أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - عن آرون بوشنل والضمائر والمبادئ















المزيد.....

عن آرون بوشنل والضمائر والمبادئ


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 7938 - 2024 / 4 / 5 - 18:00
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


قبيل رحيله، نشر آرون بوشنل، الطيار الأميركي الذي ضحى بنفسه حرقاً أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن يوم 25 شباط الماضي، على صفحته على فيسبوك السطور التالية: "يسائل كثيرون منا أنفسهم: ما كنت لأفعل لو عشت أيام العبودية؟ أو في الجنوب الأميركي أيام نظام الفصل العنصري؟ أو في ظل الأبارتهايد؟ وماذا علي أن أفعل إذا كان بلدي يرتكب جينوسايداً؟ والجواب هو: تفعل ما تفعله الآن بالذات".
الواقعة فريدة ولم تكن ممكنة التصور قبل شهور فحسب. أميركي يضحي بنفسه من أجل فلسطين، وضد حكومة بلده! وعباراته التي تدل على حس أخلاقي رفيع جديرة بأن تخلد في سجل الأنشطة الاحتجاجية عالمياً كشعار موجه، ذلك أنها تضمر أن مظالم الماضي مستمرة بصور وتحت أسماء مغايرة اليوم، وأن من يعيشون اليوم وقد يهنئون أنفسهم على أنهم ضد العبودية والفصل العنصري ربما كانوا سيلتمسون لأنفسهم الأعذار على عدم الاعتراض عليهما أو حتى مساندتهما لو عاشوا في زمنهما مثلما هم صامتون اليوم أو متوطئون، وأنه إذا كان من السهل اتخاذ الموقف الصائب بعد وقوع الواقعة، فإن على المرء أن يسعى لاتخاذ هذا الموقف أثناء وقوعها، على الصعوبة المحتملة لذلك. والأهم أن السؤال الأخلاقي لا يطرح علينا أبداً في ظروف مثالية، حيث الأشياء واضحة، أو حيث الخير بيّن والشر بين. هذا تصور إسقاطي من الحاضر على الماضي، بعد عقود من هزيمة النازية في ألمانيا مثلاً، أو بعد انتهاء نظام الأبارتهايد في جنوب أفرقيا، أو بعد انطواء صفحة قوانين الفصل العنصري في الجنوب الأميركي في ستينات القرن الماضي، وانتهاء عبودية الأفارقة الأميركيين قبلها بقرن. في واقع الأمر يطرح علينا السؤال الأخلاقي دائماً في ظروف بعيدة عن المثالية، ويشيع أن يكون الموقف الأصوب محملاً بالعواقب، على حريتنا أو حياتنا ذاتها، أو على الأقل ضروب من العزل الاجتماعي أو الإلغاء الذي تحول إلى ثقافة في ألمانيا الشهور الست الماضية.
زمن السؤال الأخلاقي هو الآن، اللحظة الحاضرة، وليس الماضي الذي مضى وانقضى، ولا هو مستقبل سيأتي نصير كلنا فيه عادلين أخلاقيين ذوي ضمائر حية (إلا أننا اليوم بكل أسف لا نستطيع أن نكون كذلك لأن الظروف صعبة). الظروف صعبة دوماً، والسلوك الأخلاقي لا يكون أخلاقياً إلا حين لا تكون الظروف مواتية، ولا يطرح السؤال الأخلاقي أصلاً حين تكون الأمور واضحة وعواقب خياراتنا آمنة. السؤال مطروح على المنشبكين في اللحظة الراهنة وصراعاتها وضروب المعاناة فيها، وليس على من هم خارج حقلها. كأميركي، شعر بوشنل بحق أنه معني بما كان يجري في غزة من إبادة لأن بلده هو راعي إسرائيل وأكبر داعميها عسكرياً ومالياً وسياسياً وإعلامياً، وأنه مسؤول بالتالي عما يجري هناك. وهو عبر عن مسؤوليته بالتضحية بالنفس فيما قدر أنه الموقع الأنسب لذلك، بينما كان يهتف: الحرية لفلسطين! ليست تضحية بوشنل هي الجواب الوحيد الصحيح على السؤال الأخلاقي، لكن الرجل الذي لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين لم يختر الإجابة الصحيحة، بل الإجابة الصانعة للصحيح، تلك التي تتشئ مثالاً وتصنع ذاكرة وتبقى على مر الأجيال.
ولأن السؤال يطرح الآن، جديداً دوماً وربما مفاجئ، فإنه ليس هناك وصفة مسبقة جاهزة تعطينا الإجابة الصحيحة، فلا يجاب عليه بإعمال مذهب أو دين أو إيديولوجية أياً تكن. هذه العقائد تقترح مبادئ وليس أخلاقيات، ويغلب بالأحرى أن تُخضِع الأخلاقيات للمبادئ التي تدعو إليها، أو حتى تدفع نحو مسالك غير أخلاقية، وإن تكن مبدئية. وبالعكس يقتضي المسلك الأخلاقي الدفاع عن استقلال الضمير عن العقيدة أو المذهب، أو المبدأ، أياً يكن. هذه النقطة مهمة في السياقات الإسلامية لأن المسلك الديني ليس حتماً أخلاقياً، هذا حين لا يكون لا أخلاقياً تماماً. رفض الترحم على آرون بوشنل، أو حتى تقرير أنه في النار لأنه منتحر وغير مسلم (وقد استطاع بعض بوابي الجنة والنار قول ذلك)، غير أخلاقي وإن يكن دينياً.
هل الضمير ركيزة كافية من أجل السلوك الأخلاقي؟ لا يبدو أن هناك ركيزة مضمونة أكثر. ضميرنا الشخصي ليس ضمانة للعدل دوماً، لكننا لا نعرف مرجعاً أخلاقياً أقوى من الضمير المطلع والمتفاعل مع ما يجري حوله، وفي شروط من الحرية. ربما يقال: الضمير فردي، فيما الفاعلون الكبار في العالم دول وتحالفات ومنظمات كبيرة، وهي المسؤولة عن كثير من الشر في عالم اليوم. هذا أكيد، إلا أن الاعتراض الضميري لعدد كبير من الأفراد في بيئات متمتعة بالحرية أكثر من غيرها هو ما أحدث فرقاً بخصوص غزة. ليس فرقاً حاسما إلى اليوم، بالنظر إلى قوة وكثافة التوظيف الغربي، المعنوي والسياسي والمادي، في إسرائيل، لكنه الفرق المحدث الوحيد. ولا يبعد أن يتشكل في قوانين ومؤسسات عبر محكمة العدل الدولية أو غيرها. بالمقابل لا يبدو أنه أمكن التعبير عن اعتراضات ضميرية من الجهة العربية، رغم ما يبدو من مساندة شعبية واسعة لغزة وفلسطين. هذا ليس لغياب الاستعداد الضميري، بل لغياب الحرية، وهو ما يضعف الضمائر نفسها بفعل تعذر نقل ما تمليه إلى أفعال وسياسة، وبخاصة في القضايا ذات الشأن. أعني بالقضايا ذات الشأن القضايا التي تعني مجتمعاتنا المختلفة بصورة مباشرة، القضايا الخاصة لكل منها، ما يتصل بشؤون السلطة السياسية والدينية وتوزيع الثروة والحقوق وغير ذلك. فإذا لم يستطع الناس الاحتجاج فيما يتصل بهذه الشؤون، أو إذا سحقت احتجاجاتهم المرة تلو المرة، انقطع تأثيرهم على السياسات العامة في بلدانهم، ولم تتطور لديهم ملكة الاحتجاج الضميري العام. أما الجهات النظامية في بلداننا فلا تشغل موقعاً أخلاقياً للوقوف إلى جانب الغزاويين والفلسطينيين لأنهم متورطة في دماء وكرامات محكوميها، ولأن غزة هنا وليست هناك حصراً. فإذا كان زمان الفعل الأخلاقي هو الآن، فإن مكانه هو هنا، حيث تكون. هنا أنت عادل وصاحب ضمير، أو مجرم أفاك، وليس هناك ضد إسرائيل أو ضد أميركا البعيدة أو ضد الغرب.
مشكلتنا مع الفعل الأخلاقي، معرفاً بالآن وهنا، تتمثل في أننا نفتقر إلى المسافة الأمثل من أجل الرؤية والتصرف الصحيح. وإنما لذلك نحتاج إلى تربية الضمير وتثقيفه كي يستجيب على أفضل وجه للمُلمّات. ونعلم بعد ذلك أنه يحدث كثيراً أن يتملكنا الشعور بالذنب وعذاب الضمير لأنه يتواتر أن لا نسلك المسلك الصحيح، بخاصة في أوضاع داهمة وغير مسبوقة. لكن مثلما يتعلم المرء من تعثراته وانكساراته، فإن الضمائر تتعلم من الأخطاء وأسواء التصرف.
وليس في هذا الطرح المجمل ما ينفي الحاجة إلى مبادئ تتوجه بها الذوات الجمعية من دول وأحزاب ومنظمات وغيرها. الدفاع عن استقلال الضمير عن المبدأ لا يعني استتباع المبدأ للضمير الذي يبدو موجهاً أصلح للأفراد منه للتكوينات الجامعة. لكن فيه (الطرح) ما يدعو إلى الحفاظ على توتر بين المبادئ والأخلاقيات، والتنبه إلى ميل المبادئ لإلحاق الأخلاقيات بها وصولاً إلى التسلل إلى ضمائر الأفراد وإخضاعها لها. المبادئ تميل إلى التحجر، وهي مدعوة لأن تجدد نفسها عبر مسائلات الضمائر. وهي إلى ذلك أميل إلى التكيف مع المصالح، بما في ذلك أشدها تمييزاً وانعدام عدالة.
تضحية جليلة مثل تضحية آرون بوشنل تتحدى مبادئ السياسة الأميركية ومصالحها غير العادلة، وتضع على جدول أعمال قطاعات تبدو متسعة من الأميركيين إعادة النظر في هذه المبادئ في اتجاهات أعدل. بعد أسابيع من تضحية بوشنل، استقالت أنيل شيلين، مسؤولة الشؤون الخارجية في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل بوزارة الخارجية الأميركية، وبعيون دامعة في مقابلة مع قناة "ديموكراسي ناو" عطفت استقالتها على تضحية مواطنها الشاب.
ليس هذا للقول إن تضحية بوشنل أطلقت مسلسل تراكم كمي قد يؤدي إلى تغير نوعي في السياسية الأميركية حيال فلسطين. تطرف ووقاحة وغرور وعناد السياسات الأميركية يرجح بالأحرى نموذج التغير الكارثي، وإن كنا لا نعرف متى وكيف. ربما تكون إبادة أكبر من كل ما عرفنا بالانتظار.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
- -عرب ويهود- و-سقوط الجولان-: عن كتابين من ماض يمضي ولا يمضي
- ماذا بشأننا؟ لماذا ليس بيننا عادلون عاقلون؟
- غزة وعالم الامتيازات والحل الفاشي
- الطائفية والديني السياسي
- ما يقع هو المستحيل، ماذا حدث للممكن؟
- في شأن مفهوم الجينوسايد ومشكلاته
- اشتراكية: تمرين في الخيال السياسي
- تاريخ: مفاصل زمنية وسجلّات ثقافية وسياسية
- في وداع رياض الترك
- سورية وفلسطين وما وراء نموذج الإبادة السياسية
- عودة إلى السجن
- ما يحدث في غزة يحدث في العالم
- عشر سنوات… القصة من جديد
- حقوق الإنسان، الحق في الحقوق، وسورية
- ضد القبَليّة، ومن أجل فلسطين عالمية
- عن الآيخمانية في ازدهارها الراهن
- الحرب الوظيفية، حرب تشرين 1973 وبنية الحكم الأسدي
- في بعض الجذور الانفعالية لتوحشنا
- عن -انتفاضة العشائر- العاثرة


المزيد.....




- إسرائيل: تغييرات في قيادات الجيش.. ورئيس جديد للاستخبارات ال ...
- -استهداف قيادة الفرقة 91 بثكنة بيرانت-.. -حزب الله- ينشر ملخ ...
- ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار طريق سريع جنوب الصين إلى 48 شخصا
- الأمن المصري يكثف جهوده لكشف ملابسات العثور على هيكل عظمي شم ...
- -كوميرسانت-: تم تفجير جسر القرم بقنبلة وزنها 10 أطنان -تي إن ...
- مسؤول عسكري أمريكي سابق يزعم استخدام السنوار رهائن إسرائيليي ...
- الداخلية الروسية تدرج أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكرا ...
- الجيش الأمريكي يعلن إسقاط ثلاث مسيّرات حوثية في اليمن
- المغرب يستعد لتسليم أحد أخطر زعماء العصابات المطلوبين لفرنسا ...
- -رويترز- تعيد نشر الخبر عن تصريحات كاميرون بشأن أوكرانيا بعد ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - عن آرون بوشنل والضمائر والمبادئ