أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - مراد سليمان علو - سؤال وجواب/2















المزيد.....


سؤال وجواب/2


مراد سليمان علو
شاعر وكاتب

(Murad Hakrash)


الحوار المتمدن-العدد: 8169 - 2024 / 11 / 22 - 20:50
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


ـ جميل، اختصار قيّم، وغني جدا لكل هذه المراحل الزمنية التي لامست فيها الجمال، والحزن، والتعب أيضا، شكرا لهذه التفاصيل الدقيقة التي تمس روح الإنسان والإنسانية.
والآن ذكرت الأماكن وبعض الأحداث والأشخاص، هنا أود أن تتحدث لنا عن (الحبّ) حبّ الوالدة الذي أتشوق إلى معرفة تفاصيله وكيف كان، حبّ الأم الذي لا يضاهيه حبّ كما يقولون، ثم، الحبّ الأول، وهل كان، وكما هو معروف في اغلب الأحيان، ابنة الجيران؟ أم فتاة مجهولة، أحببتها ولم تلتقي بها يوما؟ متى دق قلب مراد لأول مرة؟ وهل مازال ذلك الحبّ مدفون بين طيات قلبك؟ أو إنك لم تكن ذلك الشاب الذي يحب بسهولة، وكنت في مرحلة صباك مشغولا باكتشاف العالم من حولك؟
ـ من الرائع أن أعود بذاكرتي إلى الوراء ثانية، إلى حضن أمّي التي لم أفارقها إلى أن توفاها الله، حتى بعد زواجنا نحن الأخوة الثلاثة وانفصالنا عن بعضنا وتفرقنا في دنيا الله الواسعة، كان طلبي الوحيد أن تكون أمّي معي، وهذا ما حصل، بقيت معي وكنت محظوظا بوجودها قربي إلى أن ماتت مطمئنة وراضية عني.
والآن، تعتريني رغبة، ولهفة مفاجئة لأختبئ في حضن أمّي من جديد؛ ليخفق قلبها ثانية وتمسك بيدي ونطوف في أرجاء البيت، بيوتنا العديدة: في السكينية، وفي شنكال، وفي سيباى. تلك البيوت التي كان دائما طائر السنونو ضيفا علينا، عيون السنونو السوداء تشبه عيون أمّي، وحزنها مأخوذ من حزن أمّي، أصنع قباب كهولتي العالية من حزن عيون أمّي الأعمق من حزن عينيّ (سريديفي)، ومن (حبة الأسبرين) الصباحي التي كانت تأخذها، وأتسكع في شرايينها لأمنع عنها ذبحة صدرية ثانية. أمّي التي كانت أبسط من عشاء فقراء عشيرتي، وأكثر دفئا من ثغاء الحملان.
أمّي وحدها التي لا تزال تبكي على ضحايا (الفرمان الثالث والسبعون). وهي الرشا التي تركض من بيدر إلى آخر، ومن قرية إلى أخرى، وترتدي زبونها الأبيض الأجمل من ساري أنديرا غاندي؛ لتستكين أخيرا في حضن أبي.
أمّي كانت ذاكرة (سيباى) وذاكرة (السكينية) و(شنكال)، كانت ملح سوالف ما قبل النوم، والآن هي مرآة المقبرة وذكريات أرجوحتي في العيد. أمّي كانت دعاء القرية، وماعون لبن الغنم الصباحي للجيران.
كانت رؤية أمّي وهي تشوي لنا حبوب القمح في (عيد خدلياس) فرصة للمتعة، متعة مراقبة أيديها ومتعة تناول الحبوب كانت تشبه مراقبة سنونوة وهي تطعم فراخها. السنونو المدهش الذي يبني عشه باللعاب والطين. إن طين عش السنونو يوازي (البرات المقدس) جمالا. العش الذي بني في بيتنا ذات صيف لم يكن عاديا، كنت أشعر بالاطمئنان وأنا أتأمله لساعات، وما زلت في كلّ موسم أحاول الحصول على تأشيرة للهجر مع السنونو، لا أنا أحصل على مبتغاي، ولا أسراب السنونو تنتظرني.
في صغري كانت أمّي تضع تحت وسادتي (مقصّا) قبل أن أنام، وكانت تقول: سيبعد عنك الأحلام السيئة والكوابيس المزعجة، حتى موعد عيد (بيرى آلي) القادم وحينئذ ستحصل من (بيت البير) على خيطك الملوّن (صائد الأحلام) الذي سيبعد عنك كلّ الأشياء السيئة لعام كامل.
قرانا كانت تصنع ابتساماتها من المطر والوحل، وتصدّرها ضحكة الشمس للعالم البارد، هكذا كنا نحن أيضا، نبتسم مع أوّل زقزقة عصفور يعلن عن قدوم الفجر، وعند صياح الديكة، ونباح الكلاب، وكأنها تدعو الأمهات أن تشعل تنانيرها، وتهز ذيولها بفرح للحصول على الرغيف الأول.
أمّي أيضا كانت تبتسم، وهي تقدم الخبز للكلاب، وتقول:
" قتل الجوع في الصباح الباكر، هي الجريمة الوحيدة التي لا يحاسبنا عليها (الملاك الكبير)".
هكذا كانت أمّي كما آلاف الأمهات في قرانا.
بالنسبة للشق الثاني من السؤال، نعم أحببت بنت الجيران، وكتبت إهداء في بداية كتابي الشعري (عشتار بيد واحدة) أقول فيه:
"إلى صديقيّ الراحلين حسن دربو وقاسو كلّي:
(كنتما عينايّ، اللتان أختلس بهما النظر لبنت الجيران، أيام الصبا)".
في الحقيقة القصة كانت في زمن الطفولة وليس في وقت الصبا فعندما نجحت في امتحان نصف السنة، الصف الأول ابتدائي (تصوري الأول ابتدائي) وجاءت العطلة الربيعية ولم تفارقني قراءتي. احملها معي عندما أرافق أمي في زياراتها للجيران، وخاصة جارنا (حمو) ـ والجميع ينادونه حموكا ـ الذي يحكي لنا قصص شيقة في الليالي الطويلة ونحن مجتمعين حول نار الحطب في مدفأتنا الكبيرة نشوي الخبز ونشرب الشاي وغالبا ما يكون هناك دهن حرّ أو راشي في آخر الليل أما في النهار فدائما كنت أتمنى لو يكون أطول؛ لألعب أكثر مع أصدقائي واقضي وقتا أكثر مع ابنة جارنا الذي يروي لنا قصص الحبّ والمغامرات والجان في الليل.
ثم وجدت نفسي اذهب لوحدي من أجل (ليلى) ابنة جارنا الطيب نصعد معا إلى سطح دارهم، واقرأ لها في كتابي، وأريها الصور الملوّنة. وتعلقت بليلى، (ليلاي)، وكانت قصصي المفضلة في الأمسيات هي تلك التي يذكر فيها اسم ليلى. نلتقي كلّ يوم. نلعب معا، أو نركض حول البيوت، ونجوب أزقة القرية ممسكا بيدها، أو مطاردا إياها، وما أن امسك بها حتى أغرق في عينيها السوداوين بينما صدرها يعلو ويهبط، ويكاد قلبينا الصغيرين يطيران مع عصافير القرية، وسنونواتها. وعلى غفلة تسحب يدها وتقول: (جاف هشين ـ أبو العيون الزرقاء) وتركض، واركض خلفها ثانية.
وهاأنذا، في السادسة من عمري تقريبا ويفتح الحبّ قلبي بمفاتيحه الملّونة وتدخله ليلى، وتمر الأيام كقراءة درس ممتع من الصف الأول الابتدائي.
هل كان حبّا؟
كل ما اذكره إنني كنت أرغب أن أكون دائما بجوارها. ومن لا يذكر الأيام الأولى والساعات الحلوة بانفعالاتها المدهشة للصبية الأولى في حياته.
لم يكن حبّا كما تتصورنيه أنت، كانت رغبة قويّة في البقاء بقربها. وربمّا كان أقوى من الحبّ.
ومثلما ظهرت ليلى على حين غرة غادرت أيضا على غفلة، فقد أصابها مرض مفاجئ في أذنها، وأصبحت طريحة الفراش، ولم تنهض منه ثانية.
كنت اجلس بالقرب منها في مرضها. تنظر إلي بعينين ذابلتين، وكأنها تطلب منّي أن أنجدها؛ لنرجع نلعب من جديد. ولم أكن اعلم بأنني سأكمل اللعب من دونها وستبقى تراقبني من الأعلى تبتسم لي أنّى ذهبت.
منذ رحيلها وأنا ابحث عنها: في الكتب، وقصص الأميرات المصورة. في الحكايات والأساطير، وعند الغجر، في المدارس وعلى الأرصفة، وفي المهرجانات وفي كل مكان اذهب اليه.
كيف ماتت بهذه السرعة؟ ولماذا ماتت؟ ألم يكن بالإمكان إنقاذها؟ لماذا لم ينقذها أحد؟ لماذا لم أنقذها أنا؟
ليلى البريئة ذهبت إلى مكان ما ولا أجد الدرب إليها. ولم يبق منها سوى ذكرى أليمة في روحي، وقبر صغير يحضنها في مقبرة (كرى كور) في قريتنا السكينية.
الحبّ الذي ترسله العيون بتساؤلاتها يبقى لا مثيل له، ومن عيون ليلى تعلمت الحبّ، وتعلقت بأهداب عيونها. ربّما لأنني فقدتها مبكرا، ولا يزال حزن فراقها أقوى من سرور العثور على أخرى.
وأصبح المكان المفضّل لدي أن أكون قريبا من مقبرة (كرى كور) حيث ترقد ليلى، أو تلك المرتفعات التي تطلّ على المقبرة. وفي هروبنا الأخير من الفرمان الرابع والسبعون في الثالث من آب عام 2014 وبعد بقائي أسبوعا في الجبل. وفي الليلة الثامنة مررنا بجانب المقبرة، والتفتُ إلى قبرها وقبور بقية أصدقائي وأحبتي للمرة الأخيرة، وكأنني كنت أعلم بأنها الالتفاتة الأخيرة، وتخيلتها تركض بين القبور تبحث عني لتمسك بيدي ثانية، ولا تجدني بين الأموات، ولا أجدها أنا هنا بين الأحياء.
وبدلا عن هذا الخيال كلّه أتمنى أن أكون ولو لساعة برفقة صديق من أيام الطفولة، ونزور معا بيت الجيران الذين أحببت ابنتهم، ونراها واقفة على الباب تنتظر. بالتأكيد من شأن ترتيب بسيط كهذا أن يعيد توازني النفسي، ويعدّل من مزاجي المعكر ويذهب خوفي ويجعلني مستعدا لقبول شروط (عباس بن فرناس) لأكون رفيقه في جولة الطيران التالية.
لا تزال تسكنني نظرات عينيها السوداوين، وفي غفلة من الوعي أحسب نفسي أعانق خيالها، وأحسبها تنتظرني، ولكنها نائمة في قبرها منذ أيام الطفولة.
مكتوب في مذكرات الموت الصفراء، إن (ليلى) الصغيرة اغتيلت في احدى قصائدي قبل وصول ملك الموت، وأدافع عن نفسي أمام فصيل الانضباط العسكري في نقاط تفتيش الجبهة الخلفية قائلا:
" كانت (ليلى) الجميلة ترغب دائما بباقة ورد، وتفضل دوشك نعسان من صوف الحملان، وديوان من الشعر الحديث". بعد هذا الاعتراف لم أسمع بها إلا في القصص التي كانت ترويها (شهرزاد)، وفي مسرحيات (فيروز)، وفي الأفلام الهندية، وعندما أرجع إلى البيت مساء وعلى ضوء الفانوس أكتب لها رسالة أذكرها بالطاحونة المائية القديمة وبساقية القرية وبالضفادع الخضراء التي كانت تلاعبها. ويردّ عليّ الانضباط بصوت أعلى من صوت مذيع التلفزيون (مقداد مراد) عندما كان يقرأ (بيان البيانات) في (8/8/1988):
ـ ما كان لك أن تزاحمها في التمدد على مطرحها الصوفي في حضرة القمر.
ـ لم أرغب في الاقتراب منها، ولكن شهوتها في قراءة الشعر جذبني إليها، وإن كنت لا تصدقني، فأسأل القمر، فنفس الشهوة تجعل البحر يبكي عندما يقترب منه.
وبعض الشوق إلى حكايتنا تلك، هي أسماؤنا، فلم ننادي على بعضنا بالاسم المجرد. بل يجب أن يكون أسم الأب مضافا، ربمّا خوف الضياع في بيادر القرية وقدوم (الغول) الذي يخطف الأطفال، ولكنني دوما كنت أنادي (ليلى) باسمها فقط ووعدتها بالحفاظ عليها من الضياع في زحام (عيد الجماعية) عندما تتصاعد الهلاهل، ويحين موعد جلب (البريات) الملونة، ويشارك الجميع الدبكة، وكأننا كنا نسير في صفحات رواية فانتازية بقلم (تولكين).
عشنا معا أنا وهؤلاء الصغار طفولة مليئة بوغف حليب الغنم في الربيع، وخبز الشعير الأسمر كماركة مسجلة لبؤسنا وفقرنا، ومع الكثير من الشاي مقابل شظايا حادة لأصدقائي من حروب الوطن المستوردة، وموت مبكر لأبنة الجيران (ليلى)، ولا حقا تأشيرة لي لدخول ألمانيا.



#مراد_سليمان_علو (هاشتاغ)       Murad_Hakrash#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سؤال وجواب/1
- الفرح المتأخر يغمرني أيضا
- ماذا لو
- عميقا في سيكولوجية الجماهير
- جيش الثلاث ضفادع
- حكاية ينبوع
- كتابات على جدران المجتمع
- الفرمان الأخير
- في فهم جديد لنيتشه
- ثلاث أغاني
- طفل الاله المدلل
- الليلة الأخيرة في المخيم
- عليّ الوردي وعنصريته ضد مكونات المجتمع العراقي الأيزيديون أن ...
- بتلات الورد 4
- الاسرة في المجتمع الايزيدي الالماني
- من وحي الفرمان
- حوار
- أناشيد أيزيدية
- الأربعاء بين مطرقة الجمعة وسندان الأحد
- اطلقوا سيقانكم للريح


المزيد.....




- القتلى صبي و4 نساء وأين المشتبه به السعودي الآن؟.. الشرطة ال ...
- الصين تبني أكبر مطار في العالم على جزيرة اصطناعية
- لبنان.. الاعتداء على عناصر أمن حماية السفارة السعودية في بير ...
- مجرة -أضواء عيد الميلاد- تكشف عن كيفية تشكّل الكون
- -نحفر للعثور على بلاط المنزل-.. سوريون يعودون إلى منازلهم ال ...
- الحرب في يومها الـ 443: الجيش يطلب إخلاء مستشفى كمال عدوان و ...
- صحيفة: قطر -ستوقف- مبيعات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي إذا تم ...
- مستشار السيسي يعلق على موجة الإنفلونزا التي تقلق المصريين
- -البديل من أجل ألمانيا- يطلب عقد جلسة عاجلة للبرلمان على خلف ...
- دراسة: الذكاء الاصطناعي قادر على الخداع والتمسّك بوجهة نظره ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - مراد سليمان علو - سؤال وجواب/2