فيلم لمخرجة إسرائيلية شابة عن النكبة وضرورة محاسبة الماضي يفتح قناة جديدة للحوار
اساف اديب
الحوار المتمدن
-
العدد: 7007 - 2021 / 9 / 2 - 10:04
المحور:
الادب والفن
الفيلم الجديد “صندوق أزرق” للمخرجة الإسرائيلية الشابة ميخال وايتس، هو محاولة قيمة لمناقشة واعادة تفكير في دور مؤسسة الصندوق القومي اليهودي (JNF) الذي كان الصندوق الازرق لجمع التبرعات من سماته المشهورة. في حقيقة الأمر يمكن إعتبار الفيلم نوعاً من الحساب العائلي الداخلي، ومراجعة ذاتية داخل الأسرة، من قبل المخرجة علمًا بانه يتناول سيرة حياة جدها الأكبر، السيد يوسف فايتس، الذي كان مسؤولاً كبيراً في الصندوق القومي وكان شخصيا مسؤولا عن عمليات ترحيل السكان الفلسطينيين قبل قيام دولة اسرائيل وخلال حرب 1948 والنكبة. ويطرح الفيلم أسئلة شائكة وصعبة على الإسرائيليين حول تصرف دولتهم آنذاك، لا سيما عملية تفريغ البلاد من الفلسطينيين وبالتالي حول المبدأ المقدس في اسرائيل الخاص بضرورة الفصل بين اليهود وبين العرب. نظراً لحساسية الموضوع الذي يتطرق له الفيلم وصلة القرابة التي تربط المخرجة بالشخصية المحورية في الفيلم، يعتبر ما قدمته المخرجة دعوة شجاعة وهامة لمحاسبة الذات، وبالتالي فتح حوار مع الشباب الفلسطيني تمهيداً لبناء مستقبل مشترك للشعبين في هذه البلاد.
فيلم يراعي أعلى درجات الدقة “الصادمة”
تنبع قوة الفيلم من حقيقة أن المبدعة وكاتبة السيناريو والمخرجة، ميخال وايتز،تتحدى جدها الأكبر يوسف وايتز، أحد قادة الصندوق القومي اليهودي (JNF)، المعروف برمزه الصندوق الأزرق، ولعب دوراً رئيسياً في ترحيل مئات الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم وأراضهم في عام 1948 وقبله. في فيلمها الوثائقي هذا التزمت وايتز أعلى درجات الدقة والتوثيق، حيث أوردت مقتطفات من يوميات كتبها يوسف وايتز وقتذاك، إضافة لصور ومقاطع فيديو نادرة جمعتها في ارشيفات في بريطانيا وكنادا وغيرها كما من مذكرات من تلك الفترة، توضح الكارثة الرهيبة التي حلت بالفلسطينيين خلال تلك السنوات الحاسمة من قبل الحركة الصهيونية.
الفيلم لا يشفق على المشاهدين ويعرض الواقع بكل حدته، ولا يراعي الحساسيات الإيديولوجية. وتواجه المخرجة الحقائق الخطيرة من خلال مقابلات أجرتها مع أفراد عائلتها، الذين نشأوا جميعاً في ظل أسطورة والد العائلة، مدير
الصندوق القومي يوسف وايتز، الذي يُنظر إليه كبطل في التاريخ الرسمي لإسرائيل باعتباره ممن قاد ونظم عملية الاستحواذ على الأراضي والممتلكات العربية وبادر إلى عملية غرس الغابات لتغطية الجريمة.
تمارس ميخال وايتز في الفيلم نوعاً من إعادة تقييم تاريخ عائلتها من خلال قراءة مقاطع من اليوميات، التي تركها جدها الكبير ومن خلال مقابلات أجرتها مع والدها وثلاثة من أعمامها، جميعهم ولدوا في فترة إقامة إسرائيل في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. ويتبين من طرح الأفلام والمعطيات والشهادة الشخصية للسيد يوسف فيتس بأن ما حدث خلال تأسيس دولة اسرائيل كان بمثابة كارثة إنسانية حلت على مئات آلاف الفلسطينيين. إلا أن الجواب التبريري الذي تتكرر على لسان من أجرت معهم المخرجة مقابلات أو عرضت شهادتهم من أبناء الجيل القديم، هو أنه “لم يكن لنا خيار آخر”، وبالتالي يريدون القول فيما معناه أنه من الأفضل ترك الموضوع منسياً وعدم نبش التاريخ. في إحدى المقابلات التي يعرضها الفيلم يقول والد المخرجة بأنه ينصحها بأن تترك البحث في هذا الموضوع لأنه غير مجدي ولو أنها (ابنته المخرجة) كانت تعيش في عام 1948 لكانت تصرفت تماماً كما تصرف جدها الكبير.
قصر نظر القيادة الإسرائيلية
ابتعدت المخرجة ميخال فيتس في فيلمها عن عناصر التشويق ونمط التحقيقات البوليسية الاستعراضية، أي أنها لم تكن مجرد محاولة الكشف عن حقائق غير معروفة عن النكبة أو عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وإنما عرضت مقاطع أفلام توثيقية تمكنت من الحصول عليها من أرشيفات في كافة أنحاء العالم، تُظهر عملية الإجلاء والترحيل لمواطنين أبرياء من ديارهم، هم ضحايا تلك الحرب.
المساهمة الأساسية للفيلم تعود إلى رفضه للرواية الرسمية الإسرائيلية، التي تحمّل المسؤولية تداعيات حرب 1948 وما بعدها بما فيها لجوء الفلسطينيين عن ديارهم للقيادات العربية والفلسطينية، وتضيف السردية الإسرائيلية بأن هذه الزعامات العربية كان هدفها آنذاك تدمير وقتل اليهود في فلسطين، وبالتالي عليها أن تحاسب نفسها وتدفع الثمن بعد ما خسرت الحرب.
الفيلم يظهر بشكل لا يقبل التأويل بأن كان هناك مخططًا إسرائيليًا تم تنفيذه أثناء الحرب وبعدها لتطهير البلاد من العرب، وأن الرؤية التي اعتمدها القادة الإسرائيليون بمن فيهم يوسف فايتز كانت تتبنى فكرة الفصل المطلق بين الفلسطينيين واليهود، لأنهم يرون بأنه “لا يمكن للشعبين أن يعيشا سوية في نفس الأرض”.
من خلال يوميات يوسف وايتز المباشرة وسيرة حياته اليومية والعادية -غير الرسمية أو الدبلوماسية- يمكننا كمشاهدين للفيلم أن نفهم بأن فكرة الدولة اليهودية التي تحافظ على هيمنة الأغلبية اليهودية هي في الواقع مخطط يرسم لحرب أبدية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وهذا يظهر في الفيلم عندما يحذر مدير الصندوق القومي
اليهودي زملاءه في القيادة الإسرائيلية، بن غوريون وموشيه شاريت، ويقول لهم بأن قضية اللاجئين الفلسطينيين سيكون لها تأثير وعواقب ستلاحق الدولة العبرية، ويعتبرها حسب رأيه قنبلة موقوتة يجب التعامل معها، لكنه يُجابه برد فعل لا مبالي، ويقول له شاريت الذي كان وزير الخارجية الاسرائيلي في الخمسينيات بأنه يشعر بأن دول العالم لا تهتم في الموضوع وأن الوجود الفلسطيني سيختفي عن الوجود تدريجياً.
مع احتلال الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة في حرب 1967، يرى السيد يوسف فايتز، بعد تقاعده وابتعاده عن أي وظيفة رسمية، بأن قضية اللاجئين تعود إلى الواجهة. وذلك من خلال مذكراته التي توردها المخرجة في الفيلم، وفي تلك المرحلة يبدو القيادي القديم كأنه يعيش حالة من الذهول على عكس نشوة الانتصار الكبير التي عمت المجتمع الإسرائيلي بعد حرب 1967. فمن وجهة نظر وايتز أن احتلال الضفة وغزة أعاد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين إلى الواجهة. أي أن اللاجئين أنفسهم الذين تم ترحيلهم بالأمس أصبحوا الآن برأيه مشكلة إنسانية يجب على إسرائيل أن تتعامل معها وتجد حلاً لها بعد أن كانت جهودها منذ النكبة تتمحور حول طمس هذه القضية ومحوها. وهذا نوع من الاعتراف من قبل المسؤول المتقاعد يدل على أن فكرة الانفصال والحفاظ على “الدولة اليهودية الصرفة” فشلت مع احتلال الضفة الغربية وغزة وبذلك اختفت إسرائيل اليهودية الصرفة التي حلم بها، وخلقت مكانها أرضاً يعيش فيها شعبين في ظل نظام احتلال وسيطرة شعب واحد على الاخر.
مواجهة بين جيلين في المجتمع الاسرائيلي
تصف المخرجة وايتز المشكلات التي أرقت فكر جدها وشغلت باله، ومع ذلك لا تزال تركز على النقاش داخل عائلتها حول ملابسات ما حدث. فهي ليست غاضبة وتحاول قدر الإمكان الحفاظ على النقاش الموضوعي والودي مع والدها وأعمامها المتمسكين في السردية الصهيونية القديمة.
ويظهر في الفيلم بأن المخرجة فشلت فشلاً ذريعاً في محاولة إقناع أبناء الرعيل الأول بضرورة التغيير الفكري والاعتراف بالجريمة التي حلت بالفلسطينيين. وعلى الرغم من ذلك فإن ما يثير الاهتمام ويثبت بأن هناك أمل للتغيير هو المقابلات التي أجرتها المخرجة مع بنات وأولاد عمها حول نفس الموضوع لاستطلاع رأيهم وردة أفعالهم جميعاً، حيث كانوا متعاطفين معها ومع الأسئلة التي تطرحها. وهنا كان من المثير للغاية هو ما قاله الصحفي جيدي وايتز، ابن عم المخرجة ويشغل منصب هام كمراسل في صحيفة هآرتس الليبرالية، في الفيلم منتقداً والده المؤرخ يحيعام فايتس، بالقول “على الرغم من أنه إنساناً جريئا وموضوعياً إلا أنه يرفض أن يناقشه أحد بما حدث في النكبة، ويضع جدار حديدي كلما حاول أحدهم أيثار النقاش حول هذا الموضوع”.
يبدو بوضوح من الفيلم بأن هناك تناقضاً بين الطريقة التي يفكر بها أبناء الجيل القديم، المحافظ المصر على التمسك بالسردية الصهيونية، وبين أبناء الجيل الأصغر سناً، الذي يظهر انفتاحاً واستعداداً لمحاسبة الماضي، وهؤلاء هم بالتالي يقدمون للفلسطينيين اقتراحاً للحوار والحياة المشتركة.
تيار فكري ثقافي جديد في العالم
كرست ميخال وايتز 14 عاماً للبحث عن الوثائق والصور وجمعت مقاطع أفلام من فترة نشاط جدها الأكبر وقامت في قراءة ما لا يقل عن خمسة آلاف صفحة من اليوميات، التي كتبها جدها يوسف فايتس خلال أكثر من 30 عاماً من نشاطه في الصندوق القومي اليهودي . وسمح لها هذا البحث بتعرية حقيقة نشاطه وحقيقة ما حدث بعيداً عن الأسطرة والصورة الوردية التي كانت دائما ترسم أبناء ذلك الجيل في فترة إقامة الدولة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الروح وهذا الاستعداد لطرح قضايا شائكة ومؤلمة من الماضي للنقاش بكل هذه الصراحة والجرأة، أمرٌ نشهده اليوم في أكثر من بلد وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، التي شهدت خلال العام الماضي نقاشات وحركات فتحت الباب على مصراعيه لإعادة نقاش مسألة العبودية وتاريخ السود في أمريكا. فما كان في الماضي يعدّ “تابوه محرم” ممنوع خوض النقاشات حوله في أمريكا وأستراليا وكندا، مثل معاملة المستوطنين الأوروبيين للسكان الأصليين ومع السود العبيد، الذين تم جلبهم من أفريقيا فيما كان يعرف بـ “تجارة الرقيق”، أصبح اليوم موضوعاً مركزياً للنقاش. وقد أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخراً أن يوم الـ 19 من حزيران/يونيو يوماً قومياً لكافة الأمريكيين للاحتفال بتحرير العبيد السود في عام 1865 (Junteenth).
كما يخاطب الفيلم من خلال توجهاته المتحدية للسردية الرسيمة روح ثورات الربيع العربي في البلدان العربية التي طرح خلالها جيل جديد من الشباب نقداً لاذعاً لأنظمة الاستبداد القومية. وعلى الرغم من أن القوة الرجعية والمحافظة في المجتمعات العربية والإسرائيلية، على حد سواء، لا زالت قوية وذات تأثير مسيطر وتعمل على طمس الأفكار الجديدة، إلا أننا نرى الأمل يتمثل في الأصوات التي يقدمها الجيل الشاب ويعتبر هذا الفيلم “صندوق أزرق” ومن دون شك أحد هذه الأصوات، وهو الأمل بأننا أمام نهضة ثقافية سيكون لها تأثير عاجلاً أو آجلاً.
قد تكون نقطة الضعف في الفيلم هي عدم نقل صوت الضحية، حيث لم يظهر أي متحدث أو شاهد فلسطيني، حيث يظهر الفلسطينيين كعنصر سلبي غير فعال في المشهد التاريخي. في هذا المجال انتقد الكاتب عودة بشارات في مقالة عن الفيلم لصحيفة هآرتس (نشرت بتاريخ 30.07.2021)، أن “في المنازل المدمرة والقرى التي هجر سكانها كان هناك بني البشر يجب أن ننظر إليهم ونستمع إلهم”.
يعكس هذا النقص في الفيلم واقع البعد الثقافي واللغوي، الذي يبعد المخرجة وجيل الإسرائيليين الجدد عن العالم العربي وحتى عن الفلسطينيين، الذين يعيشون معهم في الدولة نفسها. في الواقع هناك جهل مماثل للغة والثقافة
الإسرائيلية أيضاً في العالم العربي، كما يبقى الشباب الفلسطيني في رام الله وبيت لحم بعيدين عما يحدث في إسرائيل. ويقول الرأي السائد طالما أن الجانب الإسرائيلي ينكر وجودنا بحد ذاته، فما الفائدة من انفتاحنا عليه؟!
ولكن قد يكون هنا، في هذا الفيلم خيار آخر تقدمه المخرجة الشابة ميخال وايتس باعتبارها تمثل تيار إسرائيلي جديد ومنفتح لمناقشة الماضي، والأهم مناقشة وبناء مستقبل مشترك. إذا كانت رؤية جدها يوسف وايتز تنطلق من الاعتقاد الراسخ باستحالة العيش المشترك بين اليهود والعرب في هذا البلد، إلا أن ما تطرحه حفيدته ينطلق من الإدراك بأن الفلسطينيين موجودون في البلاد ولهم حضورهم القوي، وعلى ذلك لا بد من البحث عن طرق للعيش المشترك بين الإسرائيليين والفلسطينيين. هذه الدعوة الضمنية للحوار تلهمنا وتحرك فينا الأمل في أن يعرف الشباب من كلا الجانبين كيفية كسر الحدود والآراء المسبقة لإيجاد سبل لخلق لغة وأسلوب حياة قائم على المساواة والشراكة.
· الفيلم “صندوق أزرق” تم عرضه للمرة الأولى في مسابقة مهرجان الأفلام الوثائقية “Doc Aviv 21” في تل أبيب، في شهر تموز/يوليو 2021، وحصل الفيلم على المرتبة الأولى في مجال استخلاص المعلومات للفيلم