عن مذكرات ابراهيم هاجوج عن الأيام الأولى للعدوان على بورسعيد عام 1956

ابراهيم محمد هاجوج صاحب هذه المذكرات من مواليد مدينة بورسعيد في 28 أغسطس 1932. وتوفى في بورفؤاد في 5 يناير 2013. كان شخصية محورية في عملية تنظيم المقاومة الشعبية أثناء العدوان الثلاثي ضد مصر عام 1956. وهو من قيادات "حدتو" في مدينة بورسعيد. وكلمة حدتو هي اختصار لام منظمة "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني". كان ابراهيم هاجوج صديقا شخصيا ورفيق نضال. وتعرضنا معا للاعتقال أكثر من مرة. وكان الاعتقال الأول في خمسينات القرن العشرين. وجاء الثاني في ستينات نفس القرن بسجن الواحات.
قام ابراهيم هاجوج بأدوار أساسية في مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956. وذلك بالاشتراك مع رفاقه من أبناء بورسعيد الأعضاء أيضا في الحزب الشيوعي المصري الموحد – حدتو. ومن بين هؤلاء الزملاء: المحامي أحمد شوقي المرجاوي، والنقابي أحمد كامل جليل رئيس نقابة شركة اسو للبترول، وعبدالمحسن الحفناوي، وصالح دهب. وعندما بدأ العدوان يوم 28 أكتوبر 1956 كان معهم بالمدينة ثلاثة رفاق لهم من حدتو من خارج بورسعيد. وهم: سعد عبداللطيف المحامي وهو من قيادات حدتو بمنطقة الوجه البحري، ومنير موافي وهو ضابط برتبة صغيرة بالجيش، وسعد رحمي وكان المسؤول السياسي لمنظمة حدتو بمنطقة بورسعيد. وبعد شهر من بدء العدوان تسلل إلى بورسعيد عشرة رفاق من حدتو وانضموا إلى زملائهم في المدينة.
تمت عملية التسلل على دفعات عبر بحيرة المنزلة خلال ثلاثة ليالي متتالية. ففي الليلة الأولي تسلل ابراهيم هاجوج ومنير صادق موافي ابن المنصورة الذي كان طالبا بكلية الهندسة جامعة الاسكندرية. وكان ابراهيم هاجوج قد تسلل إلى خارج بورسعيد عبر بحيرة المنزلة للمرة الثانية. لكنه في هذه المرة قضى يوما واحدا فقط ثم عاد إلى المدينة بعد أن اشترى رونيو وأدوات لطباعة المنشورات من مدينة المنصورة حملها معه زميله منير صادق موافي. وكان سطح القفة التي تحتوىي على هذه الأدوات مغطى بأسماك بغرض التمويه. وفي الليلة التالية تسلل إلى المدينة ستة رفاق حملوا معهم قففا مماثلة. وهؤلاء الرفاق هم: أحمد حجازي، شكري عبدالوهاب، الشيخ عبدالسلام الخشان، فتحي مجاهد، محمود صبيح،ـ وأحمد مجاهد. وفي الليلة الثالثة تسلل ثلاثة رفاق هم: أحمد الرفاعي وعبدالمنعم شتلة والفنان التشكيلي عبدالمنعم القصاص الذي أحضر معه من القاهرة كليشيهات مجلة "الانتصار" أعدتها "دار الفكر للنشر" التابعة إلى حدتو.
تعتبر هذه المذكرات اليومية التي دونها ابراهيم هاجوج وثيقة نادرة تمثل ذاكرة لتاريخ نضالي سيظل باقيا في التاريخ. وهي تغطي 11 يوما فقط من بداية العدوان يو م 28 أكتوبر حتى 7 نوفمبر1956. وقدمت لنا وصفا للمقاومة الباسلة التي واجه بها أهالي بورسعيد ذلك العدوان. فقد حمل الجميع السلاح بما في ذلك النساء. وأبادت هذه المقاومة على سبيل المثال جميع أفراد أول كتبيتي مظلات أنزلهما العدو يوم 5 نوفمبر. الكتيبة الأولى تم إنزالها في بورفؤاد والثانية في الجميل. كما أبادت الدفعات الأولي لقوات العدو التي نزلت من البحر.
أوضحت المذكرات بطولات عديدة للمقاومة والأهالي. ومن بينها الالتحام بالقوات المعتدية والقتال من شارع إلى شارع وسط عمليات وحشية من جانب العدو. مقاومة بطولية كبدت العدو خسائر ضخمة في ظل مواصلته تدمير المدينة وحرقها ودفن الناس أحياء تحت الأنقاض. لكن المذكرات لم تتناول الأعمال البطولية التي قام ابراهيم هاجوج ورفاقه لمقاومة العدوان والاحتلال بدءا من بداية العدوان يوم الأحد 28 أكتوبر1956 حتى رحيل القوات المعتدية عن المدينة في 23 ديسمبر1956.
سوف نشير في هذا التقديم إلى بعض الأعمال التي قام بها ابراهيم هاجوج خلال تلك الفترة. وكان خلالها حلقة وصل بين المدينة ورفاق حدتو خارجها. وكان أيضا حلقة اتصال مع بعض ضباط الجيش في خارج المدينة المعنيين بالمقاومة. فقد خرج من بورسعيد أكثر من مرة متسللا عبر بحيرة المنزلة وعاد إليها ثانية منفردا في إحدى المرات ومع أحد رفاقه في مرة أخرى. وفي هذه الأخيرة عاد حاملا رونيو وأدوات طباعة حسبما أشرنا آنفا. وفيما يلي إشارة إلى بعض المهام التي قام بها.
أولا: اشترك ابراهيم هاجوج في مقاومة عمليات إنزال قوات المظلات البريطانية والفرنسية في بورسعيد. وقام هو وزميله سعد عبداللطيف- المحامي بتوجيه المقاتلين إلى أماكن إنزال قوات المظلات للتصدي لها. قاما بذلك من خلال مكبر صوت فوق عربة تابعة لقوات خفر السواحل أخذت تجوب بهما شوارع المدينة. وقد رصدتها إحدي الطائرات المعادية وقامت بقصفها. لكن تمكن السائق وابراهيم هاجوج وسعد عبداللطيف من النزول من السيارة قبل تدميرها بلحظات.
ثانيا: تسلل هاجوج إلى خارج بورسعيد بعد احتلال المدينة. وتمت عملية التسلل عبر بحيرة المنزلة. وكان معه في تلك المرة أحمد شوقي المرجاوي وسعد عبداللطيف وسعد رحمي. وقاموا بالتنسيق مع زملائهم في حدتو وبعض ضباط جمال عبدالناصر المسؤولين عن المقاومة. وعادوا بعد ذلك إلى بورسعيد باستثناء سعد عبداللطيف. وطلب الضباط من ابراهيم هاجوج بأن يكتب بعد تسلله عائدا إلى بورسعيد تقريرا عن عدد القوات المعتدية ونوعيتها وتوزيعها بمختلف المناطق. وتم تعريفه بطريقة القيام بذلك من خلال رصد العلامات على ملابس قوات العدو.
وفور عودته إلى بورسعيد اجتمع مع عشرة أشخاص من رفاقه واتفقوا على طريقة تنفيذ هذه المهمة. ونجحوا خلال يوم واحد في إنجازها من خلال مراقبتهم لأماكن تجمع تلك القوات. وكتب تقريرا تضمن أيضا أوضاع المدينة واحتياجاتها. وأرسله إلى مدينة المنزلة بواسطة أحد الصيادين.
ثالثا: اشترك ابراهيم هاجوج مع رفاقه أبناء بورسعيد بمنظمة حدتو في تأسيس "اللجنة العليا للمقاومة الشعبية". وهي اللجنة التي قامت بدعوة كل فصائل المقاومة في المدينة للتوحد في كيان واحد. وقام ابراهيم هاجوج بالتفاوض مع تلك الفصائل نيابة عن "اللجنة العليا للمقاومة الشعبية". وتمت عملية التوحيد بالفعل. وتشكلت "الجبهة المتحدة للمقاومة الشعبية". وظهر تأثيرها. وهو ما أثار قلق القوات البريطانية والفرنسية التي احتلت المدينة؛ ووزعت منشورا بالطائرات يتهم الجبهة بأنها "جبهة الشيوعيين الملحدين الكفرة". وهو اتهام رددته أيضا جماعة الإخوان المسلمين في المدينة.
رابعا: قاد ابراهيم هاجوج الفعاليات الجماهيرية للمقاومة. ومن بينها تنظيم أول مظاهرة في المدينة يوم 21 نوفمبر1956. وهي المظاهرة التي تصاعدت معها روح المقاومة. وأطلقت قوات الاحتلال خلالها الرصاص على الطفل حسن حمود الذي كان محمولا على الأكتاف رافعا صورة كبيرة لجمال عبدالناصر وهو يهتف بكلمة واحدة "ناصر .. ناصر". وكان نصر حمود شقيقه الأكبر عضوا بحدتو ومسجونا آنذاك. وقتلت الرصاصات التي تم توجيهها إلى حسن حمود طفلا آخر هو رمضان السيد. وفي اليوم التالي شهدت المدينة إضرابا عاما بشكل تلقائي احتجاجا على استشهاد الطفلين. وقد قمت من قبل بتناول هذا الأمر وتفاصيل خاصة بتلك المظاهرة في كتابي "حدتو ذاكرة المقاومة في بورسعيد 1956".
خامسا: قامت "الجبهة المتحدة للمقاومة الشعبية" بتكليف ابراهيم هاجوج بتولي مسؤولية تنظيم مظاهرة الشهداء ودعم الوحدة الوطنية يوم 7 ديسمبر 1956. وهي المظاهرة التي شارك فيها كل أبناء المدينة واتجهت من جامع الرحمة إلى المقابر تحية للشهداء ودعما للوحدة الوطنية. انطلقت المظاهرة رغم حصارها بدبابات قوات الاحتلال علاوة على إرهابها بتحليق الطائرات فوقها.
وقد نجح ابراهيم هاجوج ورفاقه في تنظيم المظاهرة وقيادتها. كما رفض بحسم ضغوط ومحاولات محافظ بورسعيد إلغاء المظاهرة. ومن بين تلك المحاولات الإعلان كذبا بأنه تم إلغاء المظاهرة. كما دفع عددا من خطباء بعض المساجد إلى إدانة المظاهرة في خطبة الجمعة. جاءت محاولات المحافظ لمنع المظاهرة تحت زعم أنها ستؤدي إلى مذبحة لآبناء المدينة. لكن ابراهيم هاجوج أبلغه أن المظاهرة ستتم وأنه لا يتلقى أى أوامر إلا من "الجبهة المتحدة للمقاومة الشعبية".
وتسهيلا للقارئ سنقدم أولا المذكرات في هذا الكتاب مكتوبة بواسطة الكومبيوتر. وبعد ذلك سنقدمها في صورتها الأصلية بخط يد صاحبها بوصفها وثيقة نادرة عن أحداث مصيرية في تاريخ مصر. وهي أحداث تفضح دموية المستعمرين وعدائهم للشعوب والبشرية. كما توضح من جانب آخر بطولة أهالي بورسعيد وتضحياتهم من أجل الوطن.
لقد تضافرت عدة عوامل في إجلاء القوات المعتدية عن بورسعيد في 23 ديسمبر 1956، أي بعد 57 يوما فقط من العدوان. وهذه العوامل هي:
أولا: المقاومة البطولية التي أظهرتها مدينة بورسعيد الباسلة وتوحد فصائل المقاومة في كيان واحد هو الجبهة المتحدة للمقاومة الشعبية. وكانت منظمة حدتو هي العنصر الفاعل في تشكيلها وتوجيه نشاطها. وأصبحت الجبهة قائدا للمدينة تحظى بثقة الأهالي. فقد كانوا يستجيبون لبياناتها وقراراتها التي كان يتم إعلانها أحيانا من خلال مكبر للصوت فوق عربة تجوب شوارع المدينة.
ثانيا: الإنذار الذي وجهه الاتحاد السوفيتي إلى كل من بريطانيا وفرنسا واسرائيل بأنه إذا لم تتوقف فورا عن العدوان على مصر سيتم ضرب مدن بلادهم بالصواريخ السوفيتية الموجهة.
ثالثا: تعاظم التضامن الدولي مع مصر. ·