تفكيك مفاهيم الاقتصاد الستاليني: حسقيل قوجمان نموذجا
أمير خليل علي
2012 / 2 / 19 - 00:04
طالعت مقال حسقيل قوجمان، المفكر الستاليني، المعنون، نحتاج الىِ شطف ادمغتنا ٥، على الرابط
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=295754
والذي يحاول فيه أن يثبت أن المرحلة الستالينية في روسيا قد شهدت بدايات مبشرة لتحقق مشروع اشتراكي حقيقي في روسيا .. تمكنت من القطع مع المرحلة (ما قبل) الرأسمالية .. التي كانت روسيا تعيشها قبل الثورة الروسية.
فهدف مقال قوجمان هو دحض "المفاهيم التحريفية التي (تقول) ان الاتحاد السوفييتي لم يحقق مجتمعا اشتراكيا تحت قيادة ستالين."
كما يهدف جوقمان إلى دحض " الادعاء بان ما حققه الاتحاد السوفييتي هو راسمالية الدولة .. (والتي يعدها "التحريفيون") اسوأ من راسمالية الدولة في الدول الامبريالية."
ولتحقيق هذا الهدف .. يقول قوجمان:
"ما الذي تغير في الاقتصاد السوفييتي بعد الثورة؟ التغير الهائل الذي حدث هو ان المشاريع المصادرة او المؤممة لم تعد تدار بطريقة راسمالية، لم تعد مشاريع راسمالية. لم تعد معادلة الراسمال (ن س ن) نقود سلعة نقود +ربح تنطبق على الانتاج الصناعي في هذه المشاريع (السوفيتية) .. لم يعد توزيع المنتجات بين هذه المشاريع (السوفيتية)عملية بيع وشراء وانما عملية ((تحول جزء من الانتاج)) من مشروع الى اخر حسب ما يتوفر .. وحسب حاجة هذه المشاريع من اجل تطوير الانتاج تطويرا متدرجا مدروسا ومنظما. اصبحت هذه المشاريع المصادرة مشروعا اشتراكيا واحدا."
تكمن مشكلة المقال في أنه لا يحدد بالدقة الكافية .. الفرق بين المشروع الرأسمالي .. وبين المشروع الاشتراكي ..
ذلك أن كاتب المقال يظن أن أهم سمات المشروع الرأسمالي هما سمتين فقط:
التبادل النقودي .. والسوق الحر..
ولذا نجده يظن أن أهم سمات المشروع "الاشتراكي" لابد أن تكون هي مخالفة هاتين السمتين فقط ..
فيصبح المشروع الاشتراكي .. هو كل مشروع .. يحوز سمتين نقيضتين للسمتين أعلاه .. فيتم فيه التبادل:
دون نقود .. ودون سوق حرة .. بل بقرار إداري
وانطلاقا من هذا الاختزال (في سمتين وسمتين نقيضتين) .. يبني الكاتب مجمل أفكار مقالته .. في إثبات أن المشروعات السوفيتية كانت اشتراكية .. وليست رأسمالية (دولة) ..
فهو يعتبر أن المشروع طالما تعامل بالنقود وسوق حر .. فهو بالتأكيد رأسمالي.
وبالتالي فإن المشروع الاشتراكي .. هو نقيض ذلك.
وأظن أن هذا الاختزال يدل على أن كاتب المقال يعجز عن فهم السمات الأساسية الجوهرية للمشروع الرأسمالي بدقة.. سواء في التحليل الماركسي .. أو حتى في التحليل الاقتصادي اللاماركسي.
ذلك أنه يخلط السمات الجوهرية بالسمات الثانوية .. للمشروع الرأسمالي.
فوفقا للتحليل الماركسي .. تكون السمات الأساسية للمشروع الرأسمالي .. لا عاقة لها بالنقود .. ولا بالسوق الحر .. فهذه من السمات الثانوية والهامشية .. كما أنها لا تقتصر على المشروع الرأسمالي .. بل تتسم يها كثير من المشروعات غير الرأسمالية ..
أما السمات الأساسية للمشروع الرأسمالي فهي كما يلي::
الاستغلال .. المتمثل في دفع العمال للقبول بالمقابل الذي يحدده صاحب المصنع أو مديره .. وإلا تم الاستغناء عن العامل .. مع استبداله بآلاف غيره من جيش العمال العاطلين.
وفتشية المنتجات وصنمية السلعة .. حيث ينتج العامل منتجات لا علاقة لها بمتطلبات حياته .. ولا يستهلك منها شيئا .. بل يجدها غريبة عنه .. ويجد نفسه لا يمتلك منها شيئا .. بل يستولي عليها صاحب المصنع.
وسرقة فائض القيمة الذي يخلقه العمل .. لكن يستولي عليها الرأسمالي .. لاحتفاظه بالمنتجات في المصنع الذي يمتلكه.
واضطرار العامل لبيع قوة عمله للحصول على ما يضمن حياته .. لأنه لا يمتلك أي مصدر أخر سوى قوة عمله ليضمن له بقاءه حيا.
تلك هي السمات الأساسية "الحقيقية" للرأسمالية .. كما شرحها ماركس وانجلز.
أما مسألة إذا كان العامل يتقاضى أجره نقدا أم على شكل سلع استهلاكية أو كوبونات سلع أساسية .. فهذه مسألة هامشية تماما.. لكن المهم هو اختزال الإنسان في قوة عمله .. وإعطائه مقابل لعمله .. يسرق منه فائض القيمة الذي ينتجه .. بحيث يجعله بحاجة ماسة ودائمة لبيع قوة عمله - سواء نقدا أو مقايضة - فقط ليتمكن من مواصلة الحياة.
أما مسألة هل يتم الدفع نقدا أم مقايضة .. أو هل يتم تبادل السلع بين المصانع نقدا - بنظام ن س ن - أم مقايضة بسلع أخرى - بنظام س ن س - .. فهذه أيضا مسألة سطحية تماما ولا قيمة لها .. في تحليل طبيعة المشكلات والسمات الجوهرية للنظام الرأسمالي.
ولا أعرف ان كان السيد قوجمان يدرك أهمية الفرق بين السمات الأساسية .. وبين السمات السطحية الهامشية ؟
لكن ما أعرفه هو ما ورد في مقال قوجمان من تركيز على السمات الهامشية .. دون أي ذكر للسمات الأساسية ..
ففي مقال قوجمان نجده يتوقف فقط عند سمتين (النقود – السوق) .. لا قيمة كبيرة لهما في المشروع الرأسمالي .. ويظن أنهما هما (هاتين السمتين) .. يمثلان "جوهر" المشروع الرأسمالي ..
وبذلك فإنه يوهم نفسه .. بأنه من خلال تجاوز ونقض وإلغاء هاتين السمتين .. فإنه بذلك يكون قد تجاوز الرأسمالية .. ووصل إلى الاشتراكية.
بل ويوهمنا الكاتب .. بأن هذه المرحلة الاشتراكية قد تحققت بداياتها بالفعل في المرحلة الستالينية .. بمجرد أن قررت ستالين تقليص التعاملات النقدية .. وإلغاء السوق الحرة.
ولتوضيح قصور هذا النمط من التحليل الاقتصادي الاختزالي .. سنقسم الرد إلى أجزاء كما يلي:
هل السوق الحر .. هي سمة جوهرية في الرأسمالية؟؟
بالطبع لا .. لأن ا لسوق الحرة هي مجرد حالة افتراضية قياسية .. تم افتراضها بهدف درس طريقة عمل أي نظام اقتصادي .. وليس بالضرورة الاقتصاد الرأسمالي.
بل من المعروف لدارسي الاقتصاد .. إن أخطر مراحل الراسمالية هي الرأسمالية الاحتكارية التي يتم فيها احتكار السوق وتقييده .. سواء من قبل المنتجين أو المستهلكين.
وهذا يعني أن مفهوم "السوق الحرة" .. هو مجرد مفهوم مجرد غير متعين .. نشأ بهدف دراسة أي نظام اقتصادي .. وليس بالضرورة النظام الرأسمالي ..
لذا فإن إلغاء مفهوم السوق الحرة .. لا يعني الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية .. بل فقط يعني التوقف عن معايرة وقياس مجريات الاقتصاد بمصطلحات السوق .. والانتقال إلى قياس مجريات الاقتصاد من خلال بديل جديد هو .. الاقتصاد المخطط بالقرارات الإدارية .. وهذا الأمر كان يتم سواء قبل أو أثناء الراسمالية .. أو بعدها ..
أي أن حالة السوق الحرة .. ليست بالضرورة حالة راسمالية قياسية .. بل هي حالة اقتصادية قياسية .. سواء أكان النظام رأسمالي أو اشتراكي أو اكليروسي ..
فحالة السوق "الحرة" ليست حالة رأسمالية متحققة .. بل هي حالة تبادلية اقتصادية نظرية مفترضة.
أما ربط السوق الحرة بالرأسمالية .. فهو وهم ناتج عن رواج هذا المفهوم خلال فترة التركيز على درس النشاط الاقتصادي .. خلال المرحلة الراسمالية .. لكن هذا لا يعني أن "السوق" لم تكن موجودة قبل الراسمالية .. بل وستظل موجودة بعدها وأثناءها ..
أما فرضية السوق الحرة .. فهي فرضية نظرية يستحيل تحققها في الواقع .. سواء الرأسمالي أو غيره ..
وإن كان الفهم الاشتراكي يقوم على مجرد محاربة معيار "السوق الحرة" .. فهذا يدل على تهافت ناجم عن مجرد رغبة في إبراز التناقض المجاني الشعاراتي مع مفهوم نظري .. دون فهم للواقع الرأسمالي .. وعجز عن فهم موقع أو قيمة هذا المفهوم (السوق الحرة) داخل المنظومة الرأسمالية .. والاقتصادية بشكل عام.
يفترضرقوجمان أن النقود هي سمة جوهرية في الرأسمالية .. فهل هذا صحيح؟؟
يقول جوقمان:
" لم تعد النقود وسيلة التبادل بين المشاريع المختلفة وانما اصبح التبادل تعبيرا عن حاجة كل مشروع لانتاج المشاريع الاخرى من اجل تحقيق التطور السريع والمنتظم لكافة مشاريع الانتاج. لقد انخفض دور النقود في المجتمع الى نطاق ضيق.."
يبدو أن أ. قوجمان يظن أن انخفاض " دور النقود في المجتمع الى نطاق ضيق" كفيل بنقل هذا المجتمع إلى المرحلة الاشتراكية .. ومفارقته المرحلة الراسمالية.
وهذا اعتقد أنه ظن خاطئ!
ذلك أنه من المتعارف عليه أن المجتمع الرأسمالي المعاصر بدأ بالفعل الانتقال من مرحلة التبادل النقودي الكلاسيكي .. إلى مرحلة جديدة .. أصبح يتم فيها التبادل النقودي .. بشكل إلكتروني .. حيث لم تعد النقود سوى مجرد أرقام وأرصدة .. تسمح لأصحابها .. بإجراء تبادلات محددة .. فهل نقول أنه بتخليه عن النقود قد أصبح نظاما غير رأسمالي ؟
من يقول بهذا .. فهو يخلط المظهر بالجوهر .. فيظن النقود سمة أساسية للرأسمالية .. وهذا ظن خاطئ .. لأن النقد موجود قبل الرأسمالية بقرون عديدة .. وفي اقتصاديات عديدة .. ليست بالضرورة رأسمالية .. وبذلك يمكن أن نعد النقود مجرد مظهر هامشي للاقتصاد الرأسمالي .. وليست سمة أساسية فيه.
لكن لماذا يصر قوجمان على استدعاء سمات هامشية مظهرية من ااقتصاد الرأسمالي .. ثم الزعم بأن روسيا الستالينية قد ألغت هذه السمات - النقود والسوق الحر - وأن روسيا بذلك قد نجحت في انجاز مجتمع اشتراكي؟
أظن الإجابة هي:
أن المجتمع الذي تحقق في روسيا الستالينية لم يكن يختلف عن المجتمع الرأسمالي الغربي .. إلا في هذين المظهرين الشكليين الهامشيين .. وهما إلغاء النقود .. والتخطيط بدل حرية السوق ..
أما ما عدا هذا .. مما ذكرته أعلاه من سمات أساسية للمشروع الرأسمالي .. فقد بقيت كما هي داخل المجتمع السوفيتي الستاليني .. الذي أوهم العالم بأنه قطع مع الرأسمالية .. بينما هو لم يقطع إلا مع مظهرين هامشيين من مظاهر الرأسمالية فقط هما:- النقود والسوق الحر.
بينما ظل الاستغلال كما هو .. بل ازداد في المجتمع الاشتراكي ..
وكذلك ظل الاستيلاء على فائض القيمة التي ينتجها العمل كما هو في المجتمع الاشتراكي الستاليني .. لكن كل ما هنالك .. أنه لم يترجم إلى صورة نقدية .. بل ترجم في شكل كوبونات طعام وسلع أساسية.
كذلك ظلت فيتشية السلع وصنميتها قائمة.. وإلا فما تفسير هذه الطفرة السوفيتية الخطيرة .. بعد موت ستالين .. التي تمثلت في بناء سفن الفضاء وغزو القمر قبل أي مجتمع برجوازي غربي؟ ما هي الحاجة الاجتماعية التي يحققها غزو الفضاء للسوفيت .. سوى الخيلاء وصنمية تسليع العلوم المبتعدة عن هموم الأرض؟.
لذا فإن قوجمان يخطيء حين يظن أن "السوق الحرة" هو سمة أساسية في الرأسمالية .. ينبغي للاشتراكيين تجنبها .. لأن السوق الحرة ليست سوى "فرضية نظرية" .. ربما تعمل الرأسمالية نفسها على نقضها وتجاوزها .. بما يعني أنها ليست من أساسيات الرأسمالية .. بل ربما العكس
إلا أن قوجمان يظن أنه قادر على الولوج إلى المرحلة الاشتراكية بمجرد الإدعاء برفض مفهوم السوق الحرة .. فيقول أن الدولة الاشتراكية تسيطر على السوق .. وبمجرد أن تتحقق السوق غير الحرة .. والمسيطر عليها .. فإنها بذلك تكون قد حققت الاشتراكية ..
فيقول قوجمان: "هذه السيطرة التامة على الانتاج جعلت بمستطاع الدولة ان تنظم الانتاج الاجتماعي بحيث يكمل بعضه بعضا اختفت فيه ظاهرة المنافسة والتكالب على الارباح."
إذن يظن السيد قوجمان أن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية يتحقق بمجرد الانتقال من مرحلة السوق "الحرة" إلى السوق "المقيدة" أو المخططة. ثم من هذا الظن .. يظن أنه ألغى قوى السوق .. دون أن يفهم أن كل ما فعله هو فقط التحول نحو نمط مختلف من ااسوق .. هي السوق المخططة .. وكأنما يهرب من السوق الحرة .. التي لم تكن سوى مجرد شبح افتراضي للرأسمالية .. لم يتحقق يوما على أرض الواقع الرأسمالي .. التي تهيمن عليها في الواقع السوق المقيدة .. لا الحرة .. كما تروج الرأسمالية عن نفسها
لكن لماذا يهرب النظام ااشتراكي من السوق الرأسمالية المقيدة المتظاهرة بأنها حرة .. إلى السوق المخططة .. التي ترفض التظاهر بأنها حرة ؟
الإجابة بسيطة .. وهي أن الاشتراكية الستالينية تريد قول الحقيقة بكل صراحة .. أو بكل وقاحة .. بالأجدى.
فبينما تخايل الرأسمالية على مواطنيها وتتظاهر بأنها سوق حرة .. بينما هي في الحقيقة سوق مقيدة واحتكارية .. فإن الستالينية تتمتع بوقاحة التخلي عن المظاهر ومحاولة استمالة المواطنين .. بل تفضل أن تقول للمواطنين: "انظروا كيف يتظاهر الرأسماليون بما ليس فيهم .. أما نحن فلا نتظاهر بنا ليس فينا .. بل سنستغلكم وسنسحقكم وسنستولي على فوائضكم .. لصالح الدولة التي لا تتظاهر بما ليس فيها .. بل تقول ما تفعل وتفعل ما تقول .. وكفى بهذا فضيلة ما بعدها فضيلة"
ومما يزيد في العبثية .. بعد كل هذا .. أن يكتب قوجمان الفقرة التالية:
"لم تكن الدولة - الستالينية - مالكة للانتاج الاجتماعي الذي تديره. لم يكن بالامكان ادارة جميع هذه المشاريع الضخمة بدون ان تكون لها هيئة ادارية قادرة على تحقيق ذلك. وكانت الدولة السوفييتية هذه الادارة المنتخبة من مجلس السوفييتات. كانت ملكية الانتاج الاجتماعي ملكية شعوب الاتحاد السوفييتي وليس ملكية خاصة لاية مؤسسة."
فلو كان هذا الكلام صحيح واقعيا وتاريخيا .. لما أصبح حال "شعوب الاتحاد السوفييتي" على ما هو عليه حاليا ..
فإن كانت شعوب الاتحاد السوفيتي هي مالكة الانتاج الاجتماعي .. كما يزعم قوجمان .. فهل احتفظ مواطنو شعوب الاتحاد السوفييتي .. بثروات "الإنتاج الاجتماعي" الذي أنتجوه خلال الفترة السابقة .. أم احتفظت به مؤسسات المافيا الإدارية السوفيتية؟
يبدو أن السيد قوجمان هنا يخلط بين الملكية الأسمية الشعاراتية التي منحها النظام الاشتراكي لشعوب الاتحاد السوفيتي لفظيا في شكل شعارات كلامية مجانية .. وبين الملكية الحقيقية الفعلية .. التي اسفرت عن وجهها الحقيقي .. حين انتهى النظام السوفيتي الاشتراكي .. حيث احتفظت مافيا المؤسسات بملكية الانتاج الاجتماعي .. وعاد أفراد الشعب مجرد عمال أجراء كادحين كما كانوا .. لتثبت الاشتراكية السوفيتية أنها ليست قادرة فقط علي الصراحة بوقاحةكما ظننا .. بل إنها هي أيضا تمارس الكذب على شعوبها .. بطريقة تفوق ما تفعله الرأسمالية .. حيث كذبت الستالينية على شعوبها وجعلتهم يصدقون بأنهم هم أصحاب الإنتاج الاجتماعي .. لا المؤسسات والمافيات.