الديمقراطية والمجتمعات الحرّة ( العراق بعد 2003 )
مهدي جابر مهدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 5787 - 2018 / 2 / 14 - 22:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تثير الديمقراطية على صعيدي النظرية والممارسة الكثير من الأسئلة والقضايا التي تهم حياة الناس وعلاقتهم ببعضهم .
( 1 )
رغم التطور الذي شهدته البشرية وتراكم التجارب والمنجزات الا ان ذلك لم يحقق طموحات البشرية بعالم آمن مستقر ، حيث لازال الظلم والتسلط والاستبداد والقمع والحروب والصراعات والمأسي والجوع والفقروالارهاب وأنواع الأزمات يفتك بالملايين من البشر ، في ظل عولمة الظواهر السياسية وتنامي الميل العالمي نحو الديمقراطية.
واللافت أيضاً ان الكثير من الدول والانظمة السياسية والأحزاب ، ركبت موجة الديمقراطية ولكن ليس من اجل خدمة مصالح شعوبها بل لاحتوائها وتوظيفها لصالح تلك الدول والانظمة وأحزابها وديمومة هيمنتها.
فالديمقراطية ليست مجرد شعارات مضللة وإعلانات سياسية بل هي منظومة فكرية وسياسية متكاملة تشمل :
1- المبادئ .. 2- الاليات .. 3- المؤسسات .. 4- القيم ..
ولكل واحدة من هذه الأسس والركائز الأربعة ، المترابطة والمتبادلة التأثير ، شروطها ومتطلباتها ومقوماتها ، والتي من الممكن ان لم يتم تطبيقها وتوظيفها وإدارتها بصورة سليمة ، ان تتحول من مقومات الديمقراطية الى معوّقاتها ، وأكثر من ذلك تصبح وسائل و ميكانزمات للانقضاض عليها .
ويقول التطبيق : ان فرض الديمقراطية بالقوة يقود الى الفشل .. هذا هو الدرس الذي قدمته التجربة العراقية بعد الاحتلال الامريكي في 2003 ، والذي أنتج لنا صراعات سياسية أعاقت وتعيق الديمقراطية ، مثلما أنتج لنا رجال سياسة متعطشون للسلطة باي ثمن .
وارتباطاً بذلك نجد كثرة العناوين والقضايا والإشكاليات التي تتعلق بالديمقراطية عموماً والتجربة العراقية بعد 2003 خصوصاً .
وسوف اركز على قضيتين رئيستين فقط وهما : 1- الأحزاب السياسية . 2- الثقافة السياسية .
( 2 )
تقترن عملية تحقيق الديمقراطية بمستوى ادراك المجتمع للتحديات التي تقف أمامه والدور التنويري الذي تقوم به الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني من خلال الارتقاء بدور الفرد والمجتمع على طريق بناء المجتمع الحر والمتحرر من قيود التخلف الاجتماعي - الاقتصادي والثقافي ( الجهل والامية وثقافة الطاعة والخنوع )
وللأحزاب السياسية دور هام في هذه العملية كونها أدوات تنشئة سياسية وتحديث تقوم على الربط بين الفكر والتنظيم باتجاه تعبئة الناس صوب أهداف وبرامج محددة لتحقيق الديمقراطية .
الملاحظ هنا ان الظاهرة الحزبية في العراق بعد 2003 تميزت بغلبة الطابع السلبي والكمي ( بلغ عدد الأحزاب المجازة رسمياً 205 ) واقتصر عملها في الغالب الاعم (خاصة الحاكمة منها ) من خدمة الصالح العام الى تحقيق المصلحة الذاتية والنفوذ السياسي . واشتركت الأحزاب ( باستثناء قلة قليلة ) في أوسع عمليات فساد اضافة الى شراء الذمم والتزوير الصارخ لأرادة الناخبين في انتخابات السنوات الماضية .
واعتمدت الأحزاب المتنفذة ستراتيجية إضعاف واختراق مؤسسات الدولة وفرض قواعد الولاء والنفوذ فيها . وهكذا فان الأشكال المؤسسية والاليات التنفيذية التي تطرح كترجمة لمبادئ الديمقراطية تقود بالممارسة العملية الى تكريس الاستبداد والتسلطية وإفراغ الديمقراطية من محتواها الحقيقي .
وبدلاً من ان تسهم الأحزاب في الارتقاء بدور المجتمع وتلبية متطلباته ، أصبحت عبئاً عليه . ولعل القاسم المشترك لجميع الأحزاب السياسية العراقية بمختلف مشاربها الفكرية يتمثل في افتقادها الديمقراطية في حياتها الداخلية واستعدائها الرأي الاخر مهما كان صوابه . وبدلاً من تشجيع التفكير النقدي وأعمال العقل واشاعة الحوار، اعتمدت التنشئة التي تقوم على الطاعة العمياء والتخوين والتكفير والولاء الفردي و التأليه و ثقافة الاقصاء مستفيدة من غباء المؤمنين الصادقين و تثقيفهم بعقلية جامدة تعتمد مقولة : " من ليس معي فهو ضدي " .. وفِي الوقت الذي تطرح الديمقراطية شعاراً مجتمعياً تُمارس نقيضه فعلياً مما يؤكد الخلل الوظيفي الحزبي الذي يتجلى بوضوح في عملية بناء ونشاط الحزب السياسي الذي تحولت فيه السلطة الحزبية الى سلطة سياسية تتعسف بحقوق الناس و تتاجر بقوتهم وتشيع الكراهية وتكرس التمييز وتذكي الطائفية والتعصب القومي وتعزز تنافر الهويات والولاءات وتتهم الاخر المختلف بشتى الاتهامات ..
أدى ذلك وغيره الى الى توفير البيئة المعيارية لإخفاق الأحزاب مروراً بفشل تحقيق الديمقراطية وصولاً الى العجز في عملية اعادة بناء الدولة .. وأنتج ذلك الظروف الملائمة لاستشراء الفساد والاستبداد والارهاب ....
مع التاكيد ان جميع الأحزاب تتحمل ذلك بدرجات مختلفة ، الحاكمة منها وغير الحاكمة ، العربية منها والكردية ، الاسلامية منها والعلمانية . ومرد ذلك التعميم هو البيئة المجتمعية والثقافية المنتجة لهذه الأحزاب .
كل ذلك وغيره ولَّد ظاهرة العزوف عن النشاط السياسي وتنامي الكرّه المجتمعي للأحزاب ، وبالتالي فقدت الأحزاب جانباً كبيراً من قوتها الشرعية اضافة الى تراجع كفاءتها التمثيلية ولَم تعد قادرة على التأقلم مع الزمن السياسي الجديد حيث العالم في حالة تغير مستمر . ان هذه الظواهر وغيرها تفسر ، ولا تبرر ، الفشل في إقامة نظام سياسي ديمقراطي مستقر في العراق ، ونحن اليوم نقف امام حصيلة 15 عاماً تتجسد في تجربة هشة نجحت إخفاقاتها في ابتلاع مكتسباتها دون التقليل من تلك المنجزات .
( 3 )
يمّر العراق الْيَوْمَ بحالة من الفوضى وتعثر التحول الديمقراطي . احتل العراق المرتبة 114 في جدول الديمقراطية العالمي من بين دول العالم وجاء ضمن مجموعة الأنظمة الهجينة وفقاً لدراسات بيت الحرية . واعتمد الجدول 5 معايير وهي : 1- العملية الانتخابية والتعددية . 2 - الحريات المدنية . 3- فاعلية الحكومة . 4 - المشاركة السياسية . 5- الثقافة السياسية .
تلعب الثقافة السياسية هنا دوراً هاماً باعتبارها التوجهات والمواقف والمعارف والمعتقدات والتصورات السياسية للأفراد والتي تحدد علاقتهم بالسلطة السياسية من خلال 3 عناصر وهي :
- عناصر معرفية ( المعارف العامة في النظام السياسي ) .
- عناصر عاطفية ( الولاء الشخصي لمكونات النظام السياسي ) .
- عناصر تقييمية ( الأحكام والاراء التي يحملها الأفراد تجاه النظام السياسي والادوارالسياسية المختلفة وتقييمها لأداء النظام السياسي بشكل عام ) .
فالثقافة الديمقراطية المدنية لا تنشأ نشوءاً آلياً ودون تمهيد مسبق . لذلك فالمطلوب اليوم بناء ثقافة ديمقراطية مجتمعية ، قولاً وفعلاً ، تبدأ من الأحزاب ونخبها مروراً بالتغيير المادي لمفهوم الحزب السياسي وصولاً لمفهوم السياسة كشأن عام . وهذا يستلزم تحولات جذرية في الثقافة الحزبية وفِي الثقافة السياسية للمجتمع . وبذلك تصبح السياسة مجالاً مفتوحاً للتداول الحر ومتحررة من احتكار الرأي والاستئثار الفئوي والطائفي والقومي والقداسة المصطنعة ومن اقحام الدين في السياسة وإضفاء طابع الشرعية على اختلاف الرأي وعدم تسييس الحقوق المدنية وتنمية ثقافة المواطنة المتساوية . فالناس يتعلمون بسرعة عندما تكون الحوافز الحقيقية في المتناول لان التعبئة الشعبية للديموقراطية لا تعرف التوقف . ويمكن ان تكون الانتخابات القادمة ( مجلس النواب ، برلمان اقليم كردستان ، مجالس المحافظات ) فرصاً حقيقية لتحقيق ذلك ومناسبة للمراجعة على طريق الخروج من دوامة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الرغم من اتساع الشكوك التي تراود الناس حول المستقبل .
نعم : لا ديمقراطية بدون مجتمعات حرّة .........