إحتدام معركة الحريات العامة في الأردن
منير الحمارنة
الحوار المتمدن
-
العدد: 1101 - 2005 / 2 / 6 - 12:52
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
*معركة قاسية: فمحاولات الحكومة الاردنية للتضييق على النشاط السياسي بشكل عام، تتسع، ومن هنا ابتدأت محاولات تقليص نشاط النقابات المهنية وبذل الجهود لقصر نشاطاتها على الشؤون المهنية فقط*
اندلعت في الاسابيع القليلة المنصرمة معركة قاسية بين الحكومة والنقابات المهنية. ويكمن جوهر وهدف هذه المعركة في محاولات الحكومة منع النقابات المهنية من ممارسة اي نشاط سياسي او وطني وقصر نشاطها على الشؤون المهنية التي انشئت من اجلها وباسمها.
وهذه ليست المرة الاولى التي تحاول فيها الحكومات الاردنية المختلفة الضغط على النقابات المهنية لتقليص او حتى وقف نشاطها في الشأن العام على الصعيدين المحلي او الخارجي، بل ان هذه المحاولات اخذت تتوالى باشكال مختلفة منذ منتصف التسعينيات، وتحديدا بعد توقيع معاهدة وادي عربة. غير ان المحاولة هذه المرة اخذت شكلا جديدا فجرّ معركة حقيقية مع النقابات، ومع القوى الوطنية المختلفة.
والحقيقة ان الموقف من النقابات المهنية، يرتبط بالموقف من الحريات العامة ومن اشاعة الدمقراطية في البلاد. فمن المعروف ان الاردن شهد حالة من الانفراج السياسي التدريجي في نهاية الثمانينيات، بعد عدة عقود من فرض الاحكام العرفية القاسية واخذت مؤشرات الانفراج تتوالى وأخذت تترسخ تدريجيا بعض الحقوق التي نص عليها الدستور لا سيما في مجالات التنظيم وحرية التعبير. وشهدت الحياة السياسية انتعاشا ملموسا واُلغي الكثير من القوانين المحدّة للحريات كقانون مقاومة الشيوعية وغيره من القوانين. وشرعت قوانين الاحزاب والصحافة والنشر وغيرها. وبقي مؤشر الحريات يسير باتجاه صعودي الى ان جرى توقيع معاهدة وادي عربة ومنذ منتصف التسعينيات، أي بعد توقيع المعاهدة اخذت تتراجع قضية الحريات، لان توقيع المعاهدة شكّل نقطة تراجع حاد في مجال الحريات العامة.
فبعد توقيع المعاهدة نشطت حركة مقاومة التطبيع مع اسرائيل، وخاصة في اعقاب المحاولات الاسرائيلية المتعددة والمكشوفة في فرض اشكال جديدة من العلاقات الاقتصادية والثقافية، والتي اخذت شكلا مثيرا بعد الاعلان عن اقامة معرض الصناعات الاسرائيلية في عمّان.
لقد واجهت مختلف القوى السياسية والاجتماعية والنقابية والفكرية خطوة اقامة المعرض بمعارضة عارمة وشاملة. حيث نظمت مسيرة شعبية كبرى باتجاه ارض المعرض شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين وضمت القوى السياسية والفكرية على مختلف ميولها واتجاهاتها. واصطدمت هذه المسيرة الاحتجاجية الكبرى بقوى الأمن التي عمدت الى تفريق المحتجين بالهراوَى وخراطيم المياه وسدت الطرقات المؤدية الى المعرض. وعمق هذا الصدام الواسع والمؤثر كل اشكال النشاطات المقاومة للتطبيع وساهم في تعبئة قوى واسعة للانضمام الى حركة مقاومة التطبيع، والتي ساهمت في تنظيمها الاحزاب السياسية الوطنية والنقابات المهنية.
وهكذا في ظل الظروف الجديدة التي نشأت بعد توقيع المعاهدة اخذت تتسع الهوة بين توجهات الحكومة وبين مواقف القوى الوطنية والنقابية، واخذت تشتد التناقضات مع السلطات في المجتمع. واقدمت الحكومة على عدة اجراءات شكلت في مجموعها عودة عن حالة الانفراج الدمقراطي والسياسي، واساسا لانتكاسة في مجال الحريات العامة. وبرز ذلك في تغيير قانون الانتخابات العامة والتراجع عن قانون المطبوعات والنشر وادخال الكثير من التعديلات على قوانين العقوبات وتوسيع دور القضاء الاستثنائي، وتوسيع صلاحيات محكمة امن الدولة وغير ذلك.
وفي ظل الظروف الجديدة اخذت تتسع محاولات التضييق على النشاط السياسي بشكل عام، ومن هنا ابتدأت محاولات تقليص نشاط النقابات المهنية وبذل الجهود بقصر نشاطاتها على الشؤون المهنية وتركزت محاولات الحكومات المتتالية على نفي الدور الذي يجب ان تقوم به مؤسسات المجتمع المدني في الشأن العام.
ويمكن القول ان المحاولات هذه لم تتوقف منذ منتصف التسعينيات، وكانت هذه المحاولات ترتبط بحالات المد والجزر في الموقف من الحريات العامة واشاعة الدمقراطية في البلاد. وهناك اسباب هامة لاستهداف النقابات المهنية في محاولات الضغط عليها وتقليص نشاطها. وفي مقدمة هذه الاسباب ان لهذه النقابات دورا هاما في المشاركة في الحياة السياسية والوطنية وفي الشأن العام وبنشاط ملموس منذ قيام هذه النقابات والتي يزيد عمر بعضها عن نصف قرن. والسبب الآخر أن عضوية النقابات التي تقرب من 150 الفا تتكون من جمهور من المثقفين والمتنوّرين ومن السياسيين. اذ ان القوى السياسية كانت وراء انشاء هذه النقابات، والتي تتكون من نقابات كبيرة جدا كنقابة المحامين والاطباء والمهندسين واطباء الاسنان والصيادلة والزراعيين والجيولوجيين وغيرها من النقابات ذات العضوية الاقل عددا.
والسبب الآخر انه يوجد للنقابات الكبرى مركز واحد هو مجمع النقابات المهنية وهو مبنى واسع جدا تتوافر فيه صالات واسعة للاجتماعات ولمختلف النشاطات المهنية والفنية والوطنية وغيرها، هذا اضافة الى الامكانيات المالية التي تتوافر للنقابات.
وقد ساهمت هذه الاسباب، في جعل مجمّع النقابات، والنقابات ذاتها مركزا للكثير من النشاطات الوطنية والسياسية حتى في ظل اقسى ظروف الاحكام العرفية.
وهكذا فان الضغوط الحكومية التي تبذل لمنع النشاطات الوطنية والسياسية للنقابات، انما تستهدف ضرب هذا الدور التاريخي الذي قامت به النقابات من جهة ولتجريد الحركة الوطنية من امكانات هامة تمتلكها النقابات من جهة ثانية.
والحكومة تدّعي ان العمل السياسي يجب ان يكون من مهام واهداف الاحزاب السياسية. ولكنها تدرك تماما حجم المعيقات التي تقف امام نشاط الاحزاب، وبالتالي فان الهجوم على النقابات المهنية يستهدف تهبيط سقف الحريات العامة وتهبيط مستوى النشاط الوطني بشكل عام. وقد اتخذ الهجوم الاخير شكلا فجًا حيث طالبت وزارة الداخلية من مجمع النقابات ازالة جميع اليافطات والبوسترات والاعلانات التي لا تتعلق بمهن النقابات المختلفة. كما طالبت النقابات الخضوع لقانون الاجتماعات العامة، والذي يقضي بطلب موافقة السلطات الادارية على عقد أي اجتماع او أي نشاط لا علاقة له بمهن النقابات، ويبيح هذا القانون للسلطات الادارية حق الرفض او القبول دون ابداء الاسباب.
ولما لم تنفذ النقابات طلب وزارة الداخلية في ازالة اليافطات والبوسترات والاعلانات، اقدمت قوات الامن على مداهمة المجمع وازالة كل هذه الامور. كما قامت قوات الامن بمنع اجتماع لاعضاء النقابات. دعت اليه قيادة النقابات لتدارس الاوضاع المستجدة. وأخلت قوات الامن المبنى الضخم من جميع العاملين فيه وطوقته بقوات كثيفة ومنعت الدخول اليه، واعتدت على بعض قادة النقابات الذين حاولوا الدخول، كما اعتدت على بعض النواب النقابيين وغيرهم. وفرقت حشدا كبيرا من اعضاء النقابات ومن الشخصيات الوطنية الذين جاؤوا تلبية لدعوة النقابات لحضور الاجتماع بتاريخ 26/1/2005.
وتحاول السلطات تبرير موقفها من النقابات بالاستناد على مواقف بعض الذين يتحدثون او يساهمون في النشاطات الفكرية او السياسية بشكل شديد التطرف. هذا مع العلم ان مثل هذه الحالات تشكل الاستثناء ولا تشكل القاعدة خاصة ان مثل هذه المواقف نادرة جدا او قليلة جدا في ظل حجم هائل من النشاطات السياسية والعلمية التي يتم تنظيمها في مجمع النقابات.
اننا نعتقد ان الموقف من النقابات هذه المرة لا يشذ عن القاعدة العامة لذلك، والتي ترتبط بالموقف من الحريات العامة والحياة الدمقراطية. اذ ان هذا الموقف يأتي في اعقاب تخلي الحكومة عن موضوع التنمية السياسية والذي احتل موقعا متقدما واساسيا في برنامج الحكومة الحالية، والذي استنفد التبشير به والعمل من اجله قسطا كبيرا من نشاط الحكومة، ولذلك تنظر مختلف القوى الوطنية بقلق بالغ لهذا التطور في موقف الحكومة وبتداعياته التي قد يكون لها ابعاد هامة على المستويين المحلي والاقليمي.
*ألامين العام للحزب الشيوعي الاردني