نحو نظرية للأمن القومي المشرقي المشترك
أحمد فاخر
الحوار المتمدن
-
العدد: 4348 - 2014 / 1 / 28 - 19:25
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أثبت تطور الأحداث السياسية والعسكرية في دول المشرق العربي، ضرورة الحاجة إلى نظرية للأمن القومي المشرقي، تلمّ شعث التصورات والأفكار والتحليلات التي ارتبطت بالصراع العنيف الذي تعيشه المنطقة منذ ثلاث سنوات؛ وأهمّ مظاهره: الصمود الأسطوري للجيش العربي السوري، ودخول الجيش العراقي الجديد إلى ميدان المعركة نفسها، في مواجهة التحالف الصهيو ـ وهابي، وقدرة حزب الله، كممثل للقوى الوطنية اللبنانية، على لجم مساعي جره إلى معركة طائفية في لبنان، وثبات خطه السياسي ومقاتليه في خندق الجمهورية العربية السورية، وكذلك الصراع السياسي في الأردن، وبين أطراف الفصائل الفلسطينية المتعارضة والمتباينة.
لقد تبين أن نظرية الأمن القومي العربي، التي سوّدت آلاف الصفحات بالحديث عنها، ليست أكثر من لغو؛ فالتهديد الرئيسي لأمن المنطقة ناجم عن تحالف ـ له جذوره العميقة ـ بين الرجعية العربية وعمادها السعودية، والعثمانية الجديدة والرجعية الدينية التكفيرية والصهيونية. وقد انكشف المشهد عن معسكرين عربيين متضادين، وعنف دموي غير مسبوق، أسقط، تماماً، أي نظرية عن الأمن القومي العربي الواحد، فضلاً عن أن الظروف الجديدة التي يمر بها العالم العربي ستفرض أكثر من نظرية أمن قومي في مناطقه المختلفة جيوسياسياً. فلو أخذنا مصر، على سبيل المثال، فإنها ستكون، لمرحلة طويلة نسبياً، مشغولة بتأمين حدودها الجنوبية والغربية والشرقية؛ فتأمين نهر النيل، شريان الحياة المصري، سيفرض على القاهرة، ترتيب أولوياتها لتأمين هذا الشريان الحيوي عبر وسائل سياسية وأمنية واقتصادية. وستكون هذه بالنسبة إلى مصر، عبر تاريخها القديم والحديث، معركة جديدة تماماً. هذا فضلاً عن حدودها الغربية في ظل انحلال الدولة الليبية، وسيطرة الجماعات الإرهابية التي ترى في تقويض الدولة المصرية هدفاً، وتتلاقى هذه الجماعات، في هذا الهدف، مع نظيرتها في سيناء التي تحولت إلى منطقة تخلخل أمني رئيسية بالنسبة إلى مصر. وفوق ذلك كله، يطل التهديد الإسرائيلي برأسه.
بالمقابل، إن انتهاك الأمن القومي لدول المشرق العربي، يأتي من ثلاث جهات، أحدها متغيّر سياسياً (تركيا)، بينما ضلعا التهديد الآخران، السعودية وإسرائيل، ثابتان. ويبدو أن فرض محتوى جديد لنظرية الأمن القومي المشرقي يحتم معركة فاصلة تتحقق فيها الشروط الموضوعية لتفكيك المنظومة الوهابية ودولة الكيان الغاصب؛ فمن دون هذا الحل ستستمر المؤامرات والهجمات الدموية على القوس المشرقي، تستنزف قدراته وطاقاته وتمنع تطور مجتمعاته واقتصاداته.
تنمو نظرية الأمن القومي المشرقي في السياق التاريخي الطبيعي، ونتيجة حتمية لوحدة الصراع والأهداف المشتركة لشعوب الإقليم، والصراع المشترك ضد أعداء مشتركين ومخاطر مشتركة؛ فدول المشرق، منفردة ومجتمعةً، تواجه الأعداء الخارجيين أنفسهم، أولئك الذين يستخدمون حقائق التنوع المشرقي، لتأجيج الصراعات الدينية والمذهبية والعرقية والجهوية... إلى أقصى حدود العنف والإجرام، والسعي إلى انخراط أكبر مجموعات بشرية في هذا الصراع المدمر. ومن هنا يمكن أن نفهم عظمة الإنجاز العسكري للجيش العربي السوري والمقاومة اللبنانية والجيش العراقي الجديد للقضاء على هذه المؤامرة. (ووسط كل ذلك، ينبغي الاعتراف بالدور القيادي الشجاع الذي اضطلع به الرئيس بشار الأسد، في فهم طبيعة المؤامرة الدولية المنسوجة للإقليم كله، والصمود في مجابهتها).
يتمثل المبدأ الأول في بناء نظرية الأمن القومي المشرقي، في ضرورة توحيد العقيدة السياسية ومصادر التسليح ووسائل القتال بين الجيوش المشرقية. ولعل إنجاز هذه المهمة، رغم ما تواجهه من مصاعب، سيسهم في مضاعفة القوة النوعية لتلك الجيوش، ويضع حداً للتدخلات والتهديدات الخارجية.
ويتمثل المبدأ الثاني في الاعتماد الدفاعي على منظمات المقاومة وبيئاتها المجتمعية، على أساس الوحدة، لا التعارض مع الجيوش. والمثال حاضر لدينا في حزب الله.
لا يستند الأمن القومي إلى فكرة القوة العسكرية فقط، ولكنها ضرورة لتحقيق أهداف النظرية الاستراتيجية العامة للأمن القومي المشترك القائمة على خلق مناخ من الأمن والاستقرار الداخلي ومنع التهديدات والتدخلات الخارجية وضمان الاستقلال الوطني والشروط السيادية للعملية التنموية.
تنطلق الأهداف الأساسية للأمن القومي المشرقي من ضرورة تحقيق منجزات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، قادرة على تحقيق إجماع وطني يلبي طموحات شعوب المشرق وأمالها على المستوى السياسي. يتمثل الشرط الأول في قيام ديموقراطية اجتماعية تعكس مصالح الفئات الشعبية المشرقية، وتحل مشاكلها المتراكمة عبر سنوات القمع والدم، وتغرس الانتماء الوطني في قلوبها وتوفر لها التعليم والتأهيل وفرص العمل والحياة الكريمة، بعيداً عن الامتيازات الفئوية. الديموقراطية الاجتماعية، ليست، هنا، خياراً أيديولوجياً، بل المبدأ الثالث في نظرية الأمن القومي، وقاعدة المبدأ الأمني القومي المشرقي الرابع، المتمثل في تحقيق ثورة ثقافية تنويرية تقدمية إنسانية، تؤمن بالتعددية السياسية والثقافية والدينية والمذهبية والعرقية... وتنبذ كل أشكال التعصب والتكفير ونبذ الآخر، وترفض أي أفكار معادية للإنسان مهما كان مصدرها، وتنمي مشاعر الأخوة والهدف المشترك لشعوب المشرق.
يحتل الاقتصاد المركز الأهم في تطوير نظرية شاملة للأمن القومي المشرقي؛ ينبغي، ابتداءً، تحديد النهج الاقتصادي للتحالف المشرقي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن نهج الليبرالية الجديدة الذي عمّ العالم خلال العقود الثلاثة المنصرمة، تميز بظاهرتين أساسيتين، هما الفساد العام والشامل وظهور صراعات همجية نجمت عن زيادة وتيرة التهميش وانتعاش النزعات العنصرية والشوفينية وصراعات الطوائف. وهو ما انعكس حتى على الدول المتطورة، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية، حيث لاحظنا نجاحات الأحزاب الفاشية واليمينية المتطرفة نتيجة لتدمير النقابات العمالية والأحزاب السياسية حتى التقليدية منها، وبدأ الحديث عن صراع الحضارات لاستبدال الصراع الاجتماعي القائم على أساس مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية، بالصراعات الدينية والمذهبية الطائفية والعرقية...
وبالتالي، يُقبر هذا النهج ويُستبدَل به النهج التنموي الوطني الاجتماعي والقائم على سيطرة الدولة على القطاعات الاقتصادية الرئيسية، والتوزيع العادل للثروات على المجتمع ككل. ولا يعني ذلك، القفز نحو الاشتراكية، بل بناء الاقتصاد المتين العادل القادر على تمويل الدفاع والإدارة والخدمات والحياة الكريمة للأغلبية.
العملية التنموية الوطنية لا تقود إلى الانعزال عن السوق العالمي، بالعكس، فبمعرفة وتفعيل الميزات الاقتصادية لدول المشرق يمكن تأمين انخراط أكثر كفاءة وأكثر عدالة للاقتصادات المشرقية في السوق الدولية.
إن الاختراقات الكبيرة التي حققتها دول البريكس، وعلى رأسها الحليفان الدوليان للمشرق العربي، روسيا والصين، والتجربة التنموية للحليف الإيراني، تفتح الباب لخيار الانخراط في كتل اقتصادية دولية وإقليمية، على أسس تنموية ومتكافئة.
تستند النظرية الاجتماعية للأمن القومي المشرقي على ضمان حقوق الأفراد والمجموعات وتوفير البنى الضرورية لتطوير المجتمع ككل، وحفظ حقوق أفراده في التعليم والصحة والمسكن والعمل، ولا تكفي الضمانات الدستورية المكتوبة فقط، بل ترجمة هذه الحقوق إلى واقع محسوس يشعر به الفرد العادي، ويتعلم فيه الدفاع عن حقوقه بكافة الوسائل المشروعة من حق الاحتجاج إلى التظاهر وتشكيل الجمعيات والأحزاب السياسية التي تتوافق مع أفكار الدولة العلمانية الديموقراطية ورؤاها، ومنع كافة الأحزاب المستندة إلى أساس ديني أو عنصري أو القائمة على اضطهاد الأخر.
* عضو الأمانة العامة
لحركة اليسار الاجتماعي الأردني