المرجعيّة بين الصمت والكلام
سلام عبود
2019 / 11 / 16 - 12:11
اليوم، الجمعة، الخامس عشر من تشرين الثاني، بعد مرور أربعين يوماً على سقوط أوّل شهيد عراقيّ على يد السلطة القاتلة، وبعد خمس خطب جمعويّة للمرجعيّة، اتسمت بالموازنة بين القاتل والقتيل، وبالبلاغة اللفظيّة والتوريات، نطقت المرجعيّة.
أقول نطقت، لأنّها قالت شيئاً مفيداً يمكن سماعه والإصغاء إليه.
العقل يقول أنْ تنطق لهو خير من أن تسكت أو تتوارى خلف البلاغة الإنشائيّة، الخطابيّة. وهذه نقطة إيجابيّة يجب أن لا يتمّ التفريط بها، بل يتوجّب التشبث بها، وجعلها عنصر قوّة في الصراع من أجل إقرار الحقوق الوطنيّة المشروعة.
ربما تقول العواطف والضمائر: خيرُ البرّ عاجله!
نعم، قد يُقال ذلك مصحوباً بألم المصاب البليغ. فقد كان في وسع من يظنّ في نفسه المقدرة على إيقاف إهدار الدمّ أنْ لا يتردد، أو يتهاون، أو يتباطأ، حتّى يبلغ القتل هذا المبلغ، الذي لم يعد بمقدور القتلة إخفاءه، ولم يعد بمقدور الشعب احتمال أذاه الكبير. الصور والأفلام والشهود أضحت بالآلاف، وهي تكفي لإدانة أذكى القتلة وأكثرهم حصانة وبراعة في القتل والمراوغة. المرجعيّة تعرف الآن، بالصوت والصورة، بأنّ حقّ محاكمة القتلة قد يضع فرق الصمت المتنوعة أجمع، ومنها المرجعيّة، في موضع الشبهة، أو في موضع الإدانة المؤكّدة، لثلاثة أسباب منطقيّة وقانونيّة: الأوّل، أنّها جعلت من نفسها سلطة مرجعيّة عليا، معترفاً بها لدى جميع الأطراف الحاكمة والمحكومة، يضاف إليها بعض الهيئات الدوليّة. أي أنّها طرف مؤتمن في التسوية، ولنقل من باب الثقة وحسن الظنّ، التسوية بالحسنى. الثاني، أنّها هي بنفسها من طالب في حصر التظاهر في "مواضعه المحددة" و"ساحات الاعتصام" حفاظاً على "السلميّة". وهي وشروط السلطة طبعاً، التي تبنتها وهي تدرك أنّ جهاز القمع يهدف من هذا الإجراء إلى حبس المتظاهرين وتطويقهم في قفص اختاره القتلة بأنفسهم. وإذا افترضنا براءةً أنّ المرجعيّة لا تدرك فنون القتال العسكريّة، ولا تعي خبث نيّات السلطة وخططها البربريّة، فإنّها الآن ترى بأمّ أعينها أنّ قفص الموت، وفخّ الجريمة، أضحى مقبرة يوميّة ومشفى دائماً للقتلى والمصابين. فهل هذا ما تريده المرجعيّة؟ صور الشبّان السلميين المصابين والقتلى تكذّب كلَّ ذي شكّ، المرجعيّة الدينيّة وغيرها من المرجعيّات. القتل المتعمّد باستخدام وسائل قتل مباشرة كالذخيرة الحيّة، أو استخدام الوسائل غير المباشرة كأدوات للقتل: إطلاق القنابل على الرؤوس، الإطلاق المباشر عن قرب للرصاص المطاطيّ، وصولاً إلى آخر الاكتشافات الوحشيّة: مهاجمة المصابين والفارّين باستخدام الدروع، كوسيلة مبتكرة لتهشيم الأجساد والوجوه! كلّ هذه الأدلّة تجعل من المرجعيّة طرفاً أساسيًّا في المشهد، بما أنّها اختارت بنفسها أن تكون طرفاً معترفاً به. تحليل الصور، الذي قمنا به، من النزر اليسير، الذي تمكنّا من الحصول عليه، مصحوباً بقلّة خبرتنا في الشؤون الجنائيّة والحربيّة، لم تمعنا من الحصول على الحقائق الدامغة التالية: تتكون تشكيلة الفرق العسكريّة المهاجمة من خمسة صفوف في حالة المشاة. الصفّ الأوّل يتكون من جنود لا يحملون أسلحة ظاهرة، بل يستخدمون الهراوات والدروع. وهذا الخط اسمته السلطة بالخطّ السلميّ، والذي يظهر دائماً في الصور التلفزيونيّة. أي هو خطّ التمويه العسكريّ والدعاية! يليه خطّ ثان مسلّح بقاذفات قنابل صوتيّة وغازيّة، تُستخدم للتفريق وللقتل المباشر، وقد عُدَّ هذا الخطّ بالخطّ الوقائيّ شبه السلميّ عمليًّا ودعائيًّا. وخطّ ثالث مسلّح بأسلحة قتاليّة بعيدة المدى (بنادق). والخطّ الرابع هو خطّ فرق القنصّ الملثّمين ذوي الملابس السود (فرق جهنم!). يليهم في المؤخرة (زبانية عزرائيل) خطّ الاختطاف والاعتقال، الذي يُراقب المشهد من بعد، ويرتبط ارتباطاً فوريًّا مباشراً بالقيادتين الميدانيّة والعليا. أمّا في القوات السيّارة فتتكون خطوط القتلة من ثلاثة تكوينات أو خطوط: الأّوّل سيارات رش المياه، تعقبها سيارات الإسعاف، ثمّ تليها سيارات الرمي الحيّ من مسافات بعيدة، مزوّدة برشاشات متوسطة. أمّا تشكيلات الشرطة الاتحاديّة في المحافظات فتختلف ببعض التفاصيل، منها ظهور أسلحة قنصّ لدى بعض المراتب مخفيّة في سيارات مدنيّة وعسكريّة. هذه اللوّحة الحربيّة تجعل كلّ طرف من أطراف المشهد مسؤولاً عمّا يقوله ويفعله، بمن فيهم السلطة والمتظاهرون والمرجعيّة. لأنّ هذه التشكيلات ليست مجرد خطوط لصدّ متظاهر سلميّ، بل هي منظومة إجراميّة منهاجيّة، مركّبة ومدروسة بعنايّة إعلاميّة وحربيّة، تجعل القائمين بها يتجاوزون حدود كونهم قتلة، إلى ما هو أبعد من ذلك. إنّهم مهندسون بارعون في فن القتل. لأنّهم بهذا التدبير يورّطون حتّى مراتب الجيش والشرطة وآمريهم المباشرين، الذين لا يرون اللوحة القتاليّة العدوانيّة، المرسومة من أعلى، مما تسبب بوقوع مصابين من القوات العسكريّة بإطلاقات من الخلف وتحت تأثير قنابل الغاز، ومن مصادر مجهولة (!!) تعرف طبيعة التشكيل القتاليّ. وهنا أريد التوقف عند موضوع عرضيّ سألني عنه عدد من الأصدقاء من غير العراقيين: لماذا يحتمي المعتصمون ببناية "المطعم التركيّ"، ولماذا يجعلون أنفسهم صيداً سهلاً لغارات وغازات واختطاف القوات العسكريّة؟ وكان جوابي دائماً، -أشكّ في مقدار صحّته- أنّ بناية المطعم مكان رمزيّ، لأنّ أزلام السلطة اتخذوه سابقاً موقعاً للفرجة، يشاهدون منه مسلسل قمع المتظاهرين المسلّي وهم يدخّنون ما قدّره الله لهم، ويكرّزون حبًّ البطيخ، ويسبّحون باسم الله ساخرين. أمّا السبب الثاني لأنّه موقع سبق للقناصين أن اتّخذوه موقعاً ومرصداً للقتل. وهذا يعني أنّ العدو أحياناً يعلّمك بنفسه أساليب محاربته ومقاتلته. وهذا ما يجعلني أقول إنّ الحديث عن "سلميّة" الفعل الاحتجاجيّ أو عدم سلميّته ليس خياراً نظريًّا افتراضيًّا، بل هو وسيلة إرغاميّة، يفرضها عليك خصمك وعدوك. إن أكثر أشكال إسقاط السلطة سلميّة في التاريخ العراقيّ هو انقلاب البعث المشؤوم في 17 تموز 1968-قتل فيه جنديّ واحد من طريق الخطأ- لأنّ الخصم الحاكم قدّم لعصابة مكونة من تسعين من زقاقيّة الشوارع وبضعة عسكريين مأجورين كرسيّه وودّع البلاد! ثالثاً: إنّ المرجعيّة بصفتها الدينيّة هي أكثر الأطراف العراقيّة قرباً من فصائل العمل المسلّح على اختلاف مشاربها، لذلك هي أكثر الأطراف معرفة بمن يقوم بالقتل العلنيّ وغير العلنيّ وبالخطف، الذي تحاول السلطة التنصّل منه. فعلى سبيل المثال إنّ قتلة عناصر "العصائب" في مدينة العمارة معروفون بالاسم لدى الجميع وعلى رأسهم قيادة الحشد الشعبيّ. لماذا لا تتمّ محاسبة هذا الطرف، والأنكى لماذا تلصق التهمة بالمتظاهرين الأبرياء عامة؟ هنا تُثار علامات استفهام عميقة: ألا تعرف المرجعيّة بترسانات الأسلحة التي تحويها مقرّات الأحزاب؟ إن تكن حقًّا تجهل ذلك، رغماً عن سقوط مئات القتلى في المناطق الشيعيّة الشعبيّة، فهذه جريمة نكراء، يندى لها الجبين. وإنْ كانت تعرف، عليها أن تُفصح للعوائل الفقيرة المنكوبة لمن يخزّن الحزبيّون السلاح، وبأمر من؟ لقد اتسع نشاط الفرق المسلّحة المتصارعة، واتسع معها الخلاف بين القوى السياسيّة الحاكمة (وهي جميعها مسلّحة)، إلى الحدّ الذي أصبح خارج نطاق السيطرة. لكلّ هذه الأسباب شعرت المرجعيّة أنّ يديها وسمعتها ومكانتها وذمتها ممرغة بدم الشعب، أو في سبيلها إلى ذلك في أحسن الأحوال، شاءت أم أبت، بحكم تواتر وتراكم المجازر. من هنا جاءت خطبتها الأخيرة، التي حوت بعض النقاط الإيجابيّة المتقدمة، التي يجب التمسّك بها، والإشادة بأهميتها كوثيقة إقرار لبعض الحقوق، ومنها: سلطة الشعب، إذا كان المقصود بالشعب هو الشعب الثائر لا الناخب، كما ادّعت خطبة سابقة. محاسبة القتلة، على الرغم من أنّنا لا نعرف من سيحاسبهم؟ وكيف يُعقل أنّ القاتل يحاسب نفسه بنفسه؟ وأين نتائج لجنة التحقيق السابقة؟ لماذا نُسيت؟ ولماذا الصمت على نسيانها؟ وهل يندرج هذا الصمت المؤذي ضمن خطاب الناسخ والمنسوخ! ومن النقاط الجديدة تغيير بعض وجوه السلطة، وهنا لا نعرف من سيقوم بتغييرهم ومن يختار البدلاء! تعديل قانون الانتخابات إقرار جيّد، ولكن من سيقوم به؟ وربّما يكون النصّ الأكثر إثارة وقوّة هو الإفصاح للمرّة الأولى عن محاكمة رؤوس الفساد، وليس صغاره، كبش الفداء، الذين قيل إنّ بعضهم لهم صلة ما بالمرجعيّات. إن صمود الشعب في وجه طغمة الفاسدين واللصوص القتلة حتّم على السلطات السياسيّة والروحيّة المتسيّدة، كلّها، أن تتآكل بالضرورة، وربّما تتناحر، بسبل مختلفة. وهذا نصر محدود ومؤقّت للشعب.
ولأنّنا شعب متواضع نقول: البرُّ خيرٌ عاجله وآجله، آملين لمن يريد أن يكون طرفاً بارًّا أن يعترف بمسؤوليته أولاً، وأن يتحمّل تبعات هذه المسؤوليّة ثانياً، بما فيها المسؤوليّة الأخلاقيّة والوطنيّة.
إنّ خطبة المرجعية ليوم 15 تشرين الثاني تقدّمٌ نسبيٌّ في الخطاب، يميل في بعض فقراته إلى صفّ حقوق الشعب، على الرغم من أنّه لم يزل متشبّثا بجوهر النظام المفروض على الشعب، باعتباره قدراً وحيداً منزّلاً من السماء، سماء التحاصص الإقليميّ والطائفيّ العرقيّ. لذلك نقول يمكن للشعب الإفادة من هذه الخطوة الايجابيّة، التي فرضتها بشاعة الأحداث، وافتضاحها بالتوثيق، وغزارة الأدلّة الدامغة، واضطرار مسؤولي السلطة إلى الاعتراف بها علناً ونسبتها الى قوى مجهولة، وهذا أبشع من الجريمة ذاتها.
إلّا أنّ استمرار وتصاعد واتساع وتنوع مصادر العنف البربريّ، والعدوانيّة الوحشيّة، ضد الشعب تشي بأنّ إرادة القتلة لم تزل مطمئنّة، ومسنودة بقوّة من جهات ضامنة أكيدة، تستدعي منّا جميعاً أن نتساءل: من تكون هذه القوى الساندة والضامنة؟ في هذا السؤال يكمن سرّ بقاء المجرمين واستبسالهم في القتل العلنيّ براحة بال وضمير مستريح. هنا ينبعث مجدّداً التساؤل حول دور المرجعيّة الروحيّ والأخلاقيّ والشرعيّ: حتّام تقبل بأن يكون اسمها مختطفاً أو مجيّراً، عنوة أو طوعاً، لمصلحة الحاكم الفاسد الجائر والقاتل المجرم، وليس لمصلحة الشعب المظلوم، والضحيّة المغدور بها؟
على القوى الدينيّة واجبا روحيًّا وشرعيًّا أن تعرف إلى من ترفع أذان الفجر كلّ يوم: أإلى الله مصحوباٌ بدعاء الشعب المظلوم، أم إلى الله مصحوباً بإرهاب الظالم الفاسد؟
في لبنان لم يسقط سوى قتيل واحد برصاص قاتل ينتمي إلى الفريق الحزبيّ والطائفيّ ذاته.
ها هو لبنان يحمل نعش شهيده ويجول به رمزيًّا وواقعيًّا من شمال لبنان إلى جنوبه. أمّا نحن فالقاتل نفسه يعترف بسقوط ما يقرب من أربعمئة شهيد، وأكثر من خمسة عشر ألف جريح ومصاب، وأكثر من ألفي مختطف ومعتقل (أطلق سراح بعضهم (1687) وفق بيانات السلطة يوم أمس، يُقال إنّ جلّ المطلق سراحهم، ليسوا من المتظاهرين، بل من أتباع داعش لإرضاء طرف ما!!) من دون أن يرفع الشعب جثامينهم وجراحهم وهويّاتهم علماً للوحدة الوطنيّة.
متى تحين الساعة، التي تصبح فيها دماء الأبرياء خطاً أحمر، يُسقط عن القتلة الفاسدين "شرعيّة" القتل المباح!
خطوة المرجعيّة المتقدّمة تقابلها جريمة كبرى بحقّ الوطن، جريمة الطوائف والأعراق المترقّبة والمتربّصة، التي تصرّ إصراراً مشيناً على الصمت، وتحجم عن الخروج من شراكة الظالم، متّخذة من دماء شباب العراق الزكيّة، خطوطاً للتماسّ الطائفيّ العرقيّ، جاعلة منها خارطة للتقسيم المرتقب، وفي أشرف الأحوال جاعلين منها مادة للتحاصص الطائفيّ العرقيّ الابتزازيّ المشروط. إنّ اعتبارهما- التقسيم والابتزاز- ورقة تفاوض إلزاميّة، يُقرّرون بموجبها رسم صورة أيّة سلطة قادمة في العراق، ليس سوى لؤم سياسيّ دونيّ، وغدر عدوانيّ مبيّت.
لا وطنيّة، ولا شرف أو كرامة، لمن يغدر بشعبه في لحظة تاريخيّة فاصلة، كبرى!