ربيع أمريكي ضد -الترمبية-: نظرية ما بعد الحقيقة
أحمد جرادات
الحوار المتمدن
-
العدد: 5520 - 2017 / 5 / 14 - 19:03
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ربيع أمريكي ضد "الترمبية": نظرية ما بعد الحقيقة
American Spring against “Trumpism”: Post-Truth Theory
"نهاية العولمة على جدول أعمال التاريخ"*
توضيح:
بعبارة "الربيع الأمريكي" لا أقصد المعنى الدارج لها بين مناهضي ما سُمي بـ "الربيع العربي"، أي الربيع العربي المصنَّع أمريكياً، وإنما أقصد ربيعاً أمريكياً محلياً نظَّمه أمريكيون ضد خصوم أمريكيين في داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وهم هنا "المؤسسة"Establishment ضد دونالد ترمب وجماعته/تياره/اتجاهه أو من يمثلهم، أي ضد "الترمبية" إن صحَّ التعبير، ذلك أن ترمب ليس فرداً معزولاً أو مسلوخاً من قاعدة اجتماعية-اقتصادية-سياسية، ولا نبتة صحراوية غريبة عن بيئتها وغير متأثرة بالأزمة البنيوية للرأسمالية كما يحاول خصومه تصويره. صحيح أن ترمب لا يمثل مدرسة أو نظرية في الحكم، إلا أنه يمثل ظاهرة ذات أهمية بالغة قد تتطور وتصبح كذلك إذا وجدت قوى اجتماعية- اقتصادية تسندها أو تتبناها. ونظراً لأن رمز هذه الظاهرة، أو رأس الحربة فيها ليس رئيساً عاديا لدولة صغيرة أو هامشية، وإنما رئيس الدولة الإمبريالية الأعظم والقطب العالمي الأوحد حتى الآن (لقد بدأنا نشهد ولادة نظام عالمي جديد أكثر عدلاً) فإنها ستترك أثراً كبيرا وتداعيات عميقة على العالم الرأسمالي والعالم بأسره. ولهذا فإنني أتحدث هنا عن "الترمبية" وليس عن ترمب.
وإذا صحَّ أن ما حصل في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة هو "ربيع أمريكي" ضد الترمبية كما أزعم، فلماذا حدث ذلك؟ ومَن الذي نظَّمه؟ وما الذي فعله ترمب، أو اعتزم فعله، كي يستوجب استنبات ربيع ضده على غرار الربيع العربي ومن الجنس نفسه؟ يا لسخرية التاريخ، لكأن بضاعتهم رُدت إليهم!
ما قبل وما بعد
لعل من السمات الأساسية للانتخابات في الديمقراطية البرجوازية بمختلف مستوياتها، الرئاسية والتشريعية والبلدية وغيرها، أن ما بعد الانتخابات ليس كما قبلها، أي أن خطاب المرشحين وبرامجهم الانتخابية الدعائية لكسب عقول وقلوب الناخبين (التلاعب بها في الحقيقة) وقوفاً على المنصات أمام جماهيرهم وقريباً منها لا تتطابق مع التنفيذ والممارسة بعد الفوز والجلوس على الكراسي قريباً من أو في حضن الطبقة/الشريحة الرأسمالية التي دعمتهم بالمال الساحر والإعلام المهيمن وغير ذلك من المساعدات اللوجستية غير المحدودة وأوصلتهم إلى سدة السلطة.
وفي هذا لا يُعتبر ترمب استثناءً، وإنما حالة مختلفة كثيراً:
- فقد جاء من خارج "صندوق باندورا" كما يقال، ولكنه مطلٌّ عليه من نافذة واسعة وعلى دراية بما في داخله، وتجرَّأ على تحدي ثعابين "المؤسسة (الديمقراطيون والجمهوريون على السواء، الكونغرس وسي آي أيه وإف بي آي والبنتاغون وزارتا الخارجية والعدل، بالإضافة إلى امبراطورية الإعلام الجبارة وكبار ممولي المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، ناهيك عن تطاوله على آلهة "الأولمب": الأوليغارشية المالية). ولعل من أهم وأخطر النقاط التي تضمَّنها برنامجه الانتخابي وأثارت غضب المؤسسة، وربما رعبها:
- مناهضة العولمة بالعودة إلى مشروع الدولة القومية تحت شعار "أمريكا أولاً"، وليست الوحيدة؛
- الخروج من حلف شمال الأطلسي "الناتو" باعتباره كياناً مكلفاً "عفا عليه الزمن" وتحمَّلت الولايات المتحدة جلَّ نفقاته، وينبغي أن تدفع أوروبا حصتها من تلك النفقات.
- إعادة الصناعات الأمريكية المعولمة في الخارج إلى داخل الولايات المتحدة لتشغيل الطبقة العاملة الأمريكية المنتجة التي عانت من البطالة والتهميش على مدى عقود بسبب العولمة المتوحشة (وهو شعار اجتذب أوساطاً واسعة من العمال ودفعهم إلى التصويت لترمب مع علمهم بأنه مرشح رأسمالي ويميني).
- تأييد خروج بلدان الاتحاد الأوروبي من الاتحاد، كما في حالة بريطانيا "بريغزيت"، وتشجيع بقية بلدان الاتحاد على مغادرته. وقد وضعت مرشحة الرئاسة الفرنسية مارين لوبين في صدارة برنامجها الانتخابي خروج فرنسا من الاتحاد "فرانسغزيت"، بالإضافة إلى حلف الناتو. إن هذا الشعار لم يكن مجرد كلام في الهواء لإرضاء جمهورها، وإنما هدف جدي مطروح للتنفيذ، بل قابل للتنفيذ في مرحلة ما. وهذا بالذات هو ما استدعى تدخل "فيلسوف" وعرَّاب الربيع العربي ديفيد أونري ليفي بقوة وصلافة ضد لوبين وتأييده السافر وغير المحدود لإيمانويل ماكرون مندوب الأوليغارشية المالية المعولمة وربيب عائلة روتشيلد الصهيونية، وقد أفقدها هذا الشعار ملايين الأصوات "الخائفة من المستقبل".
- إلغاء معاهدة الشراكة العابرة للمحيط الهادئ وإعادة النظر في اتفاقيات التجارة الحرة واتباع سياسات حمائية للمنتجات الأمريكية.
- في السياسة الخارجية عدم توريط الجيش الأمريكي بشكل مباشر في حروب خارجية، بما فيها الحرب على سوريا، والتخلي عن شرط الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، من ناحية.
- ومن ناحية أخرى إعطاء الأولوية رقم واحد لهدف محاربة الإرهاب الدولي والقضاء على المنظمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم "داعش" وجماعة الإخوان المسلمين، قضاء مبرماً وليس احتواؤها.
- التقارب مع روسيا وإقامة علاقات شراكة وتعاون معها في مختلف المجالات، والتعامل مع دول العالم على أساس المصالح المتبادلة.
- إلزام بلدان الخليج بدفع المال مقابل توفير الحماية لها، والسماح لعائلات ضحايا اعتداءات سبتمبر/أيلول 2001 برفع دعاوى قانونية أمام المحاكم الأمريكية ضد مواطنين ومسؤولين سعوديين للمطالبة بتعويضات مالية ضخمة.
من الواضح إذن أن برنامج ترمب يتضمن نقاطاً، إذا قُيِّض لها أن تتحقق، ربما تفضي إلى نهاية العولمة النيوليبرالية المتوحشة، وليس نهاية التاريخ، التي بشَّر بها نبي الليبرالية الجديدة فرانسيس فوكوياما في مطلع التسعينيات إثر تفكيك الاتحاد السوفييتي، وهلَّل وكبَّر لها الإسلامويون، وطبَّل وزمَّر لها الليبراليون في بلداننا، وتلقَّفها قوميون ويساريون، وحتى شيوعيون، وجدوا فيها ضالَّتهم المنشودة فحلَّت عقدةً من ألسنتهم. إن ذلك من شأنه أن يكون بمثابة معول يُسهم في هدم بنيان العولمة المتوحشة الهائل، كي لا أقول حفار قبرها. وهنا مكمن الخطر المخيف، الذي استلزم قرع أجراس الإنذار وإعلان حالة الطوارئ في عواصم العولمة الرأسمالية، وامتشاق كل أسلحتها الإعلامية والدعائية والتكنولوجية والرقمية الممكنة لشن حملة ضروس ضد مشروع ترمب بهدف إفشاله، إما بإرغامه على التراجع عن برنامجه، أو عن جزء أساسي منه أو خلعه من منصبه impeachment)) وطرده من البيت الأبيض بفضيحة مدوية إذا لزم الأمر.
وقد استخدمت الحملة المضادة لترمب ترسانة كاملة من الأسلحة لتشويه سمعته، بتمويل من الملياردير الشهير جورج سوروس، الذي يقف وراء كل التظاهرات التي عمَّت الولايات المتحدة واجتاحت عواصم الغرب، ومن أبرزها مسيرات النساء التي اندلعت في 22 يناير/كانون الثاني الفائت.
ولإقناع الرأي العام الأمريكي بجنون هذا الرئيس المطبق، قام ديفيد بروك، وهو أحد أبرز قياديي جماعات الضغط، حتى قبل حفل تنصيب الرئيس المنتخب، بوضع آلية ضخمة لمواجهته، ونشر مقالاً بعنوان صريح: "ترمب: إما أن يقدم استقالته أو يتم خلعه".
ووفقاً لما نشره الصحفي الفرنسي الشهير وصاحب نظرية التشكيك في اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول تييري ميسان (شبكة فولتير، 28 فبراير/شباط 2017) فإن الحملة المناهضة لترمب قادتها أربع جمعيات أهلية :
- "ميديا ماترز"، مسؤولة عن نبذ الذرائع التي يمكن لدونالد ترامب أن يرتكز إليها.
- "أمريكان بريدج القرن 21"، ومهمتها جمع أشرطة الفيديو التي تُصوِّر دونالد ترامب ومعاونيه خلال سنوات خلت، وقد جمعت أكثر من ألفي ساعة من الأشرطة لترمب و 18,000 ساعة أخرى لمعاونيه.
وتتمتع هذه الجمعية المدنية بوسائل تكنولوجية متطورة، صُممت أساساً لحساب وزارة الدفاع، وتمكِّنها هذه الوسائل من العثور على كل التناقضات في تصريحات أي شخص، بين مواقفه السابقة ومواقفه الحالية. ومن المتوقع أن تتوسع أبحاثها لتشمل نحو 1200 شخصية من معاوني الرئيس الجديد.
- "مواطنون من أجل المسؤولية والأخلاق"، وهي عن مكتب محاماة على مستوى عالٍ جداً، مهمته تعقُّب كل ما من شأنه أن يتسبب بإثارة فضيحة في إدارة ترمب. ويعمل معظم المحامين في هذه الجمعية مجاناً دفاعاً عن "القضية".
- "شير بلو" هي عبارة عن جيش الكتروني يصل إلى نحو 162 مليون مستخدم للانترنت في الولايات المتحدة. ومهمة هذا الجيش نشر موضوعات محددة بدقة مسبقاً، وتتمحور حول :
- إظهار أن دونالد ترمب ليس رجلا معادياً للمرأة فحسب، بل هو إنسان ظلامي أيضاً ومتحرش ويحتقر المرأة؛
- ترمب رجل متسلط ولص ومتهرب من الضرائب؛
- ترمب واقع تحت تأثير فلاديمير بوتين؛
- ترمب ضعيف الشخصية، سريع الغضب، ويعاني من الكآبة؛
- ترمب، لم يُنتخب من غالبية الشعب الأميركي، لهذا فهو رئيس غير شرعي؛
- نائب الرئيس مايك بينس رجل فاشي؛
- ترمب ملياردير لا يتورع عن الخلط بين أعماله الشخصية وتلك الخاصة بالدولة؛
- ترمب عنصري من أتباع التفوق العرقي الأبيض المعادي للأقليات العرقية، وهو ضد اللاجئين والمهاجرين وعدو للإسلام والمسلمين؛
وتقدم هذه الجمعية الدعم للبرلمانيين الديمقراطيين الذين يتصدون لترمب، وتحطيم الذين يتعاونون معه. ونظراً لأن الإطاحة بترمب معركة تحتاج إلى وقت طويل، فإنها يجب أن تكون معركة لا هوادة فيها. وسيكون من مهمات الجمعية إنتاج نشرات إخبارية مستمرة وأشرطة فيديو من 30 ثانية فقط، بالتعاون مع مجموعتين أخريين: شركة توثيق فيديو تسمى "الأمريكي المستقل"، ووحدة إحصاء تدعى "السياسة المقارنة". وتستخدم هذه الآلية أكثر من 300 شخص من المتخصصين في مختلف المجالات، يساندهم العديد من المتطوعين، بميزانية سنوية تزيد على 35 مليون دولار.
وبعد انقضاء الأيام المئة على توليه منصب الرئاسة، تبيَّن أن ترمب لم يعجز عن تنفيذ العديد من بنود برنامجه فحسب، بل أن "المؤسسة" تقاتل من أجل إعادته إلى الحظيرة. وهو ينصاع تارةً، كما فعل عندما وجَّه ضربة صاروخية عرجاء لقاعدة الشعيرات الجوية السورية، حيث حظي بتأييد المؤسسة فوراً، ويرفض أو يراوغ تارة أخرى، وينجح أو يُسمح له بالنجاح في نقاط تمس مصالح الفقراء وذوي الدخل المحدود ويدعمها الجمهوريون، كإلغاء "قانون أوباما كير" تارة ثالثة.
الربيع الأمريكي و"نظرية ما بعد الحقيقة" Post-Truth Theory
لعل من أمضى الأسلحة النظرية التي استخدمها مفجرو الربيع الأمريكي "نظرية ما بعد الحقيقة" فما هي هذه النظرية، وما هي خطورة هذا السلاح؟
بحسب قاموس أُكسفورد، تقلَّد هذا المصطلح مرتبة "كلمة العام 2016". وكلمة post هنا لا تعني "ما بعد" بالمفهوم الزماني، كأن نقول: "ما بعد الحرب العالمية الثانية" مثلاً، وإنما هي صفة تدل على أو تتعلق بظروف تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تاثيراً في تشكيل الرأي العام من مخاطبة العاطفة والاعتقاد الشخصي، أو في وقت يصبح فيه الموضوع غير مهم أو غير ذي صلة بالموضوع نفسه، ويصبح المهم هو ما بعد الموضوع الأصلي. وفي هذا السياق وبحسب قاموس أكسفورد أيضاً، فإن كلمة truthfulness، أي "الحقيقية"، وهي المصدر من "الحقيقة"، تعني: ما يبدو لك أنه حقيقي، أو ما تشعر بأنه حقيقي، حتى لو لم يكن بالضرورة حقيقياً!
وقد استُخدم المصطلح أول مرة من قبل الكاتب المسرحي الأمريكي الصربي الأصل ستيف تيسيتش في عام 1992، حيث قال إننا نعيش في "عالم ما بعد الحقيقة"، بمعنى أن الحقيقة نفسها فاتتْ ولم تعدْ ذات صلة بالموضوع المُثار.
ومنذئذ ظهرت عدة استخدامات لمصطلح "ما بعد الحقيقة": سياسة ما بعد الحقيقة Post-truth Politics، عالم ما بعد الحقيقة Post-truth World أو "الحقائق البديلة" Alternative Facts، حقبة ما بعد الحقيقة Post-truth Era، ثقافة ما بعد الحقيقة Post-truth Culture، إلى آخره.
وقد عُرِّفت سياسة ما بعد الحقيقة بأنها ثقافة سياسية يتشكل فيها الحوار من خلال مخاطبة العواطف المنفصلة عن تفاصيل السياسات، وبتكرار التأكيد على نقاط الكلام التي يتم فيها تجاهل الدحض الحقيقي للسردية المزيفة (ففي قصة الهجوم بالأسلحة الكيميائية في خان شيخون، المختلَقة كلياً والمعدَّة مسبقاً والممسرَحة، التي أدَّتها جوقة عالمية كاملة منسقة، من منظمة الخوذات البيضاء وفصائل "الثورة" الوهابية الإرهابية إلى رئيس الولايات المتحدة، وما بينهما، لم تجدْ الأدلة المادية الدامغة التي تدحض الرواية الملفقة أذناً صاغية من أحد، فكذّب العالم "الحقيقة" وتجاهلها وصدَّق "ما بعد الحقيقة" وأخذ بها. ولعل من سخرية التاريخ أن هذه المقاربة نفسها – أي سياسة "ما بعد الحقيقة" استُخدمت ضد ترمب نفسه في الحملة المناهضة له والتي أسميتها "الربيع الأمريكي").
ويُوصف عالم ما بعد الحقيقة أو الحقائق البديلة بأنه عالم تُعرَّف فيه الحقيقة بأنها ما يتصوَّر المرء أنها حقيقة، حتى لو كانت الحقيقة غير أو عكس ما يتصوره، وهو بالتالي عالم "الحقائق البديلة".
أما حقبة ما بعد الحقيقة فإنها تثير حيرة الكاتب والصحفي الأمريكي ديفيد سيروتا، فيتناولها في مدونة "أوف بوست" بسؤال استنكاري بسيط: لماذا في ميدان السياسة يتم جَلد ونبذ الأشخاص الذين يتوخون الحقيقة ويتبين أنهم على صواب، بينما تتم مكافأة المخطئين الذين يجانبون الحقيقة كلياً واعتبارهم مجرد حالمين أو واهمين؟ في حين أنه في ميادين أخرى، كالبزنس مثلاً، يحدث العكس؟ حيث يُكافأ المصيب ويُعاقب المخطئ؟
الجواب عند سيروتا بالطبع يتعلق بقبضة المال والسلطة، أي مَن الذي يقبض على ناصية المال والسلطة. "فالمؤسسة" تؤيد الحرب لأسباب تتعلق بجني الأرباح، وتدعم الاتفاقيات التجارية التي تزخر ببنود الحماية للشركات (براءات الاختراع، حقوق النشر، حقوق الملكية الفكرية، إلى آخره) ولكنها خالية من الحماية للبشر (الأجور، شروط العمل، حقوق الإنسان، المحافظة على البيئة).
وفي هذه الحقبة يتم تبني الخطاب السياسي الذي يُستعاض فيه كلياً عن "الواقع الحقيقي بحقبة ما بعد الحقيقة"، وهي فترة زمنية لا يتظاهر فيها هذا الخطاب- ولو مجرد تظاهر- بأنه يستند إلى أدلة حقيقية أو معلومات ملموسة، وحيث يُحتفى بالأشخاص الأكثر خطأً ويُقدَّمون على أنهم الأكثر صواباً.
ويخلص سيروتا إلى القول إن نظرة سريعة على الفوضى التي تضرب العراق، أو الحالة الاقتصادية التي تعيشها الولايات المتحدة تبين أن "نظرية ما بعد الحقيقة" لا تلائم أحداً سوى حفنة من النخبة المتربعة على عرش القمة.
وأما ثقافة ما بعد الحقيقة فربما تكون الأخطر بين سابقاتها لأنها، مع ظهور المزيد من استخدامات المصطلح والتوسع في المفهوم، ربما تتطور إلى نظرية قائمة بذاتها في عصر سيادة الثقافة السطحية أو تسطيح الثقافة، وتصبح غطاء أيديولوجياً للتلاعب بعقول وقلوب الشعوب مثلما حدث لنظرية نهاية التاريخ البائسة، من يدري؟ ولعل هذا هو ما اقتضى نقل هذه الظاهرة إلى طاولة النقاش على مستوى مجتمع الأكاديميين والفلاسفة، الذين يُفترض أن تكون غايتهم تكريس الحقائق الموضوعية، وإجراء استقصاء لآراء بعضهم بشأن معنى مصطلح "ما بعد الحقيقة"، مثلما فعل الصحفي البريطاني في موقع BBC شون كوفلاند، حيث عرَض لرأي الفيلسوف والأكاديمي أستاذ الإنسانيات البريطاني أنتوني غريلنغ، الذي ينظر إلى عالم ما بعد الحقيقة بعين الرعب، فيحذِّر من تأثير سيادة أو تفشي مفهوم ما بعد الحقيقة في "إفساد النزاهة الفكرية وإتلاف نسيج الديمقراطية برمته."
فمِن أين جاء مصطلح " ما بعد الحقيقة"؟
يجيب البروفيسور غريلنغ بأن العالم تغير بعد عام 2008؛ فمنذ الأزمة المالية تزايد التفاوت في الدخل بشكل "خانق ومسموم". وبالإضافة إلى الفجوة الشاسعة بين الأغنياء والفقراء، فقد نما شعور عميق بالمظلمة في نفوس العائلات ذات الدخل المتوسط. وفي ظل الاستياء الاقتصادي ليس من الصعب "إشعال" نار العواطف حيال قضايا مقلقة كقضية المهاجرين واللاجئين مثلاً.
ويعتبر غريلنغ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي أحد العناصر الرئيسية لثقافة ما بعد الحقيقة. فلم يعد "صاوند بايت" sound bite مهماً، بل "آي بايت"i-bite هو المهم، حيث الرأي القوي يغلب الأدلة الدامغة أو يطغى عليها.
ويرى أن ظاهرة ما بعد الحقيقة تتعلق باعتقاد المرء بأن رأيه أكثر قيمة من الحقائق، كما أنها تتعلق بشعوره تجاه الأشياء. ويعتقد أنها ظاهرة نرجسية رهيبة تعززت بالقدرة على نشر الرأي. ففي السابق كان الشخص بحاجة إلى "دلو دهان وقناع" كي يتمكن من نشر رأيه إذا لم يجد ناشراً (الإشارة إلى أيام النضال السري). أما اليوم فإن كل ما يحتاجه هو جهاز "آي فون". وإذا اختلفت معه في الرأي فإنه يعتبر ذلك هجوما عليه شخصياً وليس على رأيه. وإذا شقَّ أحد النَّكِرات طريقه إلى الصفوف الأمامية الديجيتالية وشاهده آخرون أو حصل على عدد من "اللايكات"، فإنه يظن أنه أصبح من نجوم المجتمع وربما من مشاهير العالم.
ويلاحظ البروفيسور غريلنغ أن "الأخبار الكاذبة" التي تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي أضحتْ جزءاً من النقاشات العامة بعد الانتخابات. وهنا يحذِّر غريلنغ من ثقافة الانترنت التي لا تميز بين الحقيقة والخيال، ومن أن بعض المزاعم المبثوثة في التغريدات على "تويتر" تحظى بنفس القدر من الصدقية التي تتسم بها مكتبة كاملة زاخرة بالبحوث الرصينة، أو أكثر، إذ يكفي القول إنها منشورة على الانترنت يا أخي، ألا تصدِّق؟
ويرى الفيلسوف غريلنغ أن "ما بعد الحداثة" و"النسبية" تشكلان الجذور الفكرية "لنظرية ما بعد الحقيقة". وأن مقولات من قبيل "كل شيء نسبي"، و"يتم اختلاق قصص طوال الوقت"، و"ليس ثمة شيء اسمه الحقيقة"، أخذت تتفشى على نطاق هائل، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام نوع من السياسة التي لا تشغل نفسها أبداً بالبحث عن أدلة بشأن الحقيقة أو عن الحقيقة نفسها.
لكن ألم يكن ذلك جزءً من معركة الأفكار على الدوام؟
يخلص البروفيسور غريلنغ إلى القول: "إن هذه الحقبة تشبه حقبة الثلاثينيات من القرن المنصرم، وقد أدرك معتنقو "نظرية ما بعد الحقيقة" أنهم ليسوا بحاجة إلى حقائق، بل إلى مواصلة إطلاق الأكاذيب وحسب."
خلاصـــــــــــــــــــــــــة
يمكنني القول، بقليل أو كثير من المخاطرة، إن نهاية العولمة النيوليبرالية المتوحشة، وليست نهاية التاريخ، باتت مطروحة على جدول أعمال التاريخ، وهو أخطر وأهم تطور على الإطلاق في هذه الحقبة على سطح هذا الكوكب، ومن شأنه، إذا صحَّ هذا الزعم، أن يطيح بعالم ما بعد الحقيقة وأيقوناته وترَّهاته.
* أحمد جرادات
كاتب أردني
[email protected]