تمجيد القبيلة في فكر الشاعر والروائي اليمني محمد محمود الزبيري مؤسس حزب الله في اليمن عام 1963
أحمد القصير
الحوار المتمدن
-
العدد: 4856 - 2015 / 7 / 4 - 17:38
المحور:
الادب والفن
(تم نشر الموضوع منذ سنوات في مجلة الرواية الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب)
__
فكر محافظ وسط نهضة ثقافية:
شهدت اليمن خاصة منذ بداية خمسينات القرن العشرين نهضة ثقافية عبرت عن تغيرات اجتماعية أساسية. ومع ذلك ظل السياسى والشاعر والقاضي الشرعي محمد محمود الزبيري أحد زعماء حركة الأحرار اليمنيين الاصلاحية ومؤلف رواية "مأساة واق الواق" محتفظا بمواقفه التقليدية المحافظة. بل عاش في صراعات سياسية وفكرية مع الشخصيات التي ساهمت بدور رئيسي في تلك النهضة الثقافية التي عاشتها اليمن. ففي تلك الفترة بدأت كتابة القصة القصيرة في عدن. كما قام شعراء رواد بتجديد الشعر اليمني. وظهرت في تلك الفترة ايضا القصة اليمنية خاصة في عدن. وفيما بعد ظهر رواد الرواية خاصة في الشمال. كان رواد تجديد الشعر اليمني هم ابراهيم صادق صاحب ديوان "عودة بلقيس"، ومحمد أنعم غالب صاحب ديوان "غريب على الطريق"، وعبده عثمان محمد صاحب مجموعة "الجدار والمشنقة". كما كان هؤلاء من رواد الحركة الوطنية اليمنية الذين عبروا بحق عن بلوغ تلك الحركة مرحلة جديدة. أما صاحب الريادة في مجال تطوير القصة اليمنية وكتابة الرواية فهو محمد أحمد عبدالولي مؤلف رواية "يموتون غرباء" و"صنعاء مدينة مفتوحة". وكان هؤلاء زملاء دراسة بمدرسة حلوان الثانوية. كما كان معظمهم زملاء لي في عضوية منظمة "حدتو" الشيوعية المصرية مع عدد آخر من الطلاب اليمنيين بمصر. كان هؤلاء لم يبلغوا بعد العشرين من العمر عندما بدأوا المشاركة في تلك النهضة الثقافية، وأسهموا بإبداعهم في تطوير القصة القصيرة والرواية علاوة على تجديد الشعر. كما أسهم البعض منهم مع غيرهم بدور أساسي في ابداع الشعر الغنائي والأناشيد الوطنية. وقد تغني بها أكبر المطربين من جنوب اليمن وشماله. حدث ذلك في نفس حقبة الخمسينات التي ألف خلالها محمد محمود الزبيري روايته "مأساة واق الواق". وقد اختلفت منطلقاته الفكرية ورؤيته للواقع اليمني عن رؤية ومنطلقات شباب المبدعين الذين أشرنا إليهم آنفا. كان الزبيري ينتمي إلى جيل أكبر سنا بكثير من هؤلاء. كما كان ينتمي إلى القضاة الشرعيين. ويمكن القول بأن ما أبدعه الشباب يلقي الضوء بشكل جلي على بعض التطورات الاجتماعية والصراعات التي شهدتها اليمن في العصر الحديث.
التعريف بالزبيري وخلفيته الفكرية:
بنبغي التنويه بأن الزبيري شخصية سياسية قامت بدور واضح في السياسة اليمنية منذ أربعينات القرن العشرين. وهو أيضا شاعر وروائي. ولد بصنعاء عام 1919. وتم اغتياله في الأول من أبريل 1965 بناحية قبلية تقع شمال شرق مدينة صنعاء. وهو قاضي شرعي زيدي ينتمي إلى الأسر التي كانت توجه أبناءها لتلقي العلوم الدينية على نحو يمكنهم من تولي المناصب الحكومية والقضاء الشرعي في ظل حكم الأمامة الذي أسقطته ثورة 26 سبتمبر1962. وقد تبنى الزبيري بعد ثورة سبتمبر مواقف مغرقة في الرجعية. وتم اغتياله أثناء تنقله بين القبائل يدعوها إلى تشكيل "حزب الله" باعتباره الطريق إلى السلام مع المطالبين بعودة نظام الإمامة. وكان يرافقه في جولته وسط القبائل التي استمرت ثلاثة أشهر بعض قيادات الإخوان المسلمين. وعند اغتياله كان برفقته عبدالمجيد الزنداني الذي أصبح زعيما للتيار الإسلامي الأصولي في "حزب التجمع اليمني للإصلاح".
تتمثل أهم أعمال الزبيري الشعرية في ديوان "ثورة الشعر" و"صلاة في الجحيم". وله أيضا مجموعة قصائد جرى تسميتها "الوثنيات" لأنه نظمها في مدح الإمام أحمد عندما كان وليا لعهد المملكة المتوكلية اليمنية. كما قام بتأليف رواية "مأساة الواق الواق". ويمكن القول أنها حول مدينة خيالية مع أنها تتناول الأوضاع اليمنية في العصر الحديث. ترتبط حياة الزبيري وأعماله بمرحلة تاريخية للمجتمع اليمني والصراعات والتطورات التي جرت فيه منذ أربعينات القرن العشرين. وكانت دراسته بالأزهر بالقاهرة خلال 1939- 1941 من المؤثرات في تكوينه وتوجهاته. وقد اشترك في تلك الفترة مع زملاء له من بينهم محمد على الجفري في تكوين "جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". تقلبت مواقف الزبيري كثيرا. لكنه ظل دائما يتبنى مواقف تقليدية محافظة بينما كانت اليمن شمالا وجنوبا تشهد تطورات سياسية وفكرية ثقافية جديدة.
بدأ الزبيري في الظهور من خلال وجوده في صحبة الأمير أحمد يحي حميد الدين عندما كان وليا للعهد بمقر إقامتة في مدينة تعز. ونظم قصائد عديدة يمدحه فيها على أمل أن يقوم باصلاحات داخل نظام الإمامة عندما يتولى الحكم. وحينما انتابه اليأس من ذلك وشعر بوجود مخاطر تهدده فر إلى عدن عام 1944. وانضم هناك إلى أحمد محمد نعمان الذي سبقه في الهروب. وأسسا حزب الأحرار اليمنيين الذي طالب الإمام يحى بإجراء اصلاحات. وبعد ذلك شارك في انقلاب 1948 الذي اغتال الإمام يحى. وبعد فشل الانقلاب فر إلى باكستان. ثم انتقل إلى القاهرة بعد قيام ثورة 23 يوليو1952. وظل بالقاهرة حتى قيام ثورة 26 سبتمبر في شمال اليمن عام 1962.
عاش الزبيري طوال فترة القاهرة صراعات وحالات من تبدل وتذبذب المواقف. فقد عمل في البداية، أي في نهاية عام 1952، على مصالحة الإمام، وأصدر دستورا حول هذا الأمر عنوانه "آمالنا وأمانينا". وعقد اتفاقا مع ولي العهد محمد البدر لتنفيذ بنود ذلك الدستور الذي قال في مقدمته "إلى صاحب الجلالة الإمام أحمد نقدم هذا المنهج الذي انتهجناه في دعوتنا وجعلنا ذروة النظام الذي ننشده هي حقوق الإمام على الشعب تسليما منا بحق صاحب الجلالة". كما قال في المادة التاسعة إن الإمام "له السمع والطاعة على جميع أفراد الشعب". وفي يوليو1954 اجتمع الزبيري مع البدر ولي العهد عند زيارته للقاهرة. واتفقا على إجراء اصلاحات وفق بنود ذلك الدستور. لكن الإمام أحمد اعترض على أي اصلاحات مهما كانت هزيلة. بعد ذلك تغير موقف الزبيري تحت تأثير عدة عوامل من بينها:
1- المناخ التحرري الذي خلقته ثورة 23 يوليو1952 المصرية.
2- بروز الحركة الطلابية اليمنية في مصر وطرحها أفكارا جديدة. وهي حركة ذات توجهات ماركسية. وكان قادتها أعضاء في منظمة "حدتو" المصرية. وكانت الحركة الطلابية اليمنية هذه دائمة الانتقاد للزبيري ونهجه الرجعي المحافظ. وشهد مقهى "العجمي" بباب اللوق اجتماعات وصراعات يومية تقريبا بين الطلاب اليمنيين وبين الزبيري بوصفه مسؤولا عن فرع تنظيم "الاتحاد اليمني" بالقاهرة. وتركزت هذه الصراعات حول مستقبل اليمن وحول المواقف التي ينبغي أن يتخذها الاتحاد اليمني بما يتوافق مع المرحلة الجديدة التي بلغتها الحركة الوطنية اليمنية. وينبغي التنويه بأن المركز الرئيسي للاتحاد اليمني كان في عدن. وقد تأسس في مدينة عدن، في بداية خمسينات القرن العشرين، بواسطة مجموعة من التجار ينتمون إلى تعز بالمملكة المتوكلية. وقد تجاوزت أهداف هؤلاء التجار طموحات انقلاب 1948 الذي شارك فيه الزبيري. وقد انتقد الاتحاد اليمني في عدن الزبيري حينما أصدر دستور "أمالنا وأمانينا".
3- تطور موقف الزبيري بعد فرار أحمد نعمان وحضوره إلى القاهرة في أغسطس 1955 ومشاركته في قيادة فرع الاتحاد اليمني بالقاهرة. وقام بالاشتراك مع محمد الزبيري بإصدار دستور جديد تحت عنوان "مطالب الشعب" عبر عن ارتفاع سقف المطالب على نحو يتواكب بشكل ما مع تطلعات الحركة الوطنية. لكن الخلفية الفكرية المحافظة ظلت كامنة في تكوين الزبيري. وسرعان ما ظهرت على السطح وتضخمت بمجرد قيام ثورة 26 سبتمبر1962 وعودته لليمن وتعيينه وزيرا للمعارف. وعندئذ عاد إلى ارتداء الزي المميز للقضاة الشرعيين.
لن نتمكن من فهم ما جاء في رواية "مأساة واق الواق" دون معرفة تلك الخلفية الفكرية التي أشرنا إليها آنفا. فقد اتسم مفهوم الزبيري عن الإصلاح عامة بنزعة دينية وتقليدية محافظة. كما امتزج مفهوم الشعب عنده بالقبيلة. فهو يعتبرها "معقل العروبة" وبها "وحدها يأتي الخلاص". كما يرى أن قبائل "حاشد" و"بكيل" "معقل القوة الشعبية الجديدة". لهذا لم يستوعب الزبيري الفكر الجديد الذي برز مع تطور الحركة الوطنية اليمنية. وقد اختلف اختلافا عميقا مع بعض الفصائل المعبرة عن هذه الحركة مثل المركز الرئيسي للاتحاد اليمني في عدن الذي يعبر أساسا عن التجار، و"المؤتمر العام الدائم للطلاب اليمنيين بالقاهرة" ولجنته التنفيذية في عام 1956 وقيادته الماركسية التكوين الفكري. كما دخل في صدام شديد بعد ثورة 1962مع عبدالله السلال رئيس الجمهورية. وكان في ذلك يتبنى مطالب ذات نزعة محافظة ومن بينها مطالب شيوخ القبائل الذين لا يقبلون الدولة المركزية ولا فكرة التراتب الهرمي. ولهذا كان شيوخ القبائل يرفضون وجود منصب رئيس الجمهورية ويطالبون بمجلس رئاسي أو "مجلس جمهوري" بدلا منه.
بعد عودة الزبيري إلى اليمن من القاهرة وشهد الواقع الجديد ارتد فكره وطغت عليه نظرة أكثر إغراقا في المحافظة. فقد تخلى كلية عن الشعارات التي كان يرددها في القاهرة مع أحمد محمد نعمان باسم "الاتحاد اليمني". وهي شعارات تأثرت بالسياسة التحررية لجمال عبدالناصر، كما تأثرت بالحركة الوطنية في عدن بجنوب اليمن علاوة على ضغوط الحركة الطلابية اليمنية بالقاهرة والتي كان أبرز عناصرها أعضاء في منظمة "حدتو" المصرية وتدربوا سياسيا في صفوفها.
أصبح الزبيري منذ ذلك الحين في طليعة الممثلين السياسيين لبعض قوى المجتمع القديم من الزيود الاقطاعيين أصحاب الامتيازات الطبقية، وبوجه خاص كبار المشايخ الاقطاعيين الذين اعتبروا أنفسهم ورثة الإمامة. وذلك على الرغم من دورهم الرئيسي من قبل في قيام الإمامة واستمرارها في اليمن مدة ألف عام.
في يوليو1964 كان الزبيري يأمل في إقامة حكم إسلامي. فقد نجحت القوى التقليدية في أن تفرض على الرئيس عبدالله السلال صيغة "المكتب السياسي" كسلطة عليا برئاسة السلال نفسه وعضوية أقطاب تلك القوى ومن بينهم الزبيري. وحينئذ أعلن الزبيري أن المكتب السياسي "يحقق الحكم الجماعي والشوروي الإسلامي"، وأنه "الهيئة العليا في الدولة التي ستحقق حكم الشعب السليم وتجعل شريعة الله مصدر كل القوانين والتشريعات في جميع الأجهزة".
كان القاضي الزبيري هو الأكثر إلحاحا في طلب تنفيذ صيغة "المجلس الجمهوري" التي رفعتها القبائل في وجه الدولة المركزية. كما اصطدم الزبيري بالرئيس السلال أيضا لأن السلال رفض دعوته إلى تسليح القبائل وخلق جيش قبلي. وقد أراد الزبيري الاعتماد على القبائل مثلما اعتمدت عليها الأمامة دائما. كما كان يعيش وطأة الحنين إلى الماضي علاوة على مرارة تجربة فشل انقلاب1948. وكان دور القبائل في إفشال الانقلاب وفي نهب صنعاء بأمر من الإمام أحمد من الأمور التي أسهمت في تكوين الزبيري الفكري. فقد تضخمت عنده صورة القبيلة، وأصبحت هي المعادل للشعب. بل اختلطت تلك التصورات بكثير من الأوهام.
لم تتحقق مطالب الزبيري بتسليح القبائل إلا بعد قيام انقلاب 5 نوفمبر1967 بقيادة القاضي عبدالرحمن الإرياني. وهو الانقلاب الذي أطاح بالرئيس عبدالله السلال بعد انسحاب مصر من اليمن بعد هزيمتها في حرب1967. وكان محسن العيني (وكان ينتمي للبعث) هو رئيس وزراء ذلك الانقلاب الذي شكل ثورة مضادة. حينئذ تم استخدام القبائل بعد تسليحها في تصفية القوى التقدمية من الحياة السياسية ومن أجهزة الدولة ومن قيادات الجيش. وجرت تلك العملية بشكل دموي ومذابح تعرض لها قادة الجيش الوطنيين ومن بينهم عبدالرقيب عبدالوهاب نعمان رئيس هيئة أركان الجيش الذي تم قتله وسحل جثته بمبدان التحرير في صنعاء.
الأدب اليمني والتعرف على الواقع الاجتماعي:
عندما ذهبت عام1980 للتدريس بقسم الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة صنعاء كنت على قدر من المعرفة ببعض قضايا اليمن من خلال صداقاتي مع الطلاب اليمنيين أثناء الدراسة بمدرسة حلوان الثانوبة خلال 1948-1953. وقد أصبح هؤلاء الأصدقاء، الذين كانوا أيضا زملاء لي في منظمة "حدتو" من بناة اليمن الحديث. وهم الذين قاموا بأدوار رئيسية في بناء مؤسساته الحديثة بما في ذلك من مؤسسات اقتصادية وتعليمية وصحية ومالية وادارية واعلامية وثقافية.
ازدادت معرفتي بالأدب اليمني حينما قمت بإجراء بعض الدراسات حول قضايا التاريخ الاجتماعي، ومن بينها التركيبة الاجتماعية ومسألة هجرة اليمنيين إلى الخارج. وخلال قيامي بتلك الدراسات واجهت بعض الصعوبات لم أجد لها مدخلا صائبا للفهم إلا من خلال قراءة الأعمال الأدبية من شعر وقصة ورواية لأصدقائي اليمنيين الذين زاملتهم في الدراسة في مدرسة حلوان الثانوية بالقاهرة. ومن بين تلك القراءات ديوان محمد أنعم غالب "غريب على الطريق"، وشعر ابراهيم صادق، ومجموعات الشعر الغنائي للدكتور سعيد الشيباني، والأعمال الأدبية لمحمد أحمد عبدالولي من قصة قصيرة ورواية.
ساعدتني هذه القراءات على التشبث بافتراضاتي حول بعض القضايا اليمنية. فإن تلك الأعمال الأدبية تساعد بلا شك على فهم الواقع اليمني على نحو يسهم في تبديد التشوش الذي تخلقه معظم الدراسات الاجتماعية سواء التي قام بها يمنيون أو أوروبيون. فقد روجت هذه الدراسات أفكارا خاطئة عن الأوضاع الاجتماعية في اليمن. وعلى سبيل المثال فإن الظواهر الاجتماعية التي تولدت عن سياق اجتماعي تاريخي محدد حولتها تلك الدراسات إلى ما يشبه الأساطير. فإن الظواهر التي تولدت بفعل عوامل اجتماعية وتاريخية محددة تختلط في تلك الدراسات بتصورات غير واقعية تجعل منها لغزا غير قابل للإدراك والفهم.
ومن بين أخطاء الدراسات الاجتماعية الأوروبية عن اليمن، على سبيل المثال، وصفها للأوضاع الاجتماعية استنادا إلى رؤية الجماعات الاجتماعية العليا عن نفسها وعن بقية الشرائح والجماعات الاجتماعية الأخري بدلا من تحليل الواقع الاجتماعي. غير أن الأعمال الأدبية تناولت هذه الظواهر على نحو آخر قابل للفهم. وقد بدأت الأعمال الأدبية اليمنية الحديثة تظهر إلى الوجود مع نهايات الأربعينات القرن العشرين ومطلع الخمسينات. وكان ذلك في أعقاب ظهور شرائح اجتماعية جديدة غير قبلية. وكانت مدينة عدن هي المكان الذي شهد ظهور أشكال جديدة من النشاط الاقتصادي والمهن الجديدة. وشمل ذلك شرائح اجتماعية من العمال وأصحاب حرف جديدة وشرائح من التجار. وترتب على ذلك نشأة ثقافة جديدة غير قبلية تعبيرا عن هذه الشرائح والجماعات الاجتماعية.
يمكن القول أن هذه الثقافة جاءت تعبيرا عن الشخصية اليمنية الجديدة التي ارتبطت بمجتمع بندر عدن. وزاد ذلك من مكانة عدن عند جميع اليمنيين شمالا وجنوبا. وعلاوة على ذلك كانت عدن هي المنفذ الرئيسي لليمن للاتصال بالعالم الخارجي ومنفذا لهجرة اليمنيين إلى آسيا وشرق أفريقيا وإلى ما وراء البحار.
قامت عدن بصهر اليمنيين الذين وفدوا إليها من كافة مناطق اليمن خاصة تعز. وظهرت بذلك ثقافة يمنية غير تقليدية تعبر عن الشرائح الاجتماعية الجديدة. وهو ما أسهم في تكوين شخصية حضرية يمنية تحمل ثقافة مغايرة لثقافة المجتمع القبلي. ولهذا فإن الأدب الحديث ارتبط بعدن في المقام الأول. ارتبط بعدن مع أن الكثير من المبدعين الجدد في مجالات القصة والرواية والشعر الحديث والشعر الغنائي والأناشيد الوطنية ينتمي إلى مناطق يمنية في الشمال مثل تعز والحديدة. لكنهم جميعا تأثروا بعدن. كانت عدن المجال الأول للمنتديات الثقافية ولنشر الأعمال الحديثة ومن بينها الشعر الغنائي. كما أن أول الذين كتبوا القصة القصيرة ينتمون إلى عدن.
وثمة ظاهرة أخرى تحتاج إلى التشديد. وهى أن معظم الرواد في مجالات الشعر والرواية والأغنية الحديثة ظهروا في بدايتهم وسط الطلبة اليمنيين الذين كانوا يدرسون في مصر خلال 1948- 1959.
كان هؤلاء الرواد في نفس الوقت ضمن قادة الحركة الطلابية اليمنية بالقاهرة وأعضاء في نفس الوقت بمنظمة "حدتو" المصرية. ولعبوا دورا رئيسيا في تطوير الحركة الوطنية اليمنية وطرحوا فكرا جديدا. ولعبت صحف عدن دورا في نشر هذا الفكر الجديد عن مستقبل اليمن. كما اكتسب هذا الفكر أهمية عندما دافع عنه المفكر عبدالله باذيب أبرز المثقفين الثوريين في عدن الذي يعتبر أحد أعمدة الحركة الوطنية والنهضة الثقافية اليمنية.
حول دور عدن:
لا جدال في أن المنتديات الثقافية التي أخذت تنشأ في عدن منذ فترة سابقة أسهمت في نشر ثقافة أجيال جديدة. وشمل ذلك فكر التنوير والتحرر علاوة على أعمال إبداعية. كما كانت صحف عدن قد ظهر فيها أول أشكال القصة القصيرة. ومثال ذلك القصص التي كتبها على باذيب وصالح الدحان. كما كانت عدن وتعز والحديدة وبعض مناطق اليمن الأخرى شمالا وجنوبا تشهد نشأة الفكر الثوري والأشكال الجديدة من الإبداع الأدبي بينما كانت العاصمة صنعاء يسيطر عليها الفكر التقليدي المحافظ. وهي التي ينتمي إليها الشاعر محمد محمود الزبيري مؤلف رواية "مأساة واق الواق" التي تتناول قضايا التطور في اليمن انطلاقا من رؤية محافظة تمجد القبيلة في اليمن وتريد إحياء النظام الذي كان سائدا في الدول اليمنية مثل "حمير" و"قتبان". وسوف نتناول ذلك الأن بشئ من التفصيل.
رؤية "مأساة واق الواق :"
تحدثت الأعمال الأدبية لرواد التجديد سواء في مجال الشعر أو القصة القصيرة أو الرواية أو الأغاني عن العمال، والمهاجرين، والفلاحين، والنساء اللائي يتحملن مسؤولية عديدة تشمل الأعمال المنزلية، وجلب مياه الشرب والوقود، وتربية الماشية، وفلاحة الأرض. ويعني كل ذلك أن بعض تلك الشخصيات ينتمي إلى مجتمع المدينة بينما ينتمي البعض الآخر إلى مجتمعات ريفية. وتناولت هذه الأعمال، وعلى سبيل المثال أيضأ، الجنود الذين ينتمون إلى المناطق القبلية في شمال صنعاء الفقيرة في الموارد والذين يرسلهم الإمام للخدمة في مناطق أخرى ليست قبلية مثل محافظة تعز في جنوب البلاد. ويتضح من هذه الأعمال أن العمل بالجندية يقتصر على أبناء القبائل الفقراء دون غيرهم، كما أن هؤلاء الجنود يتعرضون لاستغلال مشائخ قبائلهم الذين يحتكرون ملكية الأراضي، ونتبين من تلك الأعمال أيضا أن هؤلاء العساكر يعوضون فقرهم باستغلال الفلاحين في المناطق الذين يذهبون للعمل فيها.
لكن رواية "مأساة واق الواق" للزبيري تتحدث عن مجتمع آخر وشخصيات آخرى أكثر ارتباطا بمجتمعات أهل "الحل والعقد". فإن الأبطال الرئيسيين في "مأساة واق الواق" يتشكلون من رجال الدين، والمشايخ والقبائل، كما ينقسمون مذهبيا إلى زيود وشوافع.. وتتعلق أحداث "مأساة واق الواق" بفترة تاريخية محددة في إطار خيالي يجنح إلى ما يسمي بالمدينة الخيالية. لكن مجتمع هذه المدينة يقع في إطار المجتمعات التقليدية وليس في إطار المجتمع الحديث. فإن "مأساة واق الواق" تعتبر أن القبيلة هي القوى التي "تسكب كل دم جديد في عروق المجتمع المتحضر كلما شاخ".
تناول الأدب اليمني، الذي أبدعه الشباب رواد التجديد والنهضة الثقافية اليمنية، المجتمع المدني وتنظيماته. كما تناول هذا الأدب حياة القرية اليمنية أيضا وحياة المهاجرين اليمنيين الذين ينتشرون في أفريقيا وآسيا وفي أعالي البحار. ويتبين من خلال ذلك التناول أن المهاجر اليمني عمل في مهن عديدة شملت القتال بالأجر. فلم يعمل المهاجر بحارا أو وقادا أو حمالا فحسب، بل عمل أيضا محاربا مقابل أجر في شرق أفريقيا أثناء الحرب الإيطالية الحبشية. كما حارب البعض منهم في صفوف أحد أطراف الحرب بينما حارب البعض الآخر في صفوف الطرف الثاني. وسجل محمد أنعم غالب هذا الأمر في ديوانه "غريب على الطريق" على لسان أحد هؤلاء المحاربين بالأجر قائلا:
حاربت لا دفاعا عن وطن
حاربت من أجل الرغيف
بجانب الفاشيست
وفي الليالي السود بين الدم واللهب
رأيت لي صحاب..
كانوا من اليمن في الجانب المضاد
حاربتهم وحاربوني، لا دفاعا عن مثل
وكان لا يهم من يعيش أو يموت
ولا يهم قاهر ومنكسر
لكن رواية "مأساة واق الواق" للزبيري تتحدث عن مجتمع مختلف، مجتمع تقليدي تقوم فيه القبيلة بدور محوري، كما يقع عليها مهمة تجديد "دم المجتمع المتحضر" حسبما تزعم الرواية. وبينما تدور أحداث ووقائع القصص والروايات اليمنية الأخرى في إطار واقع تاريخي محدد نجد أن أحداث مأساة واق الواق تدور في العالم الآخر، وإن كانت الرواية تتناول أحداثا لها صلة بالواقع. ويتشكل الإطار العام لعالم "واق الواق" من مجتمع تقليدي حيث يتم التطلع إلى نظام حكم في المستقبل يعتمد على "مجلس قبائل" مثلما كان الحال "في أيام معين وقتبان وسبأ وحمير". وهي أسماء الدول اليمنية القديمة. (انظر: مأساة واق الواق، صفحة 264).
علاوة على ذلك فإن مأساة واق الواق تعتبر أن "أهل الحل والعقد" هم المرجع في كل شئ. وهي لا تتحدث عن طبقات دنيا وعليا ولا عن شرائح اجتماعية بل عن الصفوة، وهي صفوة مجتمع تقليدي غير حديث. ومثال ذلك الحديث عن "كبار رجال الشعب وفي مقدمتهم كبار السادة وأمراء المناطق والعلماء ومعظم أهل الحل والعقد (صفحة 260). والمقصود بالعلماء هنا رجال الدين. كما أنها تصور أرض بلاد واق الواق المنقسمة على نفسها. فهي "مبتورة إلى جزئين: جزء ينهشه الاستعمار. وجزء يربض فيه الطاعون الرجعي. ويريد هذا وذاك أن يقطعا شعب هذه الأرض تقطيعا ثانيا باسم المذاهب الدينية. وتقطيعا ثالثا باسم السلالات العنصرية. وتقطيعا رابعا إلى قبائل ومدنيين، وتقطيعا خامسا. وهو أخطرها جميعا وأشد فتكا لأنه يصطبغ بصبغة متحضرة حديثة تحت ستار الديمقراطية" (صفحة 68).
نلاحظ هنا أن الزبيري يعتبر أن الديمقراطية هي الأكثر خطرا والأشد فتكا. وقد تناول الزبيري عدة قضايا أساسية تتعلق بالتاريخ والصراع الاجتماعي لها صلة بالواقع الفعلي. وتتمثل هذه القضايا في الحديث عن تقسيم السكان إلى مذاهب دينية، وإلى سلالات عرقية، وإلى قبائل ومدنيين. ويلقي هذا الكلام بعض الضوء على طبيعة الواقع الاجتماعي. كما أن مأساة واق الواق تتناول قضية جوهرية أخرى. ونعني بذلك الحديث عن بذرم عوال الفرقة بين السكان والجماعات الاجتماعية.
وفي هذا الصدد يتم التساؤل على لسان أحد الأبطال حسبما يحدث دوما في سياق الرواية: "كيف يتأتى لنا أن نقضي على الفرقة والشكوك وأن نوحد فئات الشعب إذا أبقينا على أسباب الانقسام التي افتعلها الطغاة كما هي عليه. لقد صنع الطغاة ما يسمونه شافعية وزيدية وميزوا البعض على البعض وأتاحوا للزيدية من الفرص ما لم يتيحوه للشافعية، وأعطوهم من الجاه والسلطان ما لم يعطوه لإخوانهم، وهذه علة يجب أن نعترف بها ونعالجها بطيبة نفس" (صفحتي 261 – 262).
لابد أن نوضح اولا أن حديث الزبيري عن خطا التفرقة بين الشوافع، اي السنة، وبين الزيود وهم فرقة من الشيعة، عبارة عن اعتراف بمشكلة واقعية وخطيرة لكنه تخلى فيما بعد، أي بعد قيام ثورة 26 سبتمبر1962 عن هذا التوجه. وبشكل عام عبر الزبيري في العبارات السابقة عن قضايا واقعية وتناقضات تشكل جوانب رئيسية في التاريخ الاجتماعي لليمن. لكنه لا يجد حلا لتلك التناقضات إلا عن طريق القبيلة. وغني عن القول بأن "مأساة واق الواق" تعتبر دائما أن القبيلة بمثابة العامل الذي يجدد "دم المجتمع المتحضر". فهي التي "تسكب كل دم جديد في عروق المجتمع المتحضر كلما شاخ وأصابه الهرم، ومع ذلك فهي تبقى راضية بالقليل من الجزاء، والخشن من العيش…" (صفحة216).
ربما كان هذا التصور عن القبيلة هو الذي دفع مؤلف "مأساة واق الواق" بعد قيام ثورة 26 سبتمبر1962 إلى الدعوة إلى تسليح القبائل. وهي الدعوة التي رفضها الرئيس عبدالله السلال. ولذلك هاجمه الزبيري قائلا: "رفضتم تكوين جيش دائم من القبائل المجمهرة يردع المتمردين ويمنع الحرب قبل وقوعها. وذلك لأنكم لا تثقون بالشعب ورجاله، ولا تريدون جيش شعبي من الأحرار القبائل خوفا على مناصبكم". وقد أشرنا من قبل إلى أنه تم بعد قتل الزبيري والانقلاب على السلال تسليح القبائل بالفعل. وقامت هذه القبائل بأعمال دموية لتصفية قيادات وقوى وطنية من الحياة العامة ومن الجيش. ومنذ ذلك الحين اتسم الجيش بطابع قبلي. كما تداخلت القبيلة مع أجهزة الدولة.
يرتبط ما جاء في "مأساة واق الواق" ارتباطا وثيقا بتاريخ الصراعات الاجتماعية في اليمن. كما أن تصور الزبيري لنظام الحكم "في مدينته الخيالية" يقوم على مؤسسة قبلية تتمثل في "مجلس القبائل" الذي عرفته الدول اليمنية القديمة حسبما تقول كلمات مأساة واق الواق التي أشرنا إليها من قبل. وهي دول معين وقتبان وسبأ وحمير. يختلف هذا التوجه الذي يعتمد على القبيلة اختلافا جوهريا عن صورة الواقع الاجتماعي في الأعمال الأدبية الأخرى. وهي صورة لمجتمع يتطلع إلى التحديث وتنشأ بداخله طبقات وشرائح اجتماعية جديدة ومؤسسات حديثة تنتمي إلى مجتمع حضري. كما برزت مع هذا المجتمع الحضري شخصية يمنية غير قبلية لها ثقافتها الجديدة.
د.أحمد القصير- كاتب من مصر
المراجع:
1- أحمدالقصير، التحديث في اليمن والتداخل بين الدولة والقبيلة، دار العالم الثالث، القاهرة، 2006.
2- علي محمد عبده، الاتحاد اليمني من المهد إلى اللحد، مجلة الكلمة، العدد 47 مايو 1978 والعدد48 سبتمبر1978.
3- سعيد أحمد الجناحي، الحركة الوطنية اليمنية من الثورة إلى الوحدة، عدن وصنعاء،1992.
4- محمد عبدالسلام، الجمهورية بين الدولة والقبيلة في اليمن الشمالي، 1987.
5- محمد محمود الزبيري، مأساة واق الواق، صنعاء وبيروت، 1978.