|
ما بين الخبز الأيزيدي والخبز السومري تنور وحكايات من نور
مراد سليمان علو
شاعر وكاتب
(Murad Hakrash)
الحوار المتمدن-العدد: 8182 - 2024 / 12 / 5 - 14:11
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يرمز الخبز الى الزراعة والاستقرار، بل الى التعقيد الحضاري. تتطلب صناعة الخبز كما لا يخفى قدرا من الاستقرار والتعقيد. الخبز والماء يمثلان جوهر الحياة، وأقوال السيد المسيح تأكيد على هذا الكلام (بالنسبة للشخص المسيحي). ـ أخشى أن يأتي مربع الرأس ويتهمنا بما تمتلئ جعبته من أحقاد دفينة. هنا نقتبس من أقوال السيد المسيح: "انا هو خبز الحياة ـ ليس بالخبز وحده يحيا الانسان" وجاء في الصلاة الربانية للمسيحي: "أعطنا خبزنا كفافنا اليوم ...". وفي طقس العشاء الاخير اخذ يسوع خبزا وشرابا وتناولهما واعطى لتلاميذه، كنوع من القربان المقدس، وهي تمثل الاتحاد الرمزي بجسد ودم المسيح، وطبعا هي الشراكة الدائمة مع المسيح. في مزار لالش توجد صومعة خاصة بالخبز (خبز من النوع الرقراق). يأخذ بعض الحجاج من هذا الخبز للتبرك وللتشافي من بعض الأمراض، ولجلب الحظ. يعتبر مقدسا كما (البرات) ومثل المزار نفسه. يقال إن كل شيء موجود ضمن حدود وادي لالش يكون مقدسا، لا تتعجب فهكذا هي الأديان. يقول الباحث البغدادي الراحل وليد عطو: " السومريين توصلوا الى صناعة الخميرة في حدود العام (2600) قبل الميلاد، حيث يحتاج عمل الخميرة الى مهارة. ولقد تم اكتشاف صناعة (12) نوعا من الخبز في مدينة (ماري) في القصور الملكية عن طريق الالواح الطينية". مازلنا نحن الأيزيديون نحتفظ بعمل بعض من تلك الأنواع. يقول الدكتور فالح مهدي في كتابه: ((البحث عن جذور الاله الواحد: في نقد الايديولوجية الدينية) - اصدار – دار العودة – بيروت – توزيع: دار ومكتبة الجواهري – بغداد – شارع المتنبي): "...يكشف العهد القديم منذ البداية من أن الخبز مرتبط بالأرض ومرتبط بالعمل؛ لذا نجد التأكيد عليه في كل التراث الديني والاسطوري لبلاد الرافدين". علاقة الاقوام البدائية بالخبز تمثلها الحكمة الأكدية التالية: (يجهل القلب خبز التنور، وتجهل المعدة طعم البيرة). جميل، أليس كذلك!!! لننتقل الى ملحمة كلكامش ما دمنا في العصر القديم، فهي، أي الملحمة تقدم لنا صورة متميزة عن الخبز والبيرة اللتان تمثلان ثقافة المكان بامتياز: ...ثم شقت (البغي) لباسها شقين، والبسته بواحد منهما واكتفت هي بالثاني، وامسكته من يده وقادته كما تفعل بطفلها.. واخذته الى مائدة الرعاة، الى موضع الحظائر فأحاط الرعاة به فلما وضعوا امامه خبزا تحير واضطرب، وصار يطيل النظر اليه اجل لم يعرف أنكيدو كيف يؤكل الخبز ولم يعرف كيف يشرب الشراب القوي ففتحت البغي فاها وخاطبت أنكيدو: (كل خبزا يا أنكيدو، فانه مادة الحياة...). يعقب الدكتور فالح مهدي في كتابه المهم: "شمس وهو إله العدل يرشد أنكيدو في لحظات احتضاره الى الطريق السليم". يقول كاتب المقال مراد سليمان علو: ما نزال نحن الأيزيدية عندما نخرج من البيت: نمدّ يدنا الى ذقننا وننظر الى جهة الشمس ونطأطئ قائلين: (يا شيشمس تو رى به ري). وتعني العربية حسب الدكتور خليل جندي: (أنت الدليل يا شيخ شمس). الخبز يتقدم كل شيء، فلا حياة مدنية دونه. وفي التعبير العراقي نقول (بيننا خبز وملح). ومن عجائب الدهر حين يخون الجار والصديق وكريف الدم، عهد الخبز والملح. وهذا ما فعله بنا جيراننا في الثالث من آب (2014). يضيف الدكتور فالح مهدي قائلا: "تقديم الخبز مع اللحم في حضارة وادي الرافدين، على مائدة الأرباب التي يقدم لها هدايا ونذور. ففي وجبة الطعام التي تقدم للموتى تقوم كل عائلة سومرية بتقديم الطعام الذي يتضمن خبزا الى الميت وتشارك بطبيعة الحال في تناول ذلك الغذاء". وأنا أقول ما زلنا نمارس هذا الطقس، فعند قدوم السنجق، وعندما تقدم العائلة طعامها المتمثل (بذبيحة كاملة) قربانا الى (رب العائلة) أي ما يسمى بالكرمانجية بـ (الخودان) ليأكلها الناس المتجمهرين حول السنجق للتبرك، يقوم (القوال) بلف رأس الذبيحة برغيف خبز (عادة يكون خبز صاج) ويقدمها لرب الأسرة، قائلا: "ليقبلها الملك سالم". والذي يرجعها لأسرته ويتناولونها معا. من هو الملك سالم؟ لنعرج الى الوقت الحاضر فنرى أن بعض عاداتنا القديمة، والتي أوجدت لتبقى كما يبدو. ويصّر المجتمع على الحفاظ عليها وعلى الأغلب يتحمل مسؤولية الترويج لذلك كبار السن عن طيب خاطر، ويمكن القول أيضا إن المجتمع هو الذي يسلط على أبناءه إيحاءً فيما يخص بعض الاعتبارات الاجتماعية أو العادات؛ ليشلّ قدرته على فرزها أو تجاوزها لأسباب عديدة، فيكون التفكير باتجاه معين بالذات، وبالتأكيد لو نشأ هؤلاء في بيئة أخرى لكانوا أناس مختلفين مع اعترافنا من وجهة نظر ثالثة بأن الكثير من هذه العادات والتقاليد نشأت ونمت من جراء ما نسبغ عليها من قدسية، مثل الزاد مثلا، والزاد عندنا هو كلّ أنواع الحبوب ومشتقاته، وأشهره في حوض جبل شنكال الحنطة (القمح) والشعير. الجريش (البرغل). الدقيق (الطحين). والخبز بأنواعه، وخاصة الخبز، فهو مقدس جدا وهو أوّل شيء يمدّ إليه يد الصائم عند الفطور ليقبّله ويتبرّك به بعد الدعاء أمام بقجة (البرات)، والبعض الآخر يفعل ذلك في الأيام الاعتيادية أيضا عند الانتهاء من وجبة الطعام دلالة على الشكر والامتنان لنعمة المولى، وعندنا أيضا يقدم الخبز عند كل وجبة، ودائما تجده على المائدة، حتى في العصريات المخصصة لشرب الشاي على الطريقة الإنكليزية. والخبز أنواع تحدده المناسبة المعينة وكذلك نوع الطعام، فان كان ثريدا، يفضل تهشيم الخبز اليابس. وربمّا الحاجة لعدم التفريط بالخبز اليابس أوجدت تلك الأكلة إلى إن أصبحت مشهورة ومفضلة لدى الجميع، وباتت تطبخ حتى في حال عدم توفر الخبز اليابس. وليس بالبعيد تكون قد اشتق منها لاحقا كما نرى أنواع التشريب والباجة والمرق وحتى الشوربة. وإذا كانت المناسبة تتطلب حضور العشرات من الناس المدعوين كحفلات العرس والختان يكون خبز صاج، ويقال فلان مثل خبز الصاج؛ أي ذو وجهين في تعامله مع الناس، وللغموس يفضّل خبز التنور الطازج وطبعا (الحنونة) تكون عادة من نصيب آخر العنقود، ولو أصيب أحد أفراد العائلة بوعكة صحية، أو نزلة برد فيصنع له رغيف محشي بالبصل والسماق ثم يوضع عليه دهن حر. في أيام الربيع الجميلة إذا قدر لك زيارة بيت أحد الرعاة في منطقتنا فسيقدمون لك على الفطور نوع خاص من خبز الصاج مع الزبدة والحليب الطازجين وكذلك السكر أو الدبس أو عسل التين، ويترك لك حرية خلط المقادير حسب ما تشتهي، وتأكد إذا ما خلطتها بكمياتها المناسبة ستكون وليمة لا تنسى. في فصل الشتاء عندما كنا نسكن شنكال قبل الرحيل في عام 1975 كان صمّون أبو رائد من فرنه الحجري هو المفضّل صباحا ولكنه هاجر إلى أوربا لاحقا، وتحوّل الفرن إلى محل باهت لبيع الملابس الجاهزة، وبمناسبة ذكر الشتاء فلا شك إن في جبال كردستان أيام زمان كانت ألذ وجبة على الإطلاق هي شوي الخبز على نار متأججة. وهناك خبز النذور في الجنوب الحبيب يسمى بخبز (العباس) وعندنا عادة يكون معه شيء من الدهن الحر أو ما يسمى بالسمن البلدي، ويوجد خبز بنوعية مميزة جدا ويعمل في مناسبات خاصة مثل الخبز المقدس (خوره) وكذلك الخبز الخاص بالأعياد وهي أقراص مدهونة وصغيره نسبيا تسمى (صووك) تؤخذ إلى القبور عند زيارتها وتوزع صدقة عن أرواح الموتى. والخبز المفضل في معظم قرى ومدن شرقي دجلة هو خبز (الرقراق)، ويتميز هذا النوع بإمكانية المحافظة على خواصه الغذائية دون أن يتعفن لأيام عديدة نظرا لإعداده وخبزه بطريقة خاصة. يبدو إن لكل مجتمع خبزه الخاص به وفي المدن الكبيرة. الآن، يختلف مفهوم التسويق The marketing عما هو متداول في الأرياف والقصبات حيث يمكن للفرد أن يتسوق shopping النوع المفضل لدية مثل الخبز اللبناني أو التوست الفرنسي من الأسواق المركزية super market دون أن يعرج على فرن المحلة مثل أيام زمان وينتظر دوره مستمتعا بأداء الخباز وحركات يديه وهو يخبز. عادة نرى في الأفلام الأوربية عندما يأتي البطل ويدخل شقته يحضن كيسا ورقيا تبان رؤوس نوع طويل من الصمون الفرنسي، وما أن يضع الكيس حتى يقضم إحداها بتلذذ. وللخبز اعتبارات أخرى غير تلك المتعارف عليها كمادة غذائية أساسية، وقد يحلف أحدهم بالخبز، فالأيزيدي يضع (البرات) على رغيف من الخبز ويقسم به كحل أخير لتفادي مشكلة عظيمة، وكذلك المسلم في منطقتنا قد يرفع قطعة من الخبز قائلا: قسما بهذا (القرآن). ومن لا يصدق القسم بالخبز فهو كافر ومارق وربما شوي بنار جهنم كما الخبز المسمسم المكصب. يحكى إن أحدهم كان قد أدمن على المراهنة في سباقات الخيل (الريسس) في بغداد وكان الحظ لا يحالفه أبدا، وعندما ينتهي السباق يبدأ بالسبّ والشتم واللعن، وفي يوم ما خسر الرهان كالعادة ولكنة بقي صامتا وعندما سألوه عن سرّ سكوته أشار بسبابته إلى الخبز الذي يدوس عليه و(يعجقه) بقدمه مبينا إن الكفر نطقا لم يعد يشفي غليله. قد تكون هذه القصة غير صحيحة وخيالية، ولكن كما لا يخفى فهي تبين أثر الخبز في الأخلاق والنظام الاجتماعي وربما السياسي أيضا فهناك ثورات وانتفاضات باسم الخبز. ومن طريف ما يذكر عن زمان عبد الكريم قاسم انه كان في جولة تفقدية لأحوال الناس في العاصمة بغداد يوما ما وعندما دخل إلى فرن شعبي لعمل الخبز رأى صورة كبيرة له معلقة على الجدار، فقال للخباز مازحا: "صغرّ الصورة وكبّر الرغيف". برأي إن الكبار قبل الصغار بحاجة إلى أن نشرح لهم إن الخبز كان عجينا والعجين كان دقيقا والدقيق كان مجرد حنطة وهو نبات ولا ضير إن لم تقبّله وتقدسه، وربما كان السبب الرئيسي لنشر هذه الثقافة الاجتماعية والتي هي قاب قوسين أو أدنى من الفروض الدينية هي نتيجة الحروب والغزوات والفرمانات علينا وتسبب ذلك بمجاعات متتالية وحصدت أرواح كثيرة وعندما زالت الغمّة لم تزول آثارها النفسية والاجتماعية فبقي هاجس الجوع والحاجة لتوفير الخبز كمادة غذائية رئيسية وأساسية تشغل بال المجتمع وربّ الأسرة، والى الآن. ومن سوء الحظ أعيدت التجربة ثانية وقد مررت بها شخصيا في الأسبوع الأول من غزوة (داعش) علينا وهروبنا إلى الجبل فقد عانينا كثيرا من العطش والجوع، وسقط العشرات من المرضى والمسنين والأطفال. وبعد خلاصي واستقراري في ألمانيا أقف أحيانا قبالة دكاكين الخبز وأفرانها في المدينة التي أعيش فيها، وأتأمل أنواع الخبز والمعجنات والحلوى، وأتبين أسمائها، وكأنني أرافق هانس وكريتل في مغامرتهما إلى بيت الحلوى الشهير، ودون كل الأنواع تبحث عيناي بعفوية عن خبز التنور الشنكالي العراقي ولكنني لا أجده هنا.
#مراد_سليمان_علو (هاشتاغ)
Murad_Hakrash#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهمية أن تكون حمارا
-
الديوان المشترك (شيء مفقود من هذا العالم) SOME THING MISSING
...
-
الميتاشعرية في ديوان (يقول النهر أنت أبني) للشاعر فارس مطر
-
سؤال وجواب/2
-
سؤال وجواب/1
-
الفرح المتأخر يغمرني أيضا
-
ماذا لو
-
عميقا في سيكولوجية الجماهير
-
جيش الثلاث ضفادع
-
حكاية ينبوع
-
كتابات على جدران المجتمع
-
الفرمان الأخير
-
في فهم جديد لنيتشه
-
ثلاث أغاني
-
طفل الاله المدلل
-
الليلة الأخيرة في المخيم
-
عليّ الوردي وعنصريته ضد مكونات المجتمع العراقي الأيزيديون أن
...
-
بتلات الورد 4
-
الاسرة في المجتمع الايزيدي الالماني
-
من وحي الفرمان
المزيد.....
-
الصين تكشف عن أحدث قطعها الحربية.. واحدة من أكبر سفن الهجوم
...
-
تسجيل أقوى الزلازل في تاريخ هلسنكي يوم عيد الميلاد
-
مصر.. الفيشاوي يثير الجدل بتصريحات عن التاتو والحلق ويؤكد: و
...
-
موسكو: الاستخبارات الأمريكية والبريطانية تحضران لاستهداف الق
...
-
إيران تتجه نحو أزمة وعلى روسيا الاستعداد لذلك
-
وفاة أكبر معمرة في إيطاليا
-
صحيفة: الجيش التركي سيدرب الجيش التشادي بعد قطعه التعاون مع
...
-
الإمارات تدين حرق مستشفى كمال عدوان: عمل شنيع ينتهك القانون
...
-
شولتس: لدي انطباع بأن ترامب يشاركنا قناعتنا بشأن إنهاء النزا
...
-
مقتل ضابط في الحرس الرئاسي الفلسطيني باشتباكات جنين (صورة)
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|