|
جولة مع الروائي راسم الحديثي
عبدالحميد برتو
باحث
(Abdul Hamid Barto)
الحوار المتمدن-العدد: 8132 - 2024 / 10 / 16 - 18:12
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
تَكَشف لي من الفقرة الأولى في رواية الروائي راسم الحديثي القصيرة جداً، أن الكتابَ تمكن من أدوات صنعته بمهارة فنية عالية ومواقف ناصعة الوضوح. أعني تجسدت المهارة بقوة النبض وتدفق السرد. يقول هذا عصرنا عصر الصدمة والترويع. يُقدم لنا الكاتب بطل الرواية "فتحي" منسجماً بمرارة مع طابع عصره الراهن، أي إنه يواصل الحياة فقط، لكنه يقف في الطرف المقابل والمضاد شعورياً. في لحظة مفاجئة "تفجرتْ بواطنُه كأي عمارة فلسطينية اخترقها صاروخ إسرائيلي على حين غفلة، ليس من السهل أن يهيكل، ويرتّب تلك الدواخل حين تعسّرت عليه لملمة العتيق العربي منها مع الجديد الأمريكي...". لم يكتفي الكاتب بهذا، بل أضاف إلتماعة أخرى تُلمح الى أن فتحي يعيش في ديار الغربة.
منذ البداية تأمل بطل الرواية أو محورها الرئيس في واقعه الجديد ـ أرض الغربة. حاول اقناع نفسه ولاحقاً عائلته بما ذهب إليه. طرح مقولة منطقية: لا يتجرع الإنسان السّوءَ إلا تحت وطأة الأسوأ. فرض الواقع الجديد عليه إجراء مقارنة، بين ماض يخلد في بنائه النفسي الداخلي والتاريخي، وبين واقعه القائم في ديار الغربة. يبدو أن مثل هذا تقويم حالة طبيعية تمليها حالات: الإغتراب، الهجرة، اللجوء... سمّها ما شئت. ينشأ في الوضع الجديد نوع من التناحر المرن. تداعت صور ماض تليد متأصل، ولكن أصابه بعض الصدأ. صدأ عاجز عن إخفاء المجد أو الحقائق التاريخية التي يصعب الإطاحة أو الإيقاع بها.
أعرب الأب فتحي المتمسك بالأمجاد والتقاليد العربية عن مخاوفة من المجتمع الجديد. أكثر ما يرهقه هو الخوف على مستقبل العائلة. الخوف من الإندماج المبالغ فيه، أو السير في طريق التطرف والتعصب والإنغلاق. ظل بناء العائلة في البدء كما هو (الأب، الأم، الأبن أحمد والبنت الصغيرة ليلى). لم يُسجل في البدايات شيء جديد، فيما خلى إنضمام القطة الأمريكية "لولو". منحت لولو العائلة حركة جميلة في شقتهم الجديد. كسرت العزلة التي تفرض نفسها على المغتربين الجدد.
يكتشف القارئ في كل محطة بالرواية الهاجس الوطني الإنساني الراسخ للكاتب، و روح التعامل مع الوطن كقيمة كلية مطلقة، لا بديل لها، ولا عوض حقيقي عنها، مهما طال الزمن. كما إن اختيار بيت لجلال الدين الرومي في واجهة الرواية. وهو من بين أبرز أعلام التصوف الفلسفي وأكثرهم تأثيراً ووجوداً فعلياً اليوم أيضاً، خاصة في مجال الأخلاقيات الإجتماعية السمحة. إنه لأمر له دلالة عميقة حول مسار الرواية وأجوائها الداخلية، وأين يقف الكاتب الحديثي وشخوص روايته. من السهل تحديد مواقع وقفات الفحص والتأمل، بين وفي، عوالم التصوف والذوق الجمالي والموسيقى وأنين الإغتراب. يبقى الناي في كل الأحوال أنيس حالات الإشتياق الروحي الحقيقي: إلى أن يحين الوصال فإن الشوق لا ينتهي تراك استمعت إلى حكايا الناي وأنين اغترابه
فرضت الرواية القصيرة جداً في السنوات الأخيرة نفسها على عالم الإبداع الأدبي. خلقت حولها اهتماماً متزايداً جداً. في الواقع هي حالة قديمة في الأدب العربي والعالمي. لكن نالت صفة التجنيس في منتصف القرن الماضي. واجهت الرواية القصيرة جداً تساؤلات بصدد قدراتها على إغناء الحالات الإنسانية عبر الإيجاز. ومدى قدرتها على تجسيد الأفكار والمشاعر والتناقضات وحالات التفرد والتعميم أيضاً. وأخيراً، تمّ الإقرار، بإنها قادرة على تكثيف السرد دون التضحية بالمعنى أو العمق. ذلك ليس بالمهمة السهلة في عمليات الخلق. يقف أو يعتمد سلم الإبداع على درجة تطويع الصعوبات.
ربما الإنتشار الواسع لهذا النمط من الخلق الإبداعي، يأتي إستجابة موضوعية لزخم السرعة في عالمنا اليوم، حيث السرعة تسكن في كل مفاصله و حقوله. برع كاتبنا في رسم وتخطيط عمله بدقة فائقة. توخى البساطة وإعتمد روعة الإيجاز الى جانب العمق وحلاوة التلميح. كان رائعاً في الحكم على الأحداث دون قسوة النغمة أو النبرة المباشرة. هو يأخذ القارئ برقة الى التقويم الذي يريد إبلاغ من خلاله عن وقائع وشخوص روايته. حاول بنجاح أشراك القارئ في زوايا عمله الإبداعي. يدفع دون تكلف بإتجاه الإستقراء والإستنباط والتأمل والتساؤل بيقظة. يطلق خيول وموجات وقدرات الخيال والتخيل.
تتحرك كل عبارة وتحفر عمقها الخاص. الى جانب أنها تدع مجالاً خصباً للتشابك والتعقيد الجمالي. أثار بكلمات محدودة الحالة النفسية لإنسان تتنازعه حضارتين صراع بين قعر الذاكر والحاضر الراهن بما له وما عليه. هنا تكمن أحدى المهارات الفنية التي صاغتها الرواية ضمن ذلك الحيز المحدود من الكلمات. أتقن فن الإيحاء والتلميح ليدع الخيال والواقع يتضافران في ساحة منسجة تارة ومتناحرة في أخرى. تعزز الإضطراب شواهد تاريخية درجت أجيال على السباحة في عوالمها.
بدت لي رواية "محنة لولو" بناءً منسجماً يحمل معظم أركان ومقومات الرواية القصيرة جداً الأساسية المتفق عليها: الإيجاز الشفاف، الجرأة المحببة، الإيقاع والنبض السريع، وحدة وترابط التكوين، السخرية المعبرة، الإدهاش الواعي، استخدام التأويل الرمزي، أشباع الشخصيات لأدوارها، مهارات الإيماء والتلميح، الاعتماد على خاتمة مؤثرة، اللجوء إلى الأنسنة وطرافة اللقطات.
بديهي أن الدراسات النفسية ـ الإجتماعية لقضايا: الهجرة، الغربة، الإغتراب، المهجر وغيرها الكثيرمن الحالات والظواهر. لم تنل الجهد الضروري المطلوب حتى من زاوية الإحصاء الإجتماعي، لأنها تتطلب فريق أو فرق بحث وعمل، حيث لكل واحدة من تلك الحالات أنواع وظروف وأهداف وشخوص متنوعة وإنتشار مكاني. إن الهجرة العراقية أو من العراق حديثة العهد نسبياً. ربما لهذا لم تنل الكثير من الإهتمام والدرسات. لكن من بديهي أن تظهر أعداد غير قليلة من الإعمال الفنية وابداعية الموسومة، تحت تأثير سعة وعمق تلك الظواهر. على النطاق الإبداعي الفني، فالأمر مختلف، حيث تحققت منجزات على نطاق واسع نسبياً كماً وكيفاً. يساعد في ذلك أن طبيعة التناول الفردي الإبداعي للظواهر عبر الشعر، الرسم، الرواية بكل صنوفها وغيرها ممكن دائماً. إنها أعمال تقوم على المبدع الفرد: الشاعر، الروائي، والتشكيلي وغيرهم.
عصفت التحولات لاحقاً بوقع شديد على بطل الرواية وعائلته، عند انتقالهم الى شيكاغو. تلمس فتحي مفارقة عجيبة و ملحاحة. إندلقت إشارات الصراع الداخلي بين الماضي واللحظة الراهنة. أبرز ما يواجهه مسؤوليته، في الحفاظ على قيم العائلة المتأصلة في أعماقه وقيم من وصفهم بالكفرة. فرضت الحالة النفسية والشروط اجتماعية أن تطرح نفسها على فتحي دون استئذان، بأن يُطلق وصاياه لابنه أحمد وابنته ليلي، بإتجاه الحفاظ على القيم الموروثة.
بديهي بأن يكون جواب الأبناء: لا تقلق يا أبي. لكن الوالد وهو يسطر وصاياه، يداهمه سؤال متوقع من الأبناء: إذن لماذا ذهبنا الى شيكاغو؟ في الواقع أن الكاتب إنتزاع هذا السؤال من القارئ. فلم يطول الإنتظار للإحساس به. تجلى ذلك عندما برر فتحي سبب إنتقالهم الى شيكاغو. قال: بعد غزو الكويت تدهورت مجموعة من القيم الإجتماعية في البلاد. خفت على عائلتي بأن يصيبها ما أصاب الآخرين.
نالت السخرية المحببة مكانة تليق بها. فعلى الرغم من إعتراف فتحي بأنه لا يفهم كثيراً في السياسة. لكنه أحابيل تجويع الشعب العراقي من خلال الحصار. جعلت الناس تترقب مطالعات لجان التفتيش. صاغ الروائي الموقف بعبارة بلغية معطرة بالسخرية اللاذعة: "نحن ننتظر شيخ أوكيوس متى يعطف علينا..". وبعد كل جولة لفرق التفتيش ورئيسها "أوكيوس". ننتظر أن يقول الحقيقة، لكنه ما أن "يصل الكويت تراه يصرّح فرحاً: "العراق لم يسلّم كلَّ ترسانته الكيميائية والذرية".. لا وفقه الله، مبرمج لتجويعنا".
عرضت الرواية تحولات كثيرة أصابت العائلة في سكنها الجديد. تمثلت خاصة بتربية القطة الأمريكية "لولو". بدى الأمر وكأنه إقتباس من مجتمعهم الجديد. أعطى تربية القطة مسحة إنسانية للعلاقة معها خاصة مع ليلى. كان خوف الأب على ابنته هو الأعمق. ربما الموافقة على تربية القطة لولو يخفي خلفه قرار الأب، القاضي بحرمان أبنته من سفرة مدرسية. كان لذلك وقع مؤلم على ليلى و والدتها. لم يبقي أمام ليلى سوى طرح سؤال على قطتها الأمريكية: ـ هل أنت حزينة معي يا لولو حبيبتي؟
إستخدم الروائي راسم الحديثي القطة في روايته إستخداماً فنياً جميلاً. وصل حد إطلاق اسمها عنواناً لروايته ـ "محنة لولو". إن طريقة التعامل مع الحيوانات في العمل الروائي تتطلب حساسية وفهماً عميقين لدورها السردي والرمزي. تُستخدم الحيوانات في الأدب كرموز يعبر عن مفاهيم مختلفة، أو كوسيلة لتقديم أفكار وشخصيات. تُستخدم الحيوانات كرموز تعبر عن صفات أو قيم محددة. على سبيل المثال: يرمز الثعلب إلى المكر والدهاء، وترمز الحمامة إلى السلام و القطة ترتبط غالباً بالغموض والحرية. بإختصار تعتبر الحيوانات رمزاً للعلاقة بين الإنسان والطبيعة.
تمتعت القطة لولو بحضور خاص في الرواية. لعبت دورها بطريقة رمزية كشخصية فعلية. وظفت أجمل توظيف بسمات جمالية معتبرة. كما رُبطت القطة في الأعمال الروائية العالمية بالغموض والحرية. هي تؤخذ كرمز للاستقلالية، لأنها تتصرف عادة وفق رغباتها. كانت القطة في رواية "الغريب" لألبير كامو، هي التي تتفاعل مع الشخصية الرئيسية في الرواية بشكل غير مباشر. يعكس الفلسفة الوجودية للرواية، حيث ترمز القطة لعدم المبالاة بالعالم المحيط. باختصار، القطة في الرواية تُستخدم كرمز متعدد الأبعاد يمكن أن يعكس معان عديدة تتعلق بالغموض، الاستقلال، الحظ، القوة الأنثوية، أو حتى الروابط العاطفية.
تخاطب ليلى قطتها: "حبيبتي لولو.. نمتِ مبكرة، وتركتني لحالي، حالي الذي لم يعد يسرّني، عليَّ أن أعترف أمام الأشهاد كلّهم أنني أحببتُ شكيب المغربي...". تبوح لها بكل أسرارها وتوصيها بالكتمان. إن لولو متنفس حقيقي لما يوجع ليلى مما حولها، بما فيه الحب الحقيقي، الذي يفرض نفسه عنوة. ذلك الحب الذي لا تقف في وجهه سدود أو مخاطر. تصدق قول القطة: أعاهدكِ، ليلى، حبيبتي.
يقتنص فتحي لحظات تأمل. على الرغم من صخب الحياة وموجعات الغربة. يشارك زوجته أم أحمد في تلك الهموم، التي تداهمه من وحول الوطن. خاصة تأثيرات الحصارالاقتصادي المروع، الذي فرض على شعب العراق. وقد وصفه بعض محبي بلدهم بسلاح الدمار الشامل. يعترف فتحي لأم أحمد بأنه إنسان بسيط، ولا يعرف كل تشابكات التطورات السياسية. لكنه حين يدقق بما يدور حول العراق، من حشود عسكرية يشارك فيها ذوو القربى يصيبه الخوف والهلع.
يتدحرج الماضي أمامه كالعادة في مثل هذه الحالات. يتذكر بصفة خاصة المحطات الأكثر تأثيراً في حياته. ظهرت أمامه محطة "كي ثري" النفطية، التي تستلم النفط من منابعه العراقية لتصبه في موانئ المتوسط. ليست كي ثري مجرد محطة نفطية، إنها تلة جميلة تطل على وادي حقلان وتكاد تلامس الفرات وبعض المدن التاريخية مثل جزيرة آلوس وغيرها. محطة كي ثري مثال لعمليات إنتقال الخبرات الأجنبية الى الخبرات الوطنية. هي عراق مصغر بكل ما يحمله العراق من تنوع ومحبة صادقة. أدخلت السينما إليها منذ عشرينيات القرن الماضي. يحق لسكان جوارها مشاهدة الأفلام الى جانب سكانها. هي التي إتخذ عمالها قرار الإضراب من أجل حقوقهم. تحوّل ذلك الإضراب الى مسيرة وطنية صوب العاصمة ـ بغداد. كانت تلك المسيرة رياضة نضالية ودرساً تاريخياً لعمال المحطة وللمدن التي مرت بها صوب بغداد. ظلت تلك المسيرة صفحة مضيئة في تاريخ العراق ونضال الفقراء منه بصفة خاصة، لن يطويها النسيان أبداً.
يسرح فتحي مع ذكرياته، لا يريد أن يقطع أحدٌ حبلها. لكن تداهمه أم أحمد بإشارتها الى رقم بيتهم في "كي ثري". تذكر رقم 8؟ إنه رقم بيتنا في كي ثري. تقدم دليلاً على أن ذكريات الماضي لا تغيب بكل جزئياته. يندلع صراع حتى في الذكريات، بين جمال كي ثري وبين مشهد قيام القوات البريطانية عام 1991 بقصفها الى حد سحقها. يتنقل كل أفراد العائلة بين محطات أعمارهم. يبرر فتحي لماذا فكر بالهجرة. يشرح التضارب بين الرغبة في البقاء والحاجة الى الهجرة. وما تمليه ضرورات حماية مستقبل أحمد وهو طالب جامعي وليلي في المرحلة المتوسطة. التذكر ليس وقفاً على أبي أحمد فالزوجة لها ذكرياتها أيضاً. تتذكر حلاوة حياتها المدرسية والإحترام المتبادل بين الطالبات والطلاب.
بدأ فتحي وعائلته طريق الهجرة قبل أن يبدأ غزو أمريكا وحلفائها للعراق. يلاحظ بلوعة ما حل ببلاده على أيدي الغزاة. يستعيد بمرارة القصف الذي أصاب محطات توليد والكهرباء وإسالات المياه والجسور، سرقة البنك المركزي والمتحف الوطني، مظاهر الفرهود وغير ذلك. تحل عليه كوابيس مرعبة، حين يتذكر قصف ملجاً العامرية والقتل الجماعي للمدنيين الأبرياء. بات ملجأ العامرية متلازمة الشقاء بالنسبة لفتحي عند الإختلاء مع الذات.
لمست الرواية وضع ومعاناة المرأة من خلال موقف فتحي، القاضي بمنع إبنة من المشاركة في رحلة مدرسية. فالحوار الذي دار بينها وبين معلمها يعكس التناقض بين بيئتين. المعلم: ما أسباب غيابك عن الرحلة المدرسية أمس يا ليلى؟ ليلى: أنا آسفة جداً (السيدة جي) والدي لم يسمح لي بالذهاب. المعلم: هذا العذر غير مقبول. تعتبر الرحلة المدرسية درساً مهماً. إنه تَغيبٌ عن المدرسة دون عذر مقبول. ترد ليلى: أنا آسفة أستاذ، لن أفعل هذا مرة أخرى.
في إشارات بسيطة تعكس الرواية من خلالها الفوراق بين الأجيال. يتوقف حوار ليلى مع زميلها المغربي عند أكثر من حالة سلبية. ينتقدان حالات غير صحيحة تعيش في صلب واقعنا الإجتماعي العربي. تقف في مقدمتها القيود التي تكبل المرأة بصفة خاصة. وبصدد التفاوت القيمي بين المجتمعات. يميل العرب الى إقامة علاقات جدية وودية فيما بينهم. تبدو تلك العلاقات أقرب الى قلوبهم مما مع الآخرين. هذا الميل موجود عند النساء والرجال على حد السواء. يحركة التقارب القيمي.
ظل فتحي محافظاً على موقعه كربان لسفينة العائلة خلال إبحارها في عالم الهجرة. قدم الأب للإبن أشارة قوية ومعبرة تكشف حرصه على أفراد العائلة. كان خطابه لإبنه أحمد من خلال قوله يا ولدي: ما جئنا لنهدي أمريكا إلى الإسلام. بذلك قدم الكاتب راسم الحديثي صورة عن مخاوف بعض الأباء في المهاجر والمغتربات. فالإقتراب من التطرف الديني يحمل في طياته مخاطر جادة على المصاب به، وعلى عائلته ووطنه أيضاً، وحتى على صورة دينه. كذلك هناك خطر آخر، لا يقل خطراً عن الأول، يتمثل بالإنزلاق إلى النقيض تهتكاً.
طوّر الكاتبُ إنطباعات الأب عن إبنه، من خلال عدة مؤشرات منها. حديث تبادله مع صديق إبنه الجزائري، الذي إستخدم لغة لا تناسب عمره. تشي بنوع من التطرف. هذا أثار قلق الأب ودفعه الى التفتيش لأول مرة في كتب إبنه أحمد. وجد كتاباً لسيد قطب: "معالم في الطريق". وجد الكتاب يحمل دعوة للجهاد الدائم. يرى ذلك واجباً ربّانياً لا تجوز مخالفته حتى إسقاط الأنظمة غير الدينية.
يعود فتحي في كل المنعطفات الحادة الى الماضي. يستلهم منه ما يسنده ويدعمه. عاد الى ذكريات حياته الجامعية ومناقشاته خلالها وبعدها مع صديقه الناشط الطلابي برتو، الذي وصفه بـ"السياسي، والمفكر الحضاري خريج كلية الآداب قسم الفلسفة". أستذكر تقويمه للحرب في أفغانستان. وصف صديقه أسلوب الولايات المتحدة في حروبها بـ"القتال بالنيابة" فيما خلا بعض الضرورات الحادة. إخترل الكاتب بمهارة الفوارق الجوهرية بين التحري الجاد عن الحقيقة، وبين وسائل الإعلام المطيعة لجهة ما. هنا قدم الروائي راسم الحديثي صورة وسمات مرحلة مهمة من النضال الوطني والمهني. ولابد من الإقرار من جهة أخرى أن الروائي راسم الحديثي تكلم بثبات يتصف بالتواضع النادر والواثق، من خلال الإعتراف بدور صديقه برتو، الذي رسم أمامه صورة أكثر دقة وحيوية عما يدور في الوطن والإقليم والعالم، مثل هذه الثقة بالنفس والآخر في ظرفنا الراهن يصعب العثور عليها.
لم يعد التماسك العائلي كما كان في بداية الهجرة. بات الأبن أحمد يقع تحت تأثير صديقه الجزائري. يطيعه إطاعة عمياء ويُعدّها ديناً، وتقوى! ليلى تلاحظ الإختلاف بين مجتمعين، مجتمع المنبت ومجتمع المهجر. أمست متطلعة للعالم الجديد. إنها في مرحلة إعداد تقويمها الخاص لأسلوب الحياة. حتى الزوجة ربة البيت في بعض الحالات لا ترى الأمور كما يراها رب الأسرة ـ فتحي.
تصوير جميل لحالة المجتمع الذكوري الذي يتيح لأحمد التسلط على أخته ليلى. يسعى للتحكم بتسريحات شعرها ونوع ملابسها. معركة حامية بينهما، صراخ وضرب. حاول الوالدان تطويق الأزمة الأم بقيت مع ليلى والأب أصطحب أحمد معه. كانت الحادثة مناسبة لتقريع الذات على الهجرة. لكن سرعان ما تذكرا الموت في ملجأ العامرية، أو مثل منتسبي الإطفاء في محطة ضخ كيثري، قتلوا بالجملة، وهم في الواجب. النخيل الذي لم تكسر الويلات عنقه، ومصير مَنْ اغتصبوا في زنزانات سجن أبي غريب وتصفيات أخرى لبعض نسائنا ورجالنا.
إعترف رب الأسرة قائلاً: "يا أم أحمد، لا قدرة لنا للتأثير على أحمد، ولا على ليلى، عالم أمريكا، وقوانينها تمنعنا من التدخل بشؤونهما بعد أن تجاوزا عمر ال ثماني عشرة سنة، انتهى الأمر. الخوف عليهما مرعب في بعض إحتمالاته إختياراً أو كرهاً. فراقهما يعني الموت المؤكد لنا.
وأخيراً لقد سبقتني الشاعرة العربية السورية نصره ابراهيم في تقويمها للرواية بقولها إن: "الجوهر الذي تلازمه صفة الإبداع، والتميز، وتقديم الجديد بأسلوب يميز كل كاتب عن سواه... وإن الـ"رواية استمدت أحداثها من الواقع لتقدم للقارئ فكرة الهجرة من الوطن لاتقاء الحرب، وما تحمله معها من دمار... دقة الكاتب في اختيار مفرداته... ومما يسجل للحديثي في هذه الرواية ذكر الموروث من العادات، مثل ذكره رقصة الجوبي التي كانت تمارس في الأعراس تلك الرقصة التاريخية التي يشارك فيها الرجال والنساء يداً بيد. في المحصلة النهائية ترى بأن الشاعرة الناقدة، بأن الكاتب قادنا إلى مقولة مهمة تفيد بـ: "أن اختلاف الرؤى هو الحقيقة في هذا الكوكب والتشابه أمر مستحيل".
#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)
Abdul_Hamid_Barto#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعر والمناضل مخلص خليل
-
حين يَتولى مُنصفون مهماتٍ
-
باب المنفى
-
لحظة مجيدة في نضال الشعب الفلسطيني
-
لماذا يحمل الطلبة الراية الأعلى؟
-
أمينة الرحال بطلة من بلادي
-
الترقب السياسي السلبي
-
الذكرى الخامسة لرحيل مناضل
-
بين الساهر و الدكتور صالح
-
حول شخصنة الأزمة
-
مع الجواهري
-
التصحر الأخطر
-
اللعبة الخطرة في طورها ما قبل الأخير
-
الدراويش يبحثون عن الحقيقة 5 ـ الأخيرة
-
الدراويش يبحثون عن الحقيقة 4
-
الدراويش يبحثون عن الحقيقة 3
-
الدراويش يبحثون عن الحقيقة 2
-
الدراويش يبحثون عن الحقيقة 1
-
مؤشرات من بوصلة الشعب
-
حين تأفل المناسبات
المزيد.....
-
شاهد انفجار ألعاب نارية يلتهم منزلين بالكامل في ماساتشوستس
-
مصر.. تفاصيل محاولة سرقة في عمق البحر لمئات القطع الأثرية وا
...
-
-xAI- تختبر تطبيقا لأجهزة iOS يعمل بالذكاء الاصطناعي
-
اختراق طبي يمهد الطريق لعلاج الملايين من مرضى ألزهايمر
-
وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال السورية يحذر طهران من -
...
-
إسرائيل تعترض صاروخا أطلق من اليمن قبل أن يخترق مجالها الجوي
...
-
أسباب وعواقب السمنة عند الأطفال
-
روسيا تبتكر جهازا لتقييم الحالة النفسية للأشخاص
-
المقاتلون السوريون يغسلون سمعتهم
-
التحذير الأخير لرئيسة جورجيا زورابيشفيلي
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|