تأملات / ملهاة التسييس ومأساة -التغليس- !
رضا الظاهر
الحوار المتمدن
-
العدد: 3444 - 2011 / 8 / 1 - 17:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما جرى في البرلمان يوم الخميس الماضي في سياق التصويت على مصير المفوضية العليا للانتخابات (ولسنا هنا في معرض تقييم صواب أو بطلان التصويت لصالح إبقائها أو سحب الثقة عنها فهذا شأن آخر) يكشف عن أن كل شيء في المشهد العراقي يخضع للتسييس على يد القوى المتنفذة في الحكم. ومنبع هذا الخضوع للتسييس هو غياب الأسس السليمة التي تقوم عليها العلاقات بين القوى السياسية، والناجم، أساساً، عن التشبث بمنهجية المحاصصات الطائفية والاثنية.
وواقعة البرلمان الأخيرة لن تكون آخر الوقائع في سجل فضائح هذه البلاد. فهذه بلاد فضائح تبدأ بكونها من بين الأكثر فساداً في العالم، وتمر عبر كون ربع سكانها، وهي بلاد ذهب أسود، تحت خط الفقر، ولكنها لا تنتهي عند جيوش من يعانون من الأمية وانتهاك حقوقهم الانسانية وتكبيل النساء بأغلال العبودية، ولا عند البلاد التي أراد لها "محرروها" أن تكون نموذجاً لانجازاتهم "الديمقراطية"، فدفعوها بتخبطهم وجهلهم الى أن تكون فاضحة لأسوأ ما لدى العم سام من مآرب وأوهام !
ولعل من بين الحقائق التي تكشف عن السلوك "المسيّس" في متاهة تناقضات "الشركاء" في الحكم تلك التصريحات الاتهامية بما سمي "التصفيق للفساد". ولسنا بحاجة هنا الى ذكر هذه التصريحات التي تداولتها مختلف وسائل الاعلام، ولا نعتقد أن أحداً يود أن نمضي في التكرار فنضل السبيل في غابة التسييس والتناقض، حيث يسهل على "سياسيين" خوض غمار الاتهامات المتبادلة دون أن يخشوا عواقبها.
ومن الجلي أن المبررات التي قدمها كلا الطرفين في عملية التصويت على سحب الثقة من المفوضية تكشف، بحد ذاتها، مدى نفاق هذه القوى في الموقف من هذه المفوضية والنظام الانتخابي المشوه الذي أتى بها الى مواقع السلطة مجدداً على قاعدة المحاصصة.
وفي مجرى التراشق بالاتهامات الذي أعقب عملية التصويت اتهم أحد الطرفين الآخر بأنه صفق للفساد عندما رفض سحب الثقة من المفوضية، فيما رد الطرف الآخر بأنه وقف ضد القرار درءاً للفراغ الذي سينجم عن حل المفوضية.
أما الطرف الأول فوجه تهمة التصفيق للفساد دون أن يفسر لماذا سكت عن مساهمته في تشكيل المفوضية على أساس المحاصصة، ولماذا لم يقدم بديلاً لها طيلة الفترة الماضية بعد تكشف حقائق عن فسادها وعجزها عن أداء مهامها.
وأما الطرف الآخر فقدم مبرراً بشأن حدوث فراغ عند حل المفوضية لكنه لم يقدم تفسيراً لسبب عدم طرح بديل لها اذا كان قد أقر بفسادها وعدم كفاءتها.
ولو كانت هذه القوى المتنفذة بطرفيها المؤيد والمعارض لحل المفوضية جادة بالفعل في التوصل الى حل ينسجم مع المصالح العليا للشعب والوطن كما تدعي لكان يفترض إجراء مراجعة جذرية للنظام الانتخابي عبر تعديل قانون الانتخابات المجحف وتشريع قانون للأحزاب ووضع أسس لاعادة تشكيل المفوضية تقوم على النزاهة والكفاءة بعيداً عن المحاصصة الحزبية والطائفية والاثنية.
ولا ريب أن واقعة الخميس الماضي تندرج في إطار "الأزمات" التي اختلقتها وافتعلتها القوى المتنفذة خلال الأسابيع الأخيرة بذرائع مختلفة لصرف الأنظار عن جوهر أزمة الحكم والدوافع والغايات الحقيقية وراء مواقف هذه القوى من قضايا راهنة خطيرة بينها ترشيق الحكومة، والموقف من ميناء مبارك، والاعتداءات الايرانية على المناطق الحدودية في كردستان، والتجاوز على الموارد المائية من قبل الجيران.
وتضيء هذه الواقعة وسواها الحاجة الملحة الى تطوير الحركة الاحتجاجية وإغناء مضمونها الاجتماعي بطرح النظام البديل لهذا الوضع المزري الذي آلت اليه العملية السياسية بالأسس التي قامت عليها تمشياً مع إرادة المحتلين والحكام المتنفذين وعلى الضد من إرادة الشعب وتطلعاته.
وهذا البديل الوطني الديمقراطي الذي يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية عصرية تقوم على مبدأ المواطنة وتكفل العدالة الاجتماعية لجميع المواطنين دون تمييز .. هذا هو السبيل الوحيد لاخراج البلاد من أزماتها الخانقة وإنقاذها مما يحيق بها من مخاطر جدية تهدد باعادتها الى دوامة العنف الطائفي والاقتتال الداخلي وتفسح المجال لقوى الارهاب والاحتلال لمواصلة استنزاف بلادنا وتحقيق الغايات الخبيثة.
ولا أمل في التغيير والخروج من هذه الحلقة المفرغة الراهنة الا عبر تغيير توازن القوى السياسي والاجتماعي، وهو ما ينبغي أن تنهض به قوى التيار الديمقراطي أساساً عبر نضال مديد يستند الى القوى الحية في المجتمع وفي مقدمتها الشباب والنساء وسائر القوى الطامحة الى التغيير.
* * *
على الرغم مما يبدو ظاهرياً من خلافات بين القوى المتنفذة مستعصية على الحل، فان هذه القوى، المتواطئة في تأبيد الوضع الراهن ومده بأسباب البقاء، تلتقي، كلها، في الرغبة الجامحة لادامة نفوذها وتقاسمها الغنائم ومواقع السلطة واالنفوذ والمال، واستهانتها بآلام الناس.
من مأساة "التغليس" عن معاناة ملايين المحرومين الى ملهاة التسييس حفاظاً على امتيازات المتنفذين .. هذا هو مصير بلاد يتصارع فيها المتحالفون و"الخلاّن" وتنحجب فيها الرؤية عند "سياسيين" ناظرين وعميان، لا يبرعون إلا في نهب أو بهتان، وهم يخشون أصوات احتجاج "الصبيان" و"النسوان" !