انتحار توك توك
السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن
-
العدد: 5756 - 2018 / 1 / 13 - 19:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لم تمنع امطار ورياح نوة المكنسة الاف السكندريين من الاحتشاد امام مكتبة الإسكندرية لمعاينة مكان الواقعة التي حدثت فجر اليوم وتناقلت اخبارها وكالات الأنباء المحلية والعالمية. وطبقا لشهود الواقعة توقف توك توك امام مبنى المكتبة واستدار ليواجه البحر وبدأت عجلتيه الخلفيتين في الانتفاخ. وفجأة قفز قفزة هائلة، تشبه قفزة حيوان الكانجارو، تجاه البحر ليغوص في مياهه مخلفا على سطحه فقاقيع الهواء.
ولم يستطع شهود العيان تأكيد او نفي وجود سائق بداخله. الا أنهم أجمعوا على أنه ألقى بعلبة من الصفيح اثناء تحليقه في الهواء وان أحد الموطنين سلمها لرجل شرطة تصادف وجوده بعد حدوث الواقعة بوقت قصير. وسلمها الأخير لوكيل النائب العام حال وصوله لمسرح الاحداث. ويفتح وكيل النيابة العلبة المغلقة بإحكام ليجد مجموعة أوراق مرسوم عليها نقوش غريبة يوحي انتظامها بانها حروف لغة ما. وأخيرا وبعد عرضها على العديد من علماء اللغات، القديم منها والحديث، يكتشف الجميع أنها مكتوبة باللغة التايلاندية. إلا أن الأمر الأكثر اثارة كان محتوى هذه الأوراق فبعد أن تمت ترجمتها تبين انها رسالة من التوك توك موجهة لنا قبل قراره بالانتحار.
وفي بداية الرسالة يعرفنا التوك التوك بنفسه فيقول: "انا وسيلة مواصلات يفضلها البسطاء لقدرتها على السير في الطرق المليئة بالحفر والمطبات الموصلة لبيوتهم على الرغم من بساطة هيكلها" ويستطرد قائلا: "ولا يغرنك منظري المتواضع فاني أمتلك فلسفة لا أخفيها بل اعبر عنها واكتبها على جسمي الهزيل على هيئة أمثال من قبيل: "من باعك بيعه.. واللي ماباعكش بيعه برضه الاحتياط واجب"، "دلعها في الغيارات.. وريحها في المطبات"، "حلوة ومتلمعة .. وع السكة متشخلعة"، "رميت همومي في البحر طلع السمك يلطم"، "إن لقيت غراب أبيض.. تلقى صاحب جدع"، "اتنين مالهمش أمان.. الفرامل والنسوان"، "البلد دي لو فيها خير .. مكانوش ربطوا الكوباية في الكولدير"، "حتى هدفي في الحياة طلع تسلل"، "من جد وجد.. ومن تخرج قعد"، "عضة حية .. ولا حب بنية".
ويمضي التوك توك في حدثه قائلا: "ولعلك الآن تتساءل لماذا انتحرت؟ سؤال اعلم جيدا انه سيشغل بال أهل اسكندرية وعموم سكان المحروسة لذا قررت كتابة هذه الرسالة حتى اشفي غليلهم. والاجابة باختصار هي: انتحرت لأني عجزت عن الفهم". وقد "كانت البداية عندما تعرفت على قائمة الأغاني التي يفضلها ركابي ويسعدون بسماعها وهم في ضيافتي. وهي أغاني من قبيل "أنا مش هفية" لأحمد شيبة ومهرجان "بلاش غرور" الذي يقوم بغنائه سعد حريقة وفيجو ولبط، و"كينج كونج" و"فين فلوسي" لنادر أبو الليف. وبالطبع كان على راس القائمة اغنية سعد الصغير التي يغني فيها للعنب ولفواكه أخرى. الا ان ان الامر الذي أدهشني حقا هو وجود مجوعة من البشر لا يعجبها غناء البسطاء هذا فتلصق به صفات من قبيل سوقي ومبتذل. وعلمت من انصاتي لحوار الركاب انهم يطلقون عليهم اسم "المثقفين". وبالطبع انزعجت من موقف هؤلاء "المثقفين" ولم افهم ما الذي يدفعهم الى استخدام مثل هذه الالفاظ القبيحة لوصف شيئ يسعد الآخرين. فلغة كلمات الأغاني هي اللغة المصرية، لغة الأم التي يتحدثها كل المصريين، وتعبر بدقة عما يدور في عقولهم من أفكار وعما تحتويه نفوسهم من مشاعر واحاسيس. أما موسيقى الأغاني فتتميز بإيقاعاتها السريعة الداعية للرقص وبألحانها التي تأخذك من حيث لا تدري الى أحضان عالم مسحور. انها باختصار أغاني تبعث على البهجة حتى وان كان موضوعها عن تصاريف القدر ومصاعب الحياة! ولعلكم لاحظتم انني لم أخفى اعجابي بهذه الأغاني كما يفعل الكثيرون خشية اتهامهم بتدني ذوقهم فأنا في النهاية مجرد توك توك.
وبقي السؤال الذي ينتظر الإجابة لماذا لا يُقَدر من يطلق عليهم اسم "مثقفين" فن البسطاء؟ ولكن قبل محاولة الإجابة عليه علينا ان نجد إجابة سؤال آخر هو "من هم المثقفين؟ وجاءتني الإجابة من حيث لا أحتسب حيث سمعت أحد الركاب وهو يردد الابيات التالية:
يعيش المثقف على مقهى ريش
محفلط مظفلط كتير كلام
عديم الممارسه-عدو الزحام،
بكام كلمة فاضيه و كام اصطلاح
يفبرك حلول المشاكل قوام
وهي ابيات اوجزت بلاغتها ما كنت أبحث عنه وهو وصف دقيق لصنف من أصناف البشر. وقد عرفت فيما بعد انها لشاعر اسمه أحمد فؤاد نجم.
الا انني لم اكتف بأشعار نجم وتابعت باهتمام الحوارات التي كانت تدور بين بعض زبائني من طلبة الجامعة. وكانت النتيجة هي ان النظر الى المثقفين ككتلة واحدة سيؤدي الى نتائج خاطئة. وتبين لي انه يمكن التعرف على فريقين. الفريق الأول يتمسك بما يسميه "ثوابت الأمة" ويتبنى مقولة أنه
"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". والفريق الثاني يري أن صلاح الأمة لا يتحقق الا بالانفتاح على الآخر والتعلم منه وانه ليس هناك ثوابت بل ان الشيئ الوحيد المؤكد هو "التغير". والغريب ان كلا من الفريقين يمارس الاستعلاء على ثقافة البسطاء. الا ان الفريق الأول يستخدم مفردات الخطاب الديني ببساطته وقدرته على تجسيد الأمور في صور محسوسة مثل ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ﴾(التوبة: 100). ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ (محمد: 15).
أما الفريق الثاني فكان يستخدم لغة غير سلسة وتحتاج بذل جهد ذهني فعلى سبيل المثال انظر الى العبارة التالية المأخوذة من كتاب "الشارع المصري والفكر" لأنور عبد الملك "أين تمكن منطقة الظواهر الاجتماعية، والتحركات، صاحبة الدلالة القصوى؟" (الفصل الأول ص. 6). او العبارة التالية من كتاب "الثورة المضادة في مصر" لغالي شكري “إذا كانت الليبرالية المصرية قد اشهرت افلاسها الرسمي بتوقيع اقطابها على معاهدة 1936 فان ذلك لم قط افلاسا لليبرالية بحد ذاتها ولا للطبقة الوسطى بحد ذاتها، بل كان افلاسا لذلك التداخل والتشابك المعقدين بين قوي الثورة والثورة المضادة" (ص. 375)
وهكذا نجح الفريق الأول في جذب جماهير أكبر كثيرا جدا ممن اتبعوا الفريق. والحق اقو ل أنى لم افهم تقاعس الفريق الثاني على تجديد لغة خطابه. وهنا قررت الانتحار عل موتي وكتابة وصيتي يدفعان الفريق الثاني الى إعادة النظر في لغة خطابه.