أصداء أقدم أعياد العالم
حبيب عبدالرب سروري
الحوار المتمدن
-
العدد: 5188 - 2016 / 6 / 9 - 09:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
“الإنسان حيوان ذو خيال” أحد أفضل تعريف لنوعنا البيولوجي، في تقديري. لأن “الخيال أهم من المعرفة”، كما قال آينشتاين وكما تناولناه في مقال سابق. هو منبع ووقود كل الابتكارات، أعظم ملكات الإنسان قاطبة، وما يميّزه عن سائر الحيوانات.
سؤالان يفرضان نفسيهما. الأول معرفي ماضوي: كيف ومتى ظهرت ملكة الخيال لدى الإنسان؟ والثاني عملي مستقبلي: ما مستقبل الخيال الإنساني في ظلِّ الوسائط التكنولوجية الحديثة؟
لأبدأ بالثاني عمداً. ينطلق هذا السؤال من كون الوسائط التكنولوجية وسائل ذهنية تطوِّر ملَكات الدماغ: تسمح بالاستيعاب الأسهل والتصوّر الذهني الأدق وتسهيل الخلق والإبداع. وتستطيع ابتكاراتها أن تقضي على كل الحواجز الماديّة التي تعيق المبدع من تحويل خياله إلى إنتاج ملموس.
مشاريعها المعاصرة والمستقبلية تجلي أهميّة دورها في تطوير الخيال الإنساني وتسهيل ابتكاراته. بعضها ستسمح لنا عمّا قريب أن نشخطط رسومنا على الورقة، لِتحوِّلها الوسائط التكنولوجية إلى رسمٍ على أبعاد ثلاثة؛ وأن “ننحت” بحركة اليدين في الهواء، أو بالضغط على “فأرة كمبيوتر صلصالية”، وتحوّل الوسائط، كطابعات الأبعاد الثلاثة المستقبلية وغيرها، حركاتنا وإيماءاتنا الميكانيكية الهوائية أو الصلصالية، إلى تماثيل وأدوات ملموسة.
كل ذلك ممكن قريباً. وما عصر “النسخ والإلصاق” على الناشر الإلكتروني في الكمبيوتر، الذي عرفه الإنسان قبل عقود، إلا ما يشبه العصر الحجري أمام ما ينتظرنا من انجازات تكنولوجية، تحوّل الخيال، دون عوائق ماديّة، إلى حقيقة ملموسة.
الحاضر، بين هذا الماضي وذلك المستقبل، يجلي موقعنا من الإعراب التكنولوجي اليوم: يكفي رؤية تطوّر تقنيات “الصور الصنعية”، أي تلك التي يصنعها الكمبيوتر لوحده، وتبدو كما لو كانت صوراً واقعية!
من لا يعرف أن معظم صور فيلم “تيتانيك” كانت صنعية؟! وأن اليابنيين انتجوا مؤخراً أفلاماً أبطالها ممثلون يابانيون محبوبون ماتوا قبل سنين، بمهارةٍ كمبيوترية لا تبدو للعين المجردة!
ولا يستبعد أن يكتفي الممثل في المستقبل القريب ببيع كل الحقوق لشركة سينمائية، والتوقيع على بطولة عددٍ من الأفلام، أثناء وبعد مماته، تتقمّص صورته الصنعية كمبيوترياً ما شاءت دور السينما له من الأدوار، دون أن يمثّل فيه شخصياً، ثم يشاهدها وهو يكتشف دوره لأول مرة!
صناعة الصور الرقمية اليوم ثورة حقيقية تعيد تأثيث ميكانيكا الخيال الإنساني، تطوِّره وتفتح له كل الأبواب.
مثل محركات البحث كغوغل، ومثل برامج الذكاء الاصطناعي التي هزمت أبطال العالم في الألعاب الذهنية ك “الغو”، هي أيضاً أرض خصبة يتحالف فيها عملاقا الخيال الإنساني الجبارين: الرياضيات وعلوم الكمبيوتر.
يخلقان بها فضاءات جديدة لتطوير الخيال الإنساني، عبر التمثّل الافتراضي على الشاشة لبنات خيال المبدع، وعبر الاختبار وإعادة التشكيل والصناعة الافتراضية لكل ما يؤلفه خياله.
وسائلها الجديدة تنهمر كل يوم: “الصلصال الافتراضي”، طابعات الأبعاد الثلاثة، “القلم السحري” الذي يحوِّل الرسم على الورق إلى أدوات ملموسة وتماثيل…
أرثي لذلك ظروف عمل إنجيلو ودافنتشي، بالمقارنة بظروف عمل فناني اليوم والغد. بل أرثي قبل ذلك الرعيل الأول من فناني ما قبل التاريخ وهم ينقشون بدايات الفنون التخييلية الإنسانية وينحتونها بأظافرهم على الصخر، في ظروف في غاية الصعوبة.
تقودني ذكرى هؤلاء الفنانين الأول إلى السؤال الأول: متى بدأ الخيال الإنساني؟!
حسب علماء الحفريات، “عرف الإنسان أنه يعرف” قبل حوالي 3 مليون سنة. لكنه لم يأخذ صيغته البيولوجية الحالية: هومو سابيانس، إلا قبل حوالي 50 ألف سنة فقط، تطوّرت حينها فنونه ومعتقداته بفضل امتلاك دماغه ملكة الخيال.
ماذا حدث من تغيّرات في دماغ الإنسان حينها ليمتلك ملِكة الملَكات؟
من المعروف أولا أن الدماغ يضم عدداً كبيراً من “المنظومات الاستنباطية”، مثل منظومة “الفيزياء البديهية” التي تسمح باستنتاج ما يحصل للأشياء المادية كانكسار الزجاج إذا سقط، وتبلل الجسد تحت المطر؛ “منظومة تعيين هويّة الأشياء” التي تسمح بتحديد هويّة ما يراه الإنسان: حيوان، حجرة… من أطياء
موسوعة تراتبية متناثرة في عصبونات الدماغ؛ “منظومة علم النفس البديهي” التي تسمح بتفسير ما يدور في رأس الآخر وما ينوي عمله…
قبل حوالي 50 ألف سنة اندمجت، رويدا رويدا، مجموع هذه المنظومات، وبدأت تعمل كشبكة واحدة. تفجّرت حينها بشكل مفاجئ ابتكارات الإنسان الإبداعية كالنقوش والتماثيل، ومفاهيمه الجديدة المجردة كمفهوم الآلهة والطقوس الدينية، ونواة لغته المتطورة.
ظهرت حينها فنيا نقوش الكاميريا: حيوان خيالي تمتزج فيه أعضاء حيوانات رهيبة مختلفة وطيور فاتكة متنوعة.
مغارات إنسان ما قبل التاريخ عجّت حينها ب “كاتدرائيات” مملوءة بالجداريات التي تفجّر فيها خيال الإنسان، وجسّد بها علاقته الروحية ببقية الحيوانات المحيطة ببيئته، لاسيّما تلك التي ابتكرها وخاف منها وعبدها كالكاميريا.
معظم هذه المغارات أُتلِفت اليوم لقدمها، ولإهمالها، لاسيّما مغارات أفريقيا والشرق الأوسط العريقة.
حوالي 300 مغارة منها موجودة في أوربا، أهمّها مغارة “لاسكو” الشاسعة الشهيرة في مونتونياك بجنوب فرنسا التي اكتشفها أطفال بالصدفة في سبتمبر 1940:
حوالي 300 نقش جداري لبقر وحشي، أحصنة، وحيدي القرن، ثيران وغيرها، عمرها حوالي 18 ألف سنة، قال عنها جورج باتاي:
“مغارة ألف ليلة وليلة. سحر مشحون بالألغاز المفاجئة التي تعيد لنا أصداء أحد أقدم أعياد العالم”.
أغلق وزير الثقافة أندريه مالرو المغارة في 1963، بسبب تلفها جراء فرط تلويث زيارات السوّاح لها، ولعطبٍ مناخيٍّ أيضا. ثمّ تم محاكاتها في 1983 بمغارة “لاسكو2″: نسخة طبق الأصل، في مغارة أخرى قريبة، نقشها عدد هائل من الفنّانين خلال عدّة سنين.
في صالة الثيران بمدخل المغارة مباشرة جدارية شهيرة تبدأ بكاميريا “ليكورن”. حيوان خيالي كليّ، غامض يصعب تفسيره. له رأس حيوان مفترس غير محدد، وقوائم أربع. بطن متورمة ضخمة. يخرج من منتصف جبهته قرنان طويلان جدا…
تليه أحصنة في حركة ديناميكية مثيرة، في مقدمتهم حصان بِلَونين. يتقدمه حيوانان مهيبان متجانسان ومتواجهان من فصيلة الأثوار، يقع بينهما النصف العلوي لحصان، وأربعة أيلات. بعض أوجه الأحصنة مرسومة بدقّة أكثر الفنانين الماهرين اليوم.
لعلّ ذروة الخيال التشكيلي حينها جدارية غامضة في “صالة البئر” أشهر من نار على علم: “البئر”، تكرّرت بكل تفاصيلها في مغارات أخرى، كما لو كان لها مدلول ديني أو فلسفي:
بقرة وحشيّة في وضع استنفاريٍّ هجومي. أسفل بطنها مبقور برمح، تسيل منه دواخلها وأحشاءها. أمامها رجل فمه يشبه منقار طائر، مستلقٍ في وضع ميّت، ذكَره منتصبٌ في الوقت نفسه، سواعده مفتوحة، وبكل يدٍ له أربع أصابع فقط!
أمامه عودٌ مرفوع يجلس عليه طائر. وعلى يساره 6 نقاط سوداء تؤدي لِوحيد قرن داكن، يبتعد بهدوء، كما لو كان غير مكترثٍ بالمشهد!
لم يتوقف المختصون من دراسة وتفسير هذه اللوحة المهيبة الغامضة.
لم أستطع زيارة لاسكو1 التي لم تفتح إلا لأعداد قليلة من الناس أحيانا، منذ انغلاقها الرسمي، ولأغراض دراسيّة بحتة.
ارتجفت اندهاشاً وإعجاباً أمام مجمل الغاليرات في لاسكو 2.
لم أتوقف حتى اليوم عن محاولة تخيّل كل فنّاني تلك العصور، نجوم طفولة الخيال البشري، وعن الدخول بعلاقة تخييلة روحية وحوار باطني مستديم معهم.
أحاول بصعوبة أن أحدِّثهم عن مغامرات عوالمنا الافتراضية، وصورنا الرقمية الصنعية، ومستقبل ميكانيكا الخيال في عصرنا التكنولوجي!
في ديسمبر 2016، سينتهي مشروع لاسكو4: متحف جديد عملاق (يتسّع ل 4000 زائر يوميا)، يعيد لرابع مرّة خلق كل لوحات لوسكو1 باستخدام الشاشات الرقمية وأحدث التقنيات الحديثة هذه المرّة، في غاليرات تحت أرضية، قريبا من لاسكو1.
طفولة الخيال، في أغوار الجبال، تتنقّل هكذا عبر الأجيال، من محال إلى محال…