أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - مروة حسن لعيبي - البُعد الفلسفي والقانوني لجريمة عقوق الوالدين















المزيد.....


البُعد الفلسفي والقانوني لجريمة عقوق الوالدين


مروة حسن لعيبي
كاتبة وباحثة ، حاصلة على شهادة الدكتوراه في القانون الجنائي

(Marwa Hassan)


الحوار المتمدن-العدد: 7939 - 2024 / 4 / 6 - 14:47
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


مقدمة
للوالدين مقاماً وشأناً يعجز الإنسان عن ادراكه، ومهما جهد القلم في إحصاء فضلهما فإنَّه يبقى قاصراً منحسراً عن تصوير جلالهما وحقّهما على الأبناء، وكيف لا يكون ذلك وهما سبب وجودهم، وعماد حياتهم وركن البقاء لهم
لقد بذل الوالدان كل ما أمكنهما على المستويين المادي والمعنوي لرعاية أبنائهما وتربيتهم، وتحمّلا في سبيل ذلك أشد المتاعب والصعاب والإرهاق النفسي والجسدي وهذا البذل لا يمكن لشخص أن يعطيه بالمستوى الذي يعطيه الوالدان وقد اعتبر الإسلام عطاءهما عملاً جليلاً مقدساً استوجبا عليه الشكر وعرفان الجميل وأوجب لهما حقوقاً على الأبناء لم يوجبها لأحد على أحد إطلاقاً، حتى أن الله تعالى قرن طاعتهما والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده بشكل مباشر فقال: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً".
لأن الفضل على الإنسان بعد الله هو للوالدين، والشكر على الرعاية والعطاء يكون لهما بعد شكر الله وحمده.
وقد تنبه المشرع العراقي لاهمية تجريم المساس بحقوق الوالدين وذلك بأضافة مادة قانونية في باب الجرائم الاجتماعية تنص على ان :( أولا:مع عدم الاخلال بأية عقوبة اشد يعاقب بالحبس والغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين ،كل من قام بعقوق والديه بالإهانة او الصياح او التبرؤ او الترك او غير ذلك .ثانيا: يجوز تحريك الدعوى الجزائية بناء على شكوى من المجنى عليهم أو من يقوم مقامهم قانونا أو أي شخص علم بوقوع الجريمة أو بإخبار يقدم من الادعاء العام في الجرائم المنصوص عليها في البند أولامن هذه المادة). ونحن اذا نؤيد هذه الاضافة نبدي بعض الملاحظات على النص المقترح ونتحفظ على العقوبة المفروضه من عدة جوانب ستعني هذه الورقة البحثية بتبيانها وذلك من خلال تقسيهما على مجموعة فقرات ستختص اولا ببيان مدى الحاجة الى التشريع والتعديل والتغيير في قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969، وسنفرد ثانيا لتعريف مصطلح عقوق الوالدين بعده عنوان الجريمة والسلوك الذي يضم جميع صورها،و وسنبين في ثالثا:سياسة التجريم في النص المقترح ،اما رابعا فسنتاول فيه سياسة العقاب ،ونختم الورقة البحثية بخاتمة تتضمن اهم النتائج التوصيات المقترحة .
اولا: الحاجة الى التشريع والتعديل والتغيير في قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969.
منذ عام 1969 ولغاية الان تعرض قانون العقوبات لمجموعة من التعديلات على نصوصه حسب ما يستجد على المصالح المعتبرة من تغيير وذلك بالاضافة او الحذف او التبديل للنصوص التجريمية التي تعالج تلك المصالح ،وقد تستجد مصالح جديدة جديرة بالحماية تستدعي الضرورة التشريعية تجريم المساس بها وفقا لتغيير الظروف الاجتماعية بمعناها الواسع مما يحدو بالمشرع تجريم المساس بها بقوانين خاصة وهذا ما حصل بعد عام 2003ومن هذه القوانين قانون مكافحة الارهاب رقم (13) لسنة 2005 وقانون مكافحة غسيل الاموال وتمويل الارهاب رقم (39) لسنة 2015 وقانون مكافحة الاتجار بالشر رقم (28) لسنة 2012 ..الخ.وقد لا يتلائم مع التغيير الحاصل مجرد تعديل نصوص القانون ،وانما يتطلب الغائه بمجمله وتشريع قانون جديد قائم على فلسفة جديدة او مذهب وسياسة مغاير لما موجود في القانون السابق الملغي.
ويجري في اروقه مجلس النواب حديثا عن تعديل قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة ١٩٦٩، وذلك بإضافة جرائم وعقوبات او تعديلها او تغييرها،وهذا امرٌ محمود اذا تبنى المشرع فلسفة او مذهب او سياسه تشريعيه جديدة وفق اسس علمية مغايرة للفلسفة او المذهب او السياسة التي يقوم عليها القانون الحالي، ذلك أن اي تعديل او تغيير او اضافه في قانون قائم او استحداث قانون جديد يقوم على تغيير في الفلسفة التشريعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة مما يتطلب تدخلا يتلائم مع ضرورة التغيير، وفيما عدا حالات التعديل والإضافة المنفردة لإحدى النصوص التجريمية يصبح التعديل او التشريع الجديد ترفا لا يحقق الغاية منه. وقد ابتدأت هذه التعديلات بإضافة جريمة عقوق الوالدين إلى المادة (384)ومن هنا تبدو اهمية المصلحة المحمية وجدارتها بالاعتبار وتجريم المساس بها فعقوق الوالدين من كبائر الذنوب حسب قول النبي محمد (ص) حين سأل عن الكبائر فقال (الشرك بالله، وقتل النفس ،وعقوق الوالدين ) .
ان هذا التعديل يجب ان لا يقف عند حد هذه الجريمة ،فكثير من التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نتجت عنها مصالح جوهرية جديرة بتجريم المساس بها لكن وفق رؤيا ومنهج فلسفي يتلائم معها خاصة ان الفلسفة التي يقوم عليها القانون الحالي قد لا تتلائم مع المعالجة التشريعية لكل هذه المصالح وان تلائمت مع بعضها.فلابد من تبني المجتمع لفلسفة وسياسة جنائية تحقق الغاية من التجريم والعقاب خاصة مع ازيادة نسبة الاجرام في المجتمع والذي يدلل على عوق فلسفة بعض النصوص التجريمية عن تحقيق غاية التجريم والعقاب.
ثانيا: التعريف بعقوق الوالدين.
لابد من بيان المقصود بمصطلح العقوق كونه عنوان الجريمة والسلوك المكون لركنها المادي والذي قد يتسع ليشمل الصور الاخرى المكونة للسلوك الجرمي.
فالعقوق لغةً هو إغضاب الوالدين، وعدم برّهما بترك الإحسان لهما، و التقصير في أداء حقوقهما، والإساءة إليهما، والعقوق اصطلاحاً هو كلّ فعل أو قول يخرج من الأبناء يؤذي الوالدين إذى نفسي او جسدي، وقد عرّف كعب الأحبار بأنّ العقوق هو عدم طاعة الولد أبويه أو أحدهما، وخيانة أمانتهما، وعصيانهما في أوامرهما، وترك برهما، وإذا طلبا منه شيئاً لم يعطهما إياه، والصغيرة في حقّ الوالدين كبيرة، فمن فعل شيئاً يؤذي والديه ولو كان صغيرة فمن حقّهما عليه أصبح كبيرة، ويدخل في ذلك عصيانهما في أمرهما أو نهيهما فيما يعتقدان أنّ فيه ضرراً على الولد في نفسه أو جسده أو ماله، أو الغياب عنهما فترات طويلة في أمر ليس فيه طاعة لله تعالى كطلب العلم والرزق، أو السفر الطويل مما يشقّ به عليهما، ويخرج من ذلك الجهاد الواجب( ).
وعاق الوالدين هو الذي يؤذي ويعصي أبوه وأمه، ويُعتبر في الروايات أنَّ النظرة الحادة والغضب وإضاعة الحقوق، وعدم تلبية ما طلبا، وعدم طاعة أوامرهما، وعدم احترامهما من مصاديق عقوق الوالدين. ذكر الملا أحمد النراقي إنَّ أي شيء يؤدي إلى أذية الوالدين يُعتبر من العقوق. ( )و في رواية عن الإمام الصادق (ع) أنَّ أدنى العقوق هو قول الشخص لوالديه أُف ولو علم الله أيسر من هذه الكلمة لنهى عنها( ). وتبدو اهمية المصلحة المحمية بتأكيد الشارع الكريم على بر الوالدين في العديد من الايات الكريمة وهي الاية (83) من سورة البقرة بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾.والاية (36) من سورة النساء بقوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ والاية (151) من سورة الانعام بقوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ والايتان (23،24)من سورة الاسراء بقوله تعالى:﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ والايات (12-14)من سورة مريم بقوله تعالى: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ والاية (8) من سورة العنكبوت بقوله تعالى : ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾والايتان (14،15) من سورة لقمان بقوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ والايات (15-18) من سورة الاحقاف بقوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ * وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾ والايات (30-34) من سورة مريم بقوله تعالى: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾.فضلا عن الاحاديث النبوية الشريفة التي اكدت فضل الوالدين وحقوقهما وجزاء عقوقهما. لذلك قال الرسول الأعظم(ص): (حق الوالد أن تطيعه ما عاش، وأما حق الوالدة فهيهات هيهات.. لو أنه عدد رمل عالج وقطر المطر أيام الدنيا قام بين يديها ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها) ( ).جاء رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: "إنّ والدتي بلغها الكِبَر، وهي عندي الآن، أحملها على ظهري، وأُطعمها من كسبي، وأُميط عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها وإعظامًا لها، فهل كافأتها؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: " لا، لأنّ بطنها كان لك وعاءً، وثديها كان لك سقاءً، وقدمها لك حذاءً، ويدها لك وقاءً، وحجرها لك حواءً، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنّى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحبُّ مماتها".( )
وقد بين الامام زين العابدين عليه السلام حقوق الابوين في رسالة الحقوق بقوله :( فحقّ أُمِّك أن تعلم أنَّها حملتك حيث لا يحمل أحدٌ أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يُطْعِم أحدٌ أحداً، وأنَّها وقتك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها مستبشرة بذلك فرحةً موبلة (كثيرة عطاياها )، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمِّها، حتى دفعتها عنك يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض فَرَضِيَتْ أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظللك وتضحى، وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأَرِقهَا، وكان بطنها لك وعاء، وَحِجْرَها لك حواء، وثديها لك سقاءاً، ونفسها لك وقاءاً، تباشر حر الدنيا وبردها لك دونك، فتشكرها على قدرِ ذلك ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه. وحق أبيك أن تعلم أنه أصلك وأنه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلاّ بالله). ( )
ثالثا: سياسة التجريم في جريمة عقوق الوالدين .
تتمحور سياسة التجريم في ضوء الغاية منه، فلا يتدخل المشرع بتجريم المساس بمصلحة الا لضرورة ،والضرورة الاجتماعية والاسرية والدينية هي التي دفعت المشرع للتدخل بالتجريم .وغاية القانون كما بينتها الاسباب الموجبة هي (تجريم مجموعة من الافعال التي تدخل تحت مفهوم عقوق الوالدين التي تشكل خطراًعلى النظام الاجتماعي).الا انه يلاحظ على النص المقترح مجموعه من الملاحظات منها :
1- ان النص المقترح بين السلوك الجرمي للجريمة وهو "العقوق" سواء تم بفعل ايجابي او سلبي وعدد مجموعة صور لهذا السلوك منها (الاهانة ،التبرؤ،الصياح ،الترك) ثم ختم النص بعبارة "او غير ذلك " مما يعني فسح المجال لصورٌ اخرى من صور العقوق بتكون الفعل المكون للركن المادي خاصة وان مفهوم العقوق لغة واصطلاحا يبدأ من التأفف من الوالدين لغاية قطيعة الرحم .فهل يشمل النص جميع صور العقوق؟ وهل يسترشد القاضي بمدلوله في الشريعة الاسلامية بإعتبارها مصدر غير مباشر من مصادر شق التجريم في القاعدة الجزائية الموضوعية؟ وهل يحكم القاضي وفق معيار الاذى النفسي والجسدي ومقداره عند التجريم وتحديد الجزاء المناسب ؟ ولابد من الذكر ان هذا النص لا يسري على حالات الضرب والجرح والعنف واعطاء مادة ضارة او اي اعتداء جسدي لان هذه الافعال محكومة بنصوص قانون العقوبات ولان النص المقترح اكد على (مع عدم الاخلال بأي عقوبة اشد).
2- ان مركز الوالدين محل اعتبار في النص المقترح وهنا لابد من بيان ذاتية المصطلح وفرقه عن مصطلح الابوين لان ذلك يدخل في تكون الجريمة اذ يعد مركزها ركنا خاصا بالجريمة .ويقصد بالوالدين الاب والام الصلبيين لذلك كل ايات البر جاءت بلفظ الوالدين ،اما الابوين فلا يشترط ان يكون احداهما صلبيا وقد ورد ذلك في سورة النساء في اية المواريث بقوله تعالى" وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ" وقوله تعالى في سورة الكهف: "وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ" وقوله تعالى في سورة يوسف "ورفع ابويه على العرش" ولم يقل رفع والديه لان الاخيره تعني وجود اب صلبي وام صلبية وهذا غير متحقق كون ام يوسف المباشرة توفت عند ولادة اخيه لذلك ذكر الله عزوجل كلمة "ابويه" وهما ابوه وزوجة ابيه التي ربته.و
لا شك أن الأبوين “مثنى الأب والأم” وجاء بلفظ المذكر على سبيل التغليب، وإن “الوالدين” هما الوالد والوالدة وأيضاً تغليب لفظ الوالد مع أنه لم يلد والولادة للأم، الولادة للأم بالفعل وللأب للنسب. إذن عندما يقول “الوالدين” تذكير بالولادة “يعني الأم” يعني فيها إلماح إلى إحسان الصحبة إلى الأم أكثر وهذا يتطابق مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله رجل: من أحق الناس بحسن صحابتي؟، قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال: “أمك” ، قال: ثم من؟ قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال: “أبوك”. لأن الولادة منها. إذن كل القرآن فيه إلماح إلى أن الأم أولى بحسن الصحبة والإحسان إليها أكثر من الأب فالاهتمام بالأم أكثر. على انه لم يفرق المشرع بين الاعتداء الواقع على الوالد والاعتداء الواقع على الوالدة وممكن مراعاة ذلك حسب السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي عند تقدير الجزاء.
3- لم يبين المشرع ظروفا خاصة بالجريمة كأن تكون مشددة كالعلانية .وهل العنف وسوء المعاملة على الجاني سبب للاباحة عقوق الوالدين ؟ او مانع للمسولية والعقاب ؟.
رابعا : سياسة العقاب في جريمة عقوق الوالدين .
تعد جريمة عقوق الوالدين من الجرائم الاجتماعية ،ونحن اذ نؤيد موقف المشرع بتجريم هذا الفعل نوجه عنايته الى اعادة النظر بالجزاء المفروض على الجرائم الاجتماعية ومنها جريمة عقوق الوالدين فقد ان الاوان لتبني فلسفة الجديدة في قانون العقوبات تتلاءم مع التغير الاجتماعي ، خاصه ان فلسفة المشرع في القانون الحالي أصبحت لا تتلاءم مع هذا التغيير وحان الوقت لتبني وسائل بديله للعقوبة الجزائية تحقق غاية التجريم والعقاب ،فالجزاء المفروض لا يحقق غاية التجريم والعقاب ولا يتناسب مع أوضاع المجتمع والتجريم العقلاني يتطلب ان تحقق العقوبة الغرض من التجريم وهو تقليل او القضاء على السلوكيات التي تمثل عقوقا للوالدين وغاية العقاب تتمثل في تأهيل الابن العاق ليصبح فردا صالحا في العائلة وعضوا فعلا في المجتمع .اذ ان المزيد من التجريم دون تبني سياسة عقابيه اجتماعية جديدة يؤدي إلى مزيد من الجرائم. ويمكن ابداء بعض الملاحظات على العقوبة المفروضة وتتمثل بأن المشرع عاقب على جريمة عقوق الوالدين بالحبس والغرامة او احدهما،والحبس حسب المادة 88من قانون العقوبات هو ايداع المحكوم عليه في احدى المنشآت العقابية المخصصة قانونا لهذا الغرض المدة المقررة في الحكم. ولا تقل مده الحبس الشديد عن ثلاثة شهور ولا تزيد على خمس سنوات ما لم ينص القانون على خلاف ذلك وعلى المحكمة ان تحكم بالحبس الشديد كلما كانت مدة الحبس المحكوم بها اكثر من سنة. ويكلف المحكوم عليه بالحبس الشديد بأداء الاعمال المقررة قانونا في المنشآت العقابية.
وهذه العقوبة لا تحقق هذا الغرض بل لها اثارا سلبية عديدة على المستوى الفردي او النفسي او الاجتماعي او الاقتصادي ، اذا لا تتيح هذه العقوبة للمؤسسات العقابية بتنفيذ برامج الاصلاح والتأهيل للمحكوم عليهم كما انها تتسبب في مشكلة اكتظاظ السجون وتمثل عبئا ماليا كبيرا على الدولة للنفقات الباهظة على النزلاء والسجون ، كما ان حبس العاق قد يؤدي إلى مزيدا من العقوق عند خروجه من الحبس وقد يصبح فردا ناقما على المجتمع او قد يكتسب اجراما جديدا لا سيما الاحداث. وكذا الحال بالنسبة للحكم بعقوبة الغرامة ،والتي لا تتناسب مع الجريمة من جهة ولا مع مرتكبها من جهة اخرى ،فما الفائدة الاجتماعية والاسرية من عقوبة الغرامة وهل يتحقق بها اصلاح الجاني ،وهل يحقق الحكم بها ضمان عدم عودة الجاني لعقوق والديه مجدداً؟.
عليه نقترح على المشرع إيجاد عقوبة مجتمعية بديلة لعقوبة الحبس والغرامة تتناسب مع السلوك المرتكب وطبيعة المجتمع والغاية من العقاب وحسب جنس الفعل والفاعل ومقداره ويكون ذلك سلطه تقديريه للقاضي
كأن يحكم على الجاني بالخدمة في دور المسنين مدة معينة او الخدمة في دور الأيتام وعلى أساس جودة الخدمة يتم الإفراج عنه مع مراعاة التفريد العقابي لكل متهم ليكون للعقوبة جانب اجتماعي إنساني تربوي عائلي اكثر من جانبها الجزائي فالخدمة في دور الأيتام لها أثر وتترك انطباع لدى المتهم بأهمية وجود الوالدين في الحياة خاصه مع ما يلاحظه على الأطفال اليتامى ،والخدمة في دور المسنين لها انطباع وتترك اثر في المتهم وتعلمه على الصبر وقوة التحمل وحسن المعاملة ووعي أهمية ومحاسن وجود والديه.
ان هذا الاخذ بالعقوبات المجتمعية يعد تطوراً تشريعياً وقضائياً مهماً، يُعبر عن شكل جديد من أشكال إصلاح العدالة ويسهم في معالجة سلوك مرتكبي الجرائم لأول مرة، وحمايتهم من العدوى الجرمية، وذلك من خلال منع اختلاطهم بنزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل، ومعالجة مشكلة الاكتظاظ بالسجون، وتوفير الكلف الاقتصادية لهؤلاء النزلاء وتوزيعها على برامج تأهيلية طويلة المدى للنزلاء أصحاب المحكوميات العالية.
ولها أيضا آثار اقتصادية على خزينة الدولة، بتخفيف كلف نزلاء مراكز الإصلاح، وتفادي الآثار السلبية الاجتماعية بدخول شخص يرتكب جريمة لأول مرة للسجن، وتأثير ذلك على مسار حياته العائلي والاجتماعي.
كما انها تتوافق مع غاية التجريم والعقاب في منع الجاني من ارتكاب الجريمة مجددا واصلاحه وتأهيله للعودة الى عائلته. على ان يراعى المشرع والقاضي عند فرض وتطبيق هذه العقوبة جسامة السلوك المرتكب والعود والظروف التي رافقت ارتكاب الجريمة والحالة الاجتماعية والنفسية والعائلية للجاني .
خامسا: الخاتمة .
بعد العرض الموجز في هذه الورقة البحثية لاهمية بر الوالدين شرعا وقانونا والحاجة الى التعديل والتشريع وفلسفة التغيير وتعريف الوالدين والمصلحة المحمية وفلسفة التجريم والعقاب نقترح على المشرع الاخذ وتطبيق عقوبة تتلائم مع طبيعة الجريمة وغاية التجريم والعقاب لما تقدم من مبررات بالنص على ان للمحكمة عند الحكم بجريمة عقوق الوالدين وفيما عدا حالات العود وبعد موافقه المحكوم عليه ان تحكم ببديل او اكثر من البدائل التالية :الخدمة في دوار المسنين او الايتام او اي خدمة اجتماعية اخرى لمدة لا تقل عن (50) ساعة ولا تزيد عن (250) ساعة حسب طبيعة وجسامة الفعل على ان يجري تنفيذ العمل خلال مدة لا تزيد على ستة اشهر ،ولها اعفاء الجاني من بعض المدة في حالة ثبوت صلاحه بناء على تقريرمعد من جهة تنشئ لهذ الغرض ،او ان تحكم بحبسه عند عدم التزامه بنوع الخدمة ومدتها المبينه في الحكم.
كما نوجه عناية المشرع الى شمول عقوق الابوين بالنص التجريمي اسوة بعقوق الوالدين لتحقق المصلحة المحمية في الحالتين وهي حماية النظام الاجتماعي.
المراجع .



#مروة_حسن_لعيبي (هاشتاغ)       Marwa_Hassan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السجن الفكري ...مشنقة الابداع


المزيد.....




- وقفة أمام مقر الأمم المتحدة في بيروت
- نائب مصري يحذر من خطورة الضغوط الشديدة على بلاده لإدخال النا ...
- الأمم المتحدة: فرار ألف لاجئ من مخيم إثيوبي لفقدان الأمن
- إجلاء مئات المهاجرين الصحراويين قسرا من مخيمات في العاصمة ال ...
- منظمة حقوقية: 4 صحفيات فلسطينيات معتقلات بينهن أم مرضعة
- السفير الروسي ومبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا المستقيل يبحثان ...
- قرابة 1000 لاجئ سوداني يفرون من مخيم للأمم المتحدة في إثيوبي ...
- جامعة كولومبيا تكشف تفاصيل حول المحتجين المعتقلين بعد اقتحام ...
- منسق الإغاثة الأممي جريفيث: مقتل عمال إغاثة في السودان أمر ل ...
- اعتقال سياسي معارض في جزر القمر لأسباب سياسية


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - مروة حسن لعيبي - البُعد الفلسفي والقانوني لجريمة عقوق الوالدين