاعة الريفية ، التي لا تزال قائمة على نطاق وطني ، قد تفصل نفسها تدريجياً عن خصائصها البدائية وتتطور مباشرة كعنصر للإنتاج الجماعي على نطاق وطني. وبفضل معاصرتها للإنتاج الرأسمالي بالتحديد ، فإنها قد تلائم عمليات الاستحواذ التامة التي قام بها الانتاج الرأسمالي دون أن تواجه كل مصائبه المخيفة. ان روسيا لا تعيش بمعزل عن العالم الحديث. كما أنها ليست فريسة غزاة أجانب مثل جزر الهند الشرقية.
الخلاصة المهمة هنا إذاً، من الناحية النظرية ، يمكن "للمشاعة الريفية" الروسية أن تحافظ على نفسها من خلال تطوير أساسها ، الملكية العامة للأراضي ، ومن خلال القضاء على مبدأ الملكية الخاصة المتضمن فيها أيضًا ؛ يمكنها أن تصبح نقطة انطلاق مباشرة للنظام الاقتصادي الذي يميل المجتمع الحديث نحوه ؛ يمكنها قلب صفحة جديدة دون أن تباشر بقتل نفسها ؛ يمكنها جني الثمار التي أغنى بها الإنتاج الرأسمالي البشرية ، دون المرور بالنظام الرأسمالي ، وهو نظام ، لا يُنظر إليه إلا من وجهة نظر مدته المحتملة في حياة المجتمع. ولكن علينا أن نهبط من النظرية البحتة إلى الواقع الروسي.
رسالة من فيرا زاسوليج الى ماركس
16 شباط/ فبراير 1881
المواطن النبيل،
لا بد انك تعي تماما مقدار الشعبية الكبيرة التي يحظي بها مؤلفك رأس المال في روسيا. فعلى الرغم من مصادرة الطبعة، فقد جرت قراءة النسخ المتبقية، واعادة قراءتها من قبل جمهرة من الناس المتعلمين، بهذا القدر او ذاك، في بلدنا؛ كما تمت دراسته من قبل أناس جادين. لكنك ربما لا تدرك الدور الذي يلعبه مؤلفك رأس المال في سجالاتنا حول المسألة الزراعية والمشاعة الريفية ( Rural Commune) في روسيا. وانت تعرف، اكثر من أي شخص آخر، مدى راهنية هذه المسألة في روسيا. وتعرف ايضا رأي تشرينيجيفسكي عنها. ولا تزال مطبوعاتنا – أوتشيستفينيا زابسكي على سبيل المثال – تروج افكاره. ولكن من وجهة نظري، انها، وقبل كل شيء، مسألة حياة او موت بالنسبة لحزبنا الاشتراكي. فحتى المصير الشخصي لاشتراكيينا الثوريين يعتمد، بطريقة او اخرى، على الاجابة على هذه المسألة. اذ ثمة احتمالين فقط. أما ان تتمكن المشاعة الريفية، المتحررة من مطالب الضرائب الباهضة والدفع للنبلاء والادارات التعسفية، من التطور بأتجاه اشتراكي، أي، التنظيم التدريجي للانتاج والتوزيع الخاص بها على أساس جمعي. وفي هذه الحالة يكون على الاشتراكي الثوري تكريس كل قوته لتحرير وإنماء المشاعة.
واما، اذا ما كان قدر المشاعة هو التلاشي والفناء، فإن كل ما يتبقى للاشتراكي، في حال كهذا، مجرد حسابات غير دقيقة، بهذا القدر او ذاك، لعدد السنين التي تحتاجها ارض المزارع الروسي لتصل الى ايدي البرجوازية، وعدد القرون التي ستستغرقها الرأسمالية في روسيا لتصل الى مستوى يشابه بعض الشيء في تطوره المستوى القائم الان في اوروبا الغربية. وستكون مهمتهم حينذاك القيام بالدعاية بين اوساط عمال المدن، حيث سيستمر توافد هؤلاء العمال ذوي الاصول الفلاحية في اعقاب حل المشاعة ويتم رميهم في شوارع المدن الكبيرة بحثا عن أجر.
اننا، في ايامنا هذه، نسمع كثيرا بان المشاعة الريفية هي شكل قديم محكوم عليه بالفناء من قبل التاريخ والاشتراكية العلمية، وباختصار، لاداعي للنقاش. ان من يحمل مثل هذا الرأي يسمون انفسهم تلاميذك المتميزين: " ماركسيين". فكثيرا ما تكون حجتهم : " هكذا قال ماركس". " كيف يمكن اشتقاق ذلك من رأس المال؟" والبعض الاخر يحتج قائلا " انه لم يناقش المسألة الزراعية، ولم يقل شيئا حول روسيا". فيرد عليهم تلاميذك بحسم، وربما بقليل من التهور " كان بامكانه قول الكثير لو ناقش الاوضاع في بلدنا".
لهذا فانك ستفهم، ايها المواطن، كم نحن متلهفون لمعرفة رأيك. ستقدم لنا خدمة عظيمة لو تمكنت من صياغة افكارك حول المصير المحتمل لمشاعيتنا الريفية، وحول فكرة الضرورة التاريخية لكل بلد في العالم في ان يجتاز جميع مراحل الانتاج الرأسمالي.
اسمح لي، بأسم أصدقائي، ان اطلب منك، ايها المواطن، تقديم هذه الخدمة لنا.
اذا كان الوقت لا يسمح لك بصياغة افكارك بالتفصيل، يمكنك على الاقل ان تفعل ذلك على شكل رسالة تسمح لنا فيها بترجمتها ونشرها في روسيا.
مع خالص التحيات
فيرا زاسوليج
عنواني هو: امبريميري بولونيس، رو دي لوزان رقم 49، جنيف
الرسالة الجوابية لماركس
8 آذار/مارس 1881
41، شارع ميتلاند بارك، شمال غرب لندن
عزيزتي المواطنة،
منعتني ألامي، التي تؤثرعليّ بشكل دوري على مدى السنوات العشر الماضية، من الرد على رسالتك المؤرخة 16 شباط/فبراير. يؤسفني أنني لا أستطيع أن أقدم لكم نصا موجزًا صالح للنشر من قبلكم حول السؤال الذي شرفتموني بإثارته. قبل بضعة أشهر ، لقد وعدت، فعلا، ان أقدم نصا حول نفس الموضوع إلى لجنة سانت بطرسبرغ. ومع ذلك ، آمل أن تتمكن الاسطر القليلة التي سأكتبها من إزالة شكوكك حول الطريقة التي أسيء بها فهم ما يسمى نظريتي.
في تحليلي لمنبع وأصل الانتاج الرأسمالي قلت:
"في قلب النظام الراسمالي ثمة انفصال تام...للمُنتِج عن وسائل الانتاج...سلب ملكية المُنتِج الزراعي هو الاساس في كل العملية. هذ السلب لم يتتحقق حتى الان بصورة جذرية الا في انجلترا....لكن جميع البلدان الاخرى في اوروبا الغربية تسير في السبيل ذاته ( رأس المال، الطبعة الفرنسية ص 315)"
ان " الحتمية التاريخية" لهذا السبيل ، لهذا السبب، محصورة، بشكل جلي، في بلدان اوروبا الغربية. وسبب هذا التحديد موضح في الفصل 32: " الملكية الخاصة" المؤسسة على العمل الشخصي، قد حلت محلها الملكية الخاصة الراسمالية التي تقف على استغلال عمل الاخرين، على العمل الماجور ( ص 340)
وعليه، ففي الحالة الغربية، هناك شكل من اشكال الملكية الخاصة تحول الى شكل آخر من اشكال الملكية الخاصة. ولكن في حالة الفلاحين الروس، فان ملكيتهم الجماعية سيكون عليها ان تتحول الى ملكية خاصة.
ولهذا فان التحليل في رأس المال لا يوفر اسبابا لصالح او ضد حياة المشاعة الروسية. لكن دراستي الخاصة، التي تضمنت العديد من المواد الاصلية، اقنعتني ان المشاعة هي نقطة ارتكاز للتجديد الاجتماعي في روسيا. ولكن لكي تقوم بهذا الدور يجب عليها اولا ان تزيل كل المؤثرات الضارة التي تحيط بها من كل جانب، ومن ثم يتوجب عليها ان تؤمن الشروط الطبيعية لتطورها العفوي.
يشرفني، عزيزتي المواطنة ، ان اكون مخلصا لك، وتقبلي فائق الاحترام
كارل ماركس
• منشور في مجلة الثقافة الجديدة عدد تموز/ يوليو 2020