أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - لبيب سلطان - جدل ألوطنية والشيوعية في العراق















المزيد.....



جدل ألوطنية والشيوعية في العراق


لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)


الحوار المتمدن-العدد: 7925 - 2024 / 3 / 23 - 16:19
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


1. مقدمة للموضوع
ارتبط ‏مفهومي الوطنية والشيوعية في العراق معا بشكل مميز عن بقية البلدان، فتجد مثلا غالبا ما يطلق العراقيون تسمية الوطنيين على الشيوعيين، ويسمون الشخص وطنيا ويقصدون به شيوعيا ،وهو لقب مميز بلاشك، وينم عن احترام الناس للشيوعيين في العراق، فهم عندهم وطنيون، وذاع هذا اللقب خصوصا بعد ثورة 14 تموز عام 1958 لتمييزهم عن القوميين ممن أرادوا وضع العراق تحت قيادة ناصر ودمجه بالجمهورية العربية المتحدة غير عابئين بالوطنية العراقية. ولكن واقع الامر اعمق من ذلك ، حيث ان جذور تأسيس الحزب الشيوعي العراقي تعود لقادة كانوا اعضاء في الحزب الوطني الديمقراطي وهم وطنيون معروفون تربوا بروح الوطنية العراقية، واستطاع الشيوعيون الحفاظ عليها وتمسكوا بهذا الخط الوطني العراقي ، وجذبوا تعاطف الناس والجمهور من خلال طرح مطالبهم الوطنية وهي اتت بروح ثورية ( قياسا بما اسموه ونقدوه طروحات البرجوازية في قيادة الحزب الوطني العراقي ) . وتلخصت مطالبهم باستقلال العراق الكامل عن بريطانيا والقضاء على الفقر والاقطاع ، وبناء وطن حر وشعب سعيد ، وهو الشعار الذي يحمل نكهة وطنية ومستقبلية طيبة للشعب العراقي ( قارنه بشعار البعث مثلا امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة في بلد متعدد القوميات والثقافات) . لقد نجح الحزب الشيوعي في اختراق اوسع طبقات الشعب العراقي من خلال طروحاته الوطنية تحديدا ، وانتشر واسعا بين الطبقة المثقفة والمتوسطة المتعلمة خصوصا المتطلعة لبناء عراق ديمقراطي مزدهر، ولوطنيته وثوريته وحماسه اجتمع حوله طيفا واسعا من المجتمع بمختلف فئاته ، وقدم تضحيات كثيرة ، واستحق لقب حزب وطني بجدارة . وكان لحسن سيرة اعضائه وسمعتهم الجيدة بين الناس وصمودهم في المعتقلات اثناء الحكم الملكي دورا هاما لنمو شعبيته ابتداء من الخميسينات، وكان دور المثقفين خصوصا بارزا حيث قلما تجد مثقفا او اديبا او شاعرا او فنانا الا وارتبط بشكل او باخر بالحزب الشيوعي ، وكان الناس يميزون الشيوعي انه ذلك الذي يحمل كتابا او جريدة عندما يرونه يسير في الشارع بينما يرى القوميين والبعثيين مثلا انهم اقرب الى شقاوات ومتطيرين ، ونادرا تجد مثقفين لهم دورا في الحياة الثقافية العراقية .
والموضوع الذي اتناوله هنا له شقين ، واضافة الى الفرق بين مفهومي الوطني والشيوعي من حيث كونها مفاهيم مختلفة ( و تطابقهما على تسمية الشيوعيين في واقع المجتمع العراقي ليس الا لظروف خاصة تتعلق بنشأته وتوجهاته ودوره الثقافي كما اشرت اعلاه)، والشق الثاني، وهو الغرض الاساس من المقالة، يتعلق بمناقشة موضوع اكثر اهمية لماذا لم ينجح الحزب الشيوعي في تحقيق طروحاته الوطنية وترجمة شعاره الاساس ( وطن حر وشعب سعيد ) الى واقع قائم في المجتمع العراقي لحد اليوم؟ واضحا انه ليس نقصا في وطنيته، اونقصا في تفاني اعضاءه والتضحيات الهائلة لهم ولانصاره، كما ليس هو نقصا في الدعم الشعبي الواسع الذي قدمه له المجتمع العراقي ولم يحض به، او حتى بجزء قليل منه ، اي حزب سياسي اخر في العراق.
سأقوم بمناقشة هذا الموضوع من خلال الاختلافات واحيانا التناقضات بين ماهو وطني وما هو شيوعي بمفاهيمها، او بشكل ادق كيف شكلت الطروحات العقائدية للحزب حاجزا امام ترجمة شعاراته وطروحاته الوطنية، وهو مايمكن تسميته تناقض العقيدة مع الاهداف والمناهج الوطنية التي سعى لتحقيقها. وسيتم مناقشة هذه القضية ( التناقض ) من خلال امثلة لخمسة مراحل من الحكم مر بها العراق منذ استقلاله وهي: الملكية ، الجمهورية الوطنية، الجمهورية القومية ، الحمهورية البعثية ، واخرها النظام الديمقراطي ـالميليشياوي المافيوي بعد 2003 . ولا بد هنا من الاشارة ان الغرض من هذا البحث هو ليس اضافة نقد جديد للحزب الشيوعي العراقي، او استعراضا تاريخيا لمسيرته، بل هو السعي في تنضيج وتعميق حوار وطني صريح ويرتكز على تحليل وتأثر تحقيق الاهداف الوطنية بالعقائدية الايديولوجية ، وابراز تناقضاتهما ، وهو حوار هام وضروري يهدف لصياغة الهوية السياسية الوطنية العراقية على اسس اكثر واقعية ووضوحا ، ونستفيد فيه من تجارب الحزب الشيوعي العراقي ، هو اقدم وابرز حزب وطني عراقي منذ الستينات ولحد اليوم ، ومن هنا تأتي اهمية مناقشة تجربته ، خصوصا في هذه الفترة التي يعاني الفكر الوطني والهوية الوطنية من ضعف وغياب واغتيال وسط فوضى الحكم وتسلط وانتشار الفكر الديني السلفي وميليشياتها ومافياتها وطغيان الانقسامات الطائفية والعرقية على على الطروحات الوطنية وتغييب الهوية الوطنية العراقية وهي بالذات بطبيعتها وتاريخها تسكن داخل كل عراقي نقشا مزخرفا متنوعا وجميلا متراكما منذ الاف السنين، ويجري اليوم اغتيالها ، وبه اغتيال التاريخ والمصير العراقي المشترك نفسه.
ان مناقشة قضية التناقضات بين الوطنية والعقائد الايديولوجية السياسية، هو سبب اساس، وفق طروحات هذه المقالة، في عدم تمكن الحزب الشيوعي من تحقيق شعاراته وطروحاته واهدافه الوطنية ، وللموضوع اهميته لسببين : الاول كونه الحزب الذي جمع كافة فئات العراقيين وتنوعهم القومي والعرقي والثقافي والديني في عضويته ونشاطاته ، والثاني لشعاراته الوطنية " وطن حر وشعب سعيد " و " الديمقراطية للعراق " وتبنيه لمطالب وطنية حقيقية، فهو حزب وطني بمعنى عمومية وشمولية تمثيله لكافة التنوعات العراقية ( وهذا هو فرقه عن بقية الاحزاب القومية او الدينية او الطائفية في العراق)، ووطنية وشمولية الشعارات والطروحات والمناهج الوطنية التي طرحها لكل فئات المجتمع العراقي ، ومنه يكتسب مناقشة موضوع الوطنية والشيوعية في العراق واقعيته واهميته.
2. بعض المعايير لتقييس مفهوم الوطنية
لابد أولا من التوقف على مفهوم الوطنية، فهي يمكن ان تصبح شعارا وغطاء لتمرير حتى اعمالا "لا وطنية " عندما تستخدم سياسيا من الحكام والاحزاب والحركات العقائدية المؤدلجة، فهي دوما ما يدعيه حتى اصحاب العقائد الاشد تطرفا ، يمينا او يسارا في العالم ، فالجميع يصبغ شعاراته ويبرر ممارساته انها لخدمة الوطن والمصلحة الوطنية. ومن هنا لابد من فرز بعض المعايير للقياس وتقييم اية ممارسة سياسية هل هي حقا وطنية، ام هي مجرد ادعاءات وشعارات تستخدمها حركات شعبوية، فهتلر مثلا ادعي الوطنية ولكنه دمر بلده وورطها بحرب، ومثله فعل صدام واليوم بوتين.
ان الوطنية هي مفهوم عام تماما ومرتبطة اساسا بالاخلاص للوطن ومصالحه ، وتنمية المشاعر والروابط الوطنية والانتماء الوطني المشترك،ومرتبطة بتطويرالثقافة الوطنية، ومرتبطة بجهود وتوجهات تسعى لتطوير قدرات وبناء الوطن وازدهاره، تماما كما يعمل الفرد على ازدهار وتطوير بيته (وطنه) ، والاعتناء به وجعله جميلا ومرفها وسعيدا ، فالوطن بيت الجميع والوطنية هي توجه ومساهمة لجميع ساكنيه ( المواطنين ) في تطويره وازدهاره. فالوطنية ،من حيث المبدأ ، هي ليست عقيدة كبقية العقائد الفكرية الايديولوجية بقدر ماهي تكاد تكون عقيدة غريزية قائمة على حب الوطن والاخلاص له والعمل على بناءه وتطويره، ومنه فهي مفتوحة على كافة الاجتهادات الفكرية، كل منها يستطيع الادعاء ان عقيدته ومنهجه هي الافضل للوطن ، ومنه كانت الحاجة للديمقراطية كي تقام التنافسية العلنية للمقارنة بين المشاريع والطروحات والاجتهادات للاطراف المختلفة امام الجمهور كي يقرر ايهم اجتهاده اكثر وطنية ويصوت له، والحالة المثالية هنا ان تقييم الاكثر وطنية بمعناها المباشر : الاكثر خدمة للوطن والمواطن بان واحد . والواقع ان ان الديمقراطية توفر الظروف الملائمة لممارسة هذه الحالة المثالية من خلال التنافس واعتبار جميع التوجهات والاجتهادات العقائدية وطنية والامر يترك للناخبين، ومنه فالوطنية والديمقراطية صنوان تقريبا، فطروحات الانظمة الديكتاتورية مثلا المصبوغة بالوطنية او" المصلحة الوطنية " هي ادعاء لاتمثل ولاتعبر غير عن وجهة نظر صاحبها ولايمكن اعتمادها الاكثر صحة وقربا للوطنية والا قبل بالتنافسية في ظروف توفير الحريات وممارسة الديمقراطية . ونظرا لكون جميع الاجتهادات والطروحات للاحزاب والحركات السياسية تصبغ دوما بالوطنية كما اشرنا وكما نجده دائما ، فلابد من اعتماد بعض المعايير والمقاييس لتقييم الاطروحة والفعل والممارسة السياسية للحكام والاحزاب والحركات السياسية لتحديد قربها او بعدها عن الوطنية .
ويمكن ربما فرز ثلاثة معايير للقياس ، وفق مفاهيم العصر الحالي، من ضمن مجموعة ربما هي اوسع، لتشكل اهم المراجع لتقييم الطرح والفعل السياسي انه وطني حقا ، او مدى تجاوبه مع الوطنية واهدافها طرحا وفعلا وممارسة ، وتحديد متى هي شعارات للتغطية على مناهج تدعيها الاحزاب العقائدية لكسب التعاطف كما تفعل الحركات والاحزاب الشعبوية مثلا. ولننظر في هذه المعايير لتقييم طروحات الحكام والاحزاب والحركات السياسية.
1. تبني منظومة الحكم الديمقراطي الذي يؤمن بان الوطن للجميع وليس حكرا على فئة دون اخرى ، والتداول السلمي للسلطة في انتخابات عامة نزيهة ، والايمان باليات تتبع الديمقراطية وهي حرية الرأي والمعتقد للمواطنين ، ومساواتهم ، ومنه تنتج قضية في غاية الاهمية هي الايمان بحيادية الدولة التي ستضمن المساواة في المواطنة، اي المساواة في الامتيازات وتسنم المناصب وفق الكفاءة والمساواة في ممارسة الحقوق الحريات المتساوية لجميع مواطنيها . من هذه القضية بالذات والتي هي ترجمة لمعنى الحكم الديمقراطي ، تتم تنمية الشعور الوطني العام بالانتماء لوطن يعامل افراد عائلته سواسية، ويحترم كيانهم وافكارهم وعدم التمييز بينهم ، فهم سكان البيت الواحد (الوطن) . وواضحا ان اية ممارسة تخرج عن الالتزام بجوهرومفهوم الحكم الديمقراطي الحقيقي، ستعمل على تقويض وتشتيت روح المواطنة ، وبالتالي يكون فعلا ضد الوطنية . ومن هنا يكتسب هذا التقييم اهميته بل هو من أهم الاسس لتقييم وطنية حكم او حزب او حركة سياسية ، مدى ايمانها بنظم الديمقراطية والياتها والحفاظ على حيادية الدولة تجاه مواطنيها وحرياتهم ومساواتهم.

2. تنمية عوامل الالتقاء والانتماء الوطني العام وتطوير الثقافة الوطنية بتنوعها وجعل هذا التنوع احدى الوسائل للاغناء الوطني العام وللثقافة الوطنية نفسها ، ولا توجد غلبة لثقافة معينة على اخرى ولا يتم فرض ثقافة فكرية او دينية واحدة على الدولة الوطنية حقا التي بدورها تحترم وتطور ثقافات كل التنوعات السكانية وتدعمها وفق مسعاها لخلق وتطوير الثقافة الوطنية المشتركة.
3. تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني وهي مهمة وطنية لاتقل أهمية عن اقامة نظم ديمقراطية وتطوير الثقافة الوطنية ، فالفشل الاقتصادي يؤدي لفشل الدولة الوطنية نفسها، كما يخبرنا واقع وتاريخ الامم. واصبح ايضا امرا معروفا ان التطور والازدهار الاقتصادي هو الذي يقف وراء تقوية الوطنية والانتماء الوطني وتقوية الدول الوطنية وجمع السكان حول وطنهم ، فتوفير الخبز هو جزء هام من تنمية الوطنية ، عدا تمكين الدولة من النهوض بالتعليم والتنمية الثقافية ، وضعف الاقتصاد يؤدي لنتائج عكسية تماما. واذ ان تطوير الاقتصاد تبدو ليست مسألة وطنية ومرتبطة بالمشاعر الوطنية بل هي مسألة فنية ولكنها في الواقع تشكل اهمية لاتقل عن تبني شكل نظم الحكم الديمقراطية، بل وحتى اصبحت اليوم معيارا لوطنية الحكم وتقييم طروحات الاحزاب التي تحولت من المباراة السياسية الى المباراة الاقتصادية لكسب الانصار والمؤيدين ، فنجاح السياسة الاقتصادية يؤدي لنجاح طروحات السياسيين باعتباران تحسين وتقوية الاقتصاد وتطوير المستوى المعاشي هي واقع ملموس للناس وافضل خدمة يقدمها السياسيون لوطنهم ومواطنيهم التي يعتبرونها تعبير حقيقي عن الوطنية بما تساهم به من تقوية للوطن وازدهار لحياتهم بان واحد، وهذه اعلى مقاييس الوطنية. ان اهمال تنمية الاقتصاد والاقتصار على خطاب سياسي ايديولوجي ما عاد يستهوي الناس وهم محقون، وما عاد اعتماد نماذج اقتصادية غير كفوءة ،وتغليفها بمفاهيم العدالة الاجتماعية والاشتراكية مثلا، والخطابات السياسية حولها وتوفر النية الصادقة الوطنية لاحزابها ، تقبله الناس ، فلافائدة تتحقق اذا كانت هذه العدالة تؤدي لأضعاف الاقتصاد وتحجيمه وادارته بشكل سياسي دون واقع ملموس اقتصاديا يؤدي لتوفير لقمة كريمة ودسمة لهم، وهم طبعا محقون، خاصة وانهم باتوا مطلعين على تجارب جرت في امم عديدة لم تجني منه غير الفقر ، فهم يطالبون بنموذج يوفر الازدهار والعدالة بان واحد ، وليست عدالة الفقر للجميع. اصبح اليوم واكثر من اي وقت مضى الخطاب الاقتصادي يطغي على السياسي وهو امر جيد ، فخير الناس من نفع الناس وليس من لقن الناس واسمعهم كلاما لايسد رمق ولايسمن كرشا . والاقتصاد اليوم هو علما قائما بذاته وفق قوانينه ونظرياته وتجاربه التي تطورت على مدى عشرات السنين. ان اتخاذ تطوير الاقتصاد احدى اهم ركائز الوطنية تشكل بلا ريب احدى اهم المراجع لتقييم الوطنية في الطروحات السياسية حتى يمكن القول انه لافائدة من سياسة وطنية لاتعمل ولاتؤدي لتطوير الاقتصاد وتعمل على خلق وسائل العيش الكريم وفرص العمل دعك عن ازدهار الوضع المعيشي للمواطن وللسكان.
لاغرابة ان تشكل هذه الاسس اهم المعايير للحكم على الاجتهادات والطروحات التي تتبارى عليها المدارس والاحزاب في الوطنية، فهي اصبحت امرا مألوفا للحكومات والاحزاب السياسية في العالم وخصوصا المتحضر، فالاحزاب لاتتهم بعضها باللاوطنية ، بل تتبارى باظهار وبرهنة ان طروحاتها ومشاريعها تقوي وتطور اكثر الوطنية سواء على مستوى الفرد ام على مستوى الدولة وفق هذه الاسس الثلاثة اعلاه.
ولو طبقنا مثلا هذه المعايير الثلاثة للوطنية على واقع العراق، وعلى الكثير من بلداننا العربية اليوم لخرجنا بنتيجة مدهشة حقا . ان الكثير من حكامها واحزابها ودولها لا تتجاوب وهذه الاسس المرجعية والقياسية (من القياس) لمعايير الوطنية . واضحا سيكون خارجهاالنظم الديكتاتورية فهي تنافي الركيزة الاولى للوطنية اعلاه، يليها الاحزاب الدينية والطائفية فهي تنافي الركيزة الثانية ، اما الاحزاب التي تسعى لاقامة نظم حكم عقائدية بلون واحد ( وتضم الاحزاب القومية والشيوعية والحركات الثورية التي لاتؤمن بنظم التعددية بل بمفهوم الحزب القائد للمجتمع لقيادة التحولات الثورية ) فهي ستقع ضمن المسائلة والتساؤل ان تبرهن انها لو وصلت للسلطة ستقيم نظما ديمقراطية، وهو امرا يصعب برهانه ( حتى لو حلفوا بالعباس ) كون طروحاتها الفكرية تقول عكس ذلك وانها ستقود حركة تحولات ثورية بقيادة حزب طليعي هو حزبها وعلى الباقين الخضوع "للمصلحة الوطنية " وتصفية المعارضين هي اول خطوات النظم الديكتاتورية.
ولكن تمتاز الاحزاب الشيوعية في العالم العربي، ولو اخذنا العراق مثلا، لوجدنا ان الحزب الشيوعي العراقي يضم في عضويته وانصاره ومريديه طيفا وطنيا واسعا يمثل كل العراقيين ، ويتبنى الحزب شعارات وطنية ، ويطرح برامج وطنية ، ومثله في لبنان والسودان وغيرهما.ان التمثيل الوطني يعني ان الحزب يمثل يغطي كل المكونات على التراب الوطني وينمي ثقافة وطنية مشتركة، وهو امر هام لتنمية الروح الوطنية ، خصوصا هذه الايام ، حيث يسود التشرذم الطائفي والجهوي كالذي يعانيه العراق ولبنان والسودان اليوم، انه التمثيل الوطني العام دلالة على الوطنية، والذي هو المحور الثاني للتقييم من بين المحاور الثلاثة اعلاه. ولكن هذا وحده لايكفي ، بل يتبقى الشرطان الاخران الايمان بالحكم الديمقراطي ( ومعناه التخلي عن العقيدة اللينينية كلية وعلنية فكرا ومنهجا ) وطرح نموذجا اقتصاديا ناجحا للوطن وللمواطن ( الذي اصبح يعرف ان النموذج السوفياتي والاقتصاد الاشتراكي بشكل ادارته من الدولة فاشلا ولا يرغب به الناس لفشله فيه كما في بلدان اوربية وصينية وكورية وعربية) . ومنه يمكن تلمس بداية التناقضات بين مفهوم الوطنية التي تؤمن به حقا الاحزاب الشيوعية العربية ، وبين ماتمليه العقائد من طروحات تحيط بعنق هذه الاحزاب الوطنية. ويتضح هذا الامر اكثر خلال مراجعة التجارب والممارسة العملية حينما فرضت العقائد سطوتها ومقولاتها انها هي الاعلى عندما فرضت الظروف الخيار بين طروحات العقيدة او السير وفق المعايير الثلاثة للوطنية اعلاه . ان هذا التناقض شكل اهم العوائق التي وقفت امام الحزب الشيوعي العراقي مثلا في تحقيق طروحاته وشعاراته الوطنية مثل شعاره في السبعينات " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان " بينما هو تحالف وبضغط من السوفيت مع حكم البعث الديكتاتوري متناسيا او متنازلا عن شعاره " الديمقراطية للعراق " لصالح المقولة العقائدية التي فرضت عليه من السوفيت في التحالف مع النظم القومية التقدمية المناوئة للامبريالية، هذه احد الامثلة ، وسنناقش تحت بتفصيل اكثر امثلة من التناقض بين متطلبات "الوطنية" ومتطلبات "العقيدة " الايديولوجية السياسية ، والتي تظهر ان طروحات العقيدة كانت تمثل اكبر عائق امام تحقيق الشعارات والبرامج والمناهج الوطنية في حزب وطني نزيه ويتبنى صدقا الوطنية ( ويدل عليها التضحيات الغزيرة التي قدمها الحزب من اعضاءه ومناصريه في الدفاع عن قضايا الشعب العراقي ،فهي تشهد له على ذلك) . ان مناقشة قضية التناقض هذه من خلال تجارب الحزب الشيوعي العراقي هو جوهر موضوع هذه المقالة وتبيان كيف وقفت العقائد مانعا امام تحقيق الطروحات والشعارات والاهداف الوطنية. والقضية الاهم هنا هي الاجابة على سؤال هل يمكن وضع الوطنية فوق العقائدية ، وليس العكس كما حصل ويحصل، وهل يمكن ترويض العقائد واعادة تفسيرها او تليينها لتصبح خاضعة لمقاييس الوطنية ، وطبعا ذلك وارد لو توفرت الارادة والفكر المبدع في تليين العقائد الجامدة ،تماما كما نقوم بنقد المدارس السلفية التي تسير على النص وليس بروح النص مثلا، وهو ما سننتناوله يضا وباختصار.
3. امثلة للتناقض العقائدي مع الطروحات الوطنية للحزب الشيوعي العراقي
1. العهد الملكي في العراق
لايخفى تاريخيا ان الحزب الشيوعي العراقي وقادته المؤسسين قد تخرجا من مدرسة الوطنية العراقية التي مثلها الحزب الوطني الديمقراطي وجماعة الاهالي والذين ضما خيرة النخب الوطنية المثقفة في المجتمع العراقي، ومنه بقي الفكر والتوجه الوطني هو السائد على طول مسيرة الحزب الشيوعي العراقي . ولايخفى ايضا تأثر قادته بالفكر الثوري الروسي البلشفي والذي وجدوا فيه سبيلا اكثر ثورية من الاحزاب الوطنية التقليدية، كالحزب الوطني الديمقراطي ، لتحقيق المطالب الوطنية واهمها الاستقلال التام للعراق عن الولاء الخارجي لبريطانيا ( رغم ان العراق نال استقلاله السياسي الكامل بانهاء الانتداب عام 1932 وانضم لعصبة الامم كدولة مستقلة عام 1933). ويرجع البعض ان تأسيسه جاء بقرار من الكومنترن والاتحاد السوفياتي ولكن ذلك لاينفي وجود تعاطف من قادته مع الفكر الثوري اللينيني البلشفي وهو الاساس للشروع في تأسيسه، كما لم تفارقهم الدوافع وهذه الطروحات الوطنية بان واحد ،بل اعتبروا انهم ازدادوا وطنية بتبني الفكر ابلشفي السوفياتي كما قال به يوسف سلمان يوسف "فهد " مؤسس الحزب الشيوعي العراقي وقائده حينما صرح في محاكمته في العهد الملكي انه "كان وطنيا قبل ان يصبح شيوعيا ولكن وطنيته ازدادت بعد ان اصبح شيوعيا". ومنه فالشيوعيون يؤمنون ان الفكر الشيوعي يمثل اعلى القيم الوطنية بمحاربة الاستعمار وسيطرة الاقطاع وانهاء الاستغلال الطبقي. ويمكن اعتبار قادة الحزب الشيوعي وقتها يمثلون الجناح اليساري من القادة الوطنيين العراقيين. ولكن يبقى السؤال هنا هو لماذا لجأوا اذن للتنظيم والعمل السري ، الم يكن بامكانهم تأسيس وتسجيل حزب اشتراكي ديمقراطي علني على غرار حزب العمال البريطاني مثلا، والقوانين السائدة في العهد الملكي تسمح بتسجيل واجازة الاحزاب والصحف والجمعيات ، فهي مستقاة من القانون البريطاني نفسه، ومنه يبقى لليوم لغزا حقيقيا لماذا اختار الحزب اللجوء للتنظيم السري مما جعله هدفا للاجهزة الامنية للنظام الملكي التي تشكك في نواياه للقيام بانقلاب على غرار الحزب البلشفي الروسي. ان تحليل ومعرفة هذا الامر له اهميته وتأثيره على مجمل مسيرة الحزب الشيوعي فيما بعد. ولو نظرنا بصورة اعمق لتاريخ تلك الفترة لوجدنا ان ليس جميع الماركسيين العراقيين كانوا متأثرين بالفكر البلشفي ذلك الوقت قدر تأثرهم بالمدارس الاشتراكية الديمقراطية الغربية وكان اغلبهم من خريجي الجامعة الاميركية في بيروت ويجيدون قراءة المصادر والصحف الانكليزية ، بينما ضم الحزب الشيوعي مثقفين اقل اطلاعا ولكن اكثر حماسة لانجاز اصلاحات جذرية ثورية ومنه بقي حزبا صغيرا ثوريا بلشفيا ووطنيا بان واحد يتخذ من اساليب العمل الثوري والدعاية الثورية التحريضية ضد النظام الملكي مرددا لتجارب الحزب البلشفي الروسي والتي تعرف عليها فهد خلال عامين قضاها للدراسة في المدرسة الحزبية للكومنترن في موسكو لاعداد الكوادر بين 1935-1937 ومنه نقل تجارب الثورة البلشفية للعراق وانهى تماما علاقة الحزب الشيوعي بالمدرسة الاشتراكية الغربية ( قرأت كتابا لفهد بعنوان "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية " يعود لعام 1939 وفيه يرد على الانتقادات التي وجهت له من مدرسة المثقفين الماركسيين واليساريين العراقيين مرددا طروحات لينين في نقد الاممية الثانية التي سماها الخائنة لمصالح الطبقة العاملة والمتهادنة مع الامبريالية وهو الخط الذي بقي سائدا على مدى وطوال السنوات للحزب الشيوعي العراقي ، ولكنه بنفس الوقت كان يتبنى الخط والطرح الوطني الذي نشأ منه).
كان ذلك اول مأزق وقع فيه الحزب ( عدا العمل بسرية دون مبرر ، ومنه الصقت به التبعية للسوفيت والبلشفية والا لعمل بشكل علني كبقية الاحزاب الوطنية) .

كان المأزق الاول في الممارسة قد وقع بعد بدء الحرب الباردة الواسعة بين الغرب ممثلة باميركا وبريطانيا من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة اخرى . هنا يمكن تشخيص اول افتراق بين ماتفرضه العقيدة الايديولوجية وبين ما يتطلبه الموقف الوطني من حيادية في هذه الحرب التي ليس للشعب العراقي فيها لا ناقة ولاجمل. فالبلد بحاجة لخبرات الغرب ودعمه لستقلاله وتنميته اقتصاديا وديمقراطيا واجتماعيا وذلك وفق قراءة موضوعية لمتطلبات المصلحة الوطنية العراقية ، فهو ليس بحاجة للانحياز للمعسكر السوفياتي الذي يطرح مسألة خارجية مثل تصعيد النضال ضد الامبريالية في هذه الحرب الباردة التي اخذت نيرانها بالامتداد لدول العالم الثالث وتحويلها لجبهة حارة للصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي. الواقع الوطني للعراق يشير انه اما ان يقف مع الغرب مقابل ضخ الاستثمارات والمعونات لتطوير الاقتصاد والتعليم ونظام حكم اكثر ديمقراطية، او على الاقل الوقوف لجانب الحياد بينهما مستغلا صراعهما للكسب من الطرفين . هنا واضحا تم وضع طروحات العقيدة فوق المصالح الملموسة للوطنية، ومارس الحزب الشيوعي العراقي ما املته عليه موسكو من تصعيد في التحريض على الغرب واتهم النظام الملكي بالعمالة له ، ومنه تم اختصار المطلب الوطني انه "مواجهة الاستعمار والامبريالية " بديلا عن اهم مهام الوطنية والتي هي في جوهرها مسائل داخلية تتعلق باصلاح وتطوير التجربة الديمقراطية للنظام الملكي في العراق ، وتطوير قدرات الاقتصاد الوطني العراقي ، واصبح الدور الاهم للحزب خوض المعارك الايديولوجية الخارجية بين معسكرين كان الاحرى الابتعاد عنها من منطلق وضع المصالح الوطنية اولا ، خصوصا انه بات معروفا ان الانحياز لاحدهما سيعرض البلد لانتقام الثاني في قضية صراع كوني امبريالي بينهما. واليكم مثالا حياتيا بسيطا عن احدى الممارسات التي كان يطلبها الحزب الشيوعي من اعضاءه ، ورواها لنا احد ضحاياها ، وهو خالي بنفسه ، الذي كان صاحب مطبعة في بغداد وطبع سرا بعض منشورات الحزب والقي القبض عليه عام 1956 وحكم بالسجن لمدة عام ، وعند اطلاقه خروجه كان عليه وهو على بوابة السجن ان يهتف علنا بحياة الشيوعيية ويحيا الاتحاد السوفياتي، فاعيد القبض عليه على البوابة ، وحكم لعامين ولم يخرج من السجن الا بعد ثورة 14 تموز عام 58 . وهنا يطرح السؤال نفسه : ما علاقة الوطنية العراقية اساسا بالهتاف لحياة ستالين والاتحاد السوفياتي. اليست هذه اختزال للوطنية وتعريفها بالوقوف الى جانب الاتحاد السوفياتي ، وبمعاداة الغرب ، وهو موقف عقائدي وليس وطني حقا . هذا ماشكل واحدة من التناقضات بين متطلبات العقيدة والوطنية فالغلبة لما تمليه العقيدة واعتبارها انها تمثل الوطنية، ولكنها ليس كذلك ، كما رأينا اعلاه في الموقف من الحرب الباردة مثلا او من معاداة الغرب والعراق كبلد نام بحاجة لخبراته وتجاربه ومساعداته. الموقف الايديولوجي كان عائقا امام فهم الوطنية الحقة بمصالحها ، وجاءت فوق الموقف الوطني حتى في حزب يتبنى خطا وطنيا كالحزب الشيوعي العراقي.

2. تجربة اخرى من الحكم الجمهوري التأسيسي للزعيم عبد الكريم قاسم
طغت تصاعد شعبية الحزب ومده الجماهيري الاسطوري بدعم ملايين العراقيين له بعد برهنة طروحاته بقيام حكم وطني غير خاضع للغرب يقوده رجل وطني وزعيم مخلص ونزيه مثل الزعيم عبد الكريم قاسم . لقد جاءت ثورة تموز كأنها تتويجا ونجاحا لطروحات الحزب خلال العهد الملكي باقامة نظام وطني ( بمعنى غير موال للغرب وفق تعريف الحزب) . وجاءت لغة الزعيم الوطنية بمحاربة الفقر وتحرير ارادة العراق وتطويره بادارة وطنية تعمل على تنمية الاقتصاد وزيادة موارد البلد ، كان هذا خط الزعيم ويناصره الحزب الشيوعي العراقي وهو موقفا وطنيا واضحا ، امام الخط القومي الذي كان يمثله اغلبية تنظيم الضباط الاحرار ممن ساهم في الانقلاب او حضر له او ناصره بهدف الانضمام للمشروع الوحدوي الذي يقوده الرئيس جمال عبد الناصر وللانضمام الفوري للجمهورية العربية المتحدة لتكوين كيان وحدوي كبير يضم البلدان الثلاثة لمحاربة الاستعمار والرحعية ( يقصد الانظمة الملكية العربية ) لتحرير فلسطين. ومنذ الاشهر الاولى بدأت المؤامرات الناصرية على الحكم الجمهوري الجديد في العراق بعدما توضح الخط الوطني الذي يقوده الزعيم بالتحالف مع الحزب الشيوعي والاحزاب الوطنية العراقية بما فيها الحزب الوطني الديمقراطي الذي كانت له حصة الاسد في الكابينة الوزارية للزعيم وكان يعتبر نفسه الاقرب لخط ومنهج الحزب الوطني. وهنا بدأ صراعا اخر يبرز بين صفوف وانصار الوطنية العراقية ، حيث ان الزعيم كان يرى ضرورة حيادية العراق بين الشرق والغرب خطا وطنيا ولم يسع للتحالف مع السوفيت ضد الغرب، بل بالتعاون معه وبنفس الوقت ادامة علاقات ودية وطبيعية مع بريطانيا واميركا، وكان ذلك ايضا خط الحزب الوطني الديمقراطي، ولكن تصاعد المد الثوري الشعبي المناصر للحزب الشيوعي العراقي كان يمارس ضغطا بل وتهجمات وهجومات على كلا التيارين القومي والوطني المعتدل ولو بدرجة اقل وانتهت السنة الاولى من الحكم الجمهوري بمحاكمات عسكرية لقادة انقلابات ناصرية من نفس مجموعة الضباط الاحرار وحكمت باعدامات نالت منهم كما من رجالات العهد الملكي ، وانتقل الصراع للشارع بين الوطنيين وهم اغلبية الشعب العراقي والقوميين وهم اقلية اغلبهم من العسكر ومن شباب قومي متأثر بافكار الناصرية والوحدة العربية وبافكار عفلق والبعث.
في العام الثاني للجمهورية بدأ الزعيم يدرك تدريجيا ان البلد يسير للتطرف السياسي لصالح السوفيت يقوده الحزب الشيوعي كما وارعبه هذا المد الجماهيري الواسع للحزب وسيطرته على الحياة السياسية للبلد فبدأ باجرآت لتقليص نفوذ الحزب والوقوف بوجه ما بدا له خطر توجه العراق تدريجيا نحو الشيوعية وفي العام الثالث بدء بسياسة منهجية لهذا التقليص وابعاد مناصري الحزب واعضاءه من مناصب هامة في الجيش والاجهزة الحكومية وتحويلها لصالح اعداء الحزب والشيوعية من قوميين معروفي التوجه وذلك ضمن معادلة توزان القوى ليبدو الزعيم وكأنه يمسك العصا من المنتصف وان العراق لن يتحول لا الى الناصرية ولا للشيوعية ، وهو موقف شخصه الحزب الوطني الديمقراطي الذي تعرض بدوره لتهجمات الحزب الشيوعي حينما طالب الاول باقامة دستور ديمقراطي دائم وتنظيم انتخابات لبرلمان وانتخاب رئيس للعراق واعتبرها دعوات برجوازية وفق وصفات غربية منقولة من البلدان الاستعمارية. واستمر الحزب الشيوعي العراقي في دعم الزعيم الأوحد رغم ان الزعيم كان يفض التحالف الغير معلن ويقلص من نفوذ الحزب الشيوعي بل وبدأ يحاربه علنا خوفا من تمدده والاستيلاء اخيرا على السلطة ، مما يهدد منصبه ، وحرصه كزعيم وطني على عدم تحويل العراق لبلد تابع للسوفيت، كلاهما معا.

لنناقش هنا المشهد من زاوية ثانية ، ونطرح سؤالا يتعلق بالوطنية : لماذا لم يطالب ويطرح الحزب الشيوعي العراقي شعارا ومنهجا ومطلبا بتحويل نظام الحكم في العراق زمن الزعيم عبد الكريم الى شكل الحكم الديمقراطي البرلماني الانتخابي ؟ هنا لابد من قراءة لما تقوله العقيدة من السير في التحولات الثورية لصالح المعسكر الاشتراكي وما تتطلبه الوطنية من مطلب للتحول للنظام الديمقراطي وارجاع عمل البرلمان والسلطات المنتخبة. واختار الحزب الشيوعي ان يسير بما تطلبته العقيدة البلشفية التي طالما اعتبرت ان البرلمان شكلا من اشكال الاحتيال البرجوازي لتضليل الطبقة العاملة كما كتب لينين وكما كانت تبشر به الستالينية والدعاية السوفياتية ، وخاصة ان نهاية الخمسينات شهدت مرحلة سياسة خروشوف وقبوله بنظم محايدة وفق سياسة التعايش السلمي التي طرحها وقبل بالحياد الايحابي واعتبره نصرا للسوفيت وكسب عبد الناصر وسوكارنو ونهرو ، على خلاف ستالين الذي كان لايقبل باقل من نظم موالية تقف علنا مع الاتحاد السوفياتي ضد الغرب والتحرر من الامبريالية والرأسمالية العالمية واتباعها واذنابها من النظم الحاكمة في البلدان الغير تابعة للهيمنة السوفياتية.
هنا سار الحزب الشيوعي على خطى خروشوف ولم يسعى للاستيلاء على السلطة كما قالت به البلشفية والستالينية بل اكتفى بدعم حكم وطني محايد حتى لو بدء هذا الحكم بالتضييق عليه وحتى محاربته وفقا لمعادلات خروشوف. ومنه ترى الجمود التام للحزب الشيوعي ، فلاهو قام بالمطالبة بالتحول للنظام الديمقراطي ( والعقيدة تقول ان البرلمانية برجوازية خادعة للشعوب وفق النصوص اللينينية السوفياتية) ولا هو قام. بثورة اشتراكية كما دعا لها لينين والبلاشفة ، بل اكتفى بما املاه خروشوف وطلبته القيادة السوفياتية وقتها بدعم الحكم الوطني والدفاع عنه ( وهو نفس الموقف من عبد الناصر في مصر).
ان هذا الموقف التابع لسياسات السوفيت يناقض تماما اية قراءة وطنية في متطلبات مرحلة ما بعد ثورة تموز 58 واهمها العمل على ارجاع الحكم الديمقراطي في الجمهورية الوليدة بعد تحول الحكم لزعيم عسكري وطني يمثل السلطة والدولة بشخصه. ان التحول من نظام بقيادة حاكم عسكري وطني الى حكم برلماني ديمقراطي هو صمام الامان للمجتمع ، وهو اول اوليات الوطنية ، وهو ما طالب به الحزب الوطني الديمقراطي وتعرض لهجمات من الحزب الشيوعي واتهامه بالبرجوازية ونقل تقاليد الغرب الاستعماري، وانتهى العهد الجمهوري الاول بمأساة اغتيالها بانقلاب عسكري بعثي قومي نجح بمجرد اغتيال الزعيم عبد الكريم لانهاء عهد الجمهورية الوطنية والبدء بتصفيات مرعبة للشيوعيين وكافة الوطنيين ( سماهم القاسميين ممن وقفوا ضد المد القومي ودمج العراق تحت قيادة الناصرية) نالت عشرات الالاف وانهت تجربة وطنية كان لها كل امكانيات النجاح لو امكن تحويلها الى اقامة اركان واسس نظام برلماني ديمقراطي واجازة الاحزاب لتتنافس واقامة حرية الصحافة وبناء دولة وطنية ديمقراطية مستقرة وشرعية دستورية وليس حكم الزعيم الاوحد الشعار الذي رفعه الحزب الشيوعي العراقي.

هنا واضحا وقفت الطروحات العقائدية الايديولوجية مع التبعية المطلقة للسوفيت عائقا امام تنفيذ الشعارات الوطنية للحزب الشيوعي العراقي سواء في رفعه شعاره العتيد " وطن حر وشعب سعيد" او " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان". فالديمقراطية تأتي شعارا وليست هدفا كما هو مفروضا من رفع هذا الشعار.

3. تجربة الحكم العارفي ( الجمهورية القومية الاولى )
ما ان انقضى عام 1963 الدموي والذي ارهب المجتمع العراقي بكامله وراح ضحية القمع الاف الضحايا حتى تفاجأ المجتمع العراقي ان نفس القوى القومية التي حاربت الشيوعية والوطنية في العراق قد اعلنت تبنيها للاشتراكية وسمتها بالعربية وعلى الطريقة الناصرية التي باركتها السوفياتية في تأسيس الاتحاد العربي الاشتراكي كحزب يجمع القوى القومية والقوى التي تؤمن بالاشتراكية لتكافح ضد الاستعمار واعوانه من الرأسمالية . وقامت بالتأميمات لشركاتها من نسيج وحلويات وزيوت لتتحول الى الاشتراكية. سبحان الله كيف سيكون الموقف ،من ذبحك قبل اشهر ينفذ ما كنت تدعو اليه بالقضاء على المستغلين الرأسماليين ( وهم مساكين حقا كانوا يساهمون بتطوير اقتصاد البلد فوقع الغضب ووضع تخلفنا عليهم وانهم اعوان الغرب والاستعمار) ومنه طلب خروشوف ان يؤيد الحزب الشيوعي نظام الحكم واجرآته التقدمية والاشتراكية ( وياريت لو عرف خروشوف ان عبد السلام عارف رجل شبه امي ولايستطيع حتى كتابة مقالة عن معنى الاشتراكية ولا حتى الرأسمالية دعك عن خطاب بسيط يلقيه ذو معنى للمواطن بل عبدا وببغاء اميا لعبد الناصر) ، وهذا فعلا ما دعى اليه به ماسمي بخط اب 1964 تنفيذا لدعوة السوفيت حتى وصولا لحل الحزب الشيوعي لنفسه والانضمام للاتحاد الاشتراكي ( كما فعل الحزب الشيوعي المصري بحل نفسه لانتفاء الحاجة اليه مع تحالف عبد الناصر مع السوفيت). هنا تمردت القاعدة الوطنية للحزب الشيوعي على الخط السوفياتي، ربما هذه لاول مرة في تاريخ الحزب واجبرته على رفض هذا التوجه وطالبت الحزب بمواجهة نظام القتلة العساكر القوميين والبعثيين ومحاسبتهم على جرائم هائلة لم يشهدها المجتمع العراقي من قبل ، بدل الانضمام لهذه الجوقة العسكرية الديكتاتورية الحاكمة والتي تقلد نظام ناصر القمعي الديكتاتوري وكلاهما نال مباركة السوفيت وتحولهما الى نظم تحرر وطني مناهضة للاستعمار وغيرها من الاوصاف السوفياتية .
ولكن لنتوقف هنا على نموذج الاقتصاد الاشتراكي السوفياتي وشكله البدائي بالتأميمات التي قام بها النظام الناصري والعارفي فالاول يشكل نموذجا يحتذى من الثاني ويتلخص بوضع الدولة يدها على المرافق والمنشآت الصناعية والمصرفية والمواصلات وغيرها واخضاع الاقتصاد لادارة الدولة ويدار وفق التخطيط المركزي ويطلق عليه الماركسيون والشيوعيون اسم " الاشتراكية العلمية " ولا احد يعلم اين العلم هنا واين هي وماهي القوانين العلمية التي تقوده اذا كان عسكر مثل عارف وناصر او قائدا سوفياتيا ذو تعليم ابتدائي اقل من متوسط مثل ستالين هو الذي يقوده . اثبتت تجارب البلدان العديدة ( وعليه يعذر عام 1964 شيوعيي العراق ومصر باعتبار ان التأميمات ووضع المرافق باشراف وادارة الدولة ستؤدي لتطوير الاقتصاد وتقيم العدالة الاجتماعية ) ان هذا النموذج فاشل وفشل كليا في تطوير الاقتصاد ونموه في ظروف عادية ( غير العمل القسري شبه المجاني والمراقبة البوليسية ) وادى لتفشي الفساد الحكومي ووخلق طبقة بيروقراطية موالية للحكام تمارس الفساد ومجمل القول ان فشله وصل لحد تخلي الصين عنه والاخذ بنظريات اقتصاد السوق الحر والمنافسة . وعموما يمكن اليوم الادعاء وبكل ثقة انك اذا اردت تخريب اقتصاد بلد ودفعه نحو الانكماش والفساد فعليك بوضعه تحت اشراف وملكية وادارة الدولة واجهزتها البيروقراطية ، ومنه يسقط اساس هذا النموذج النظري في تطبيقه العملي ( وفشلها العملي يعني فشل العلمية في هذه الاشتراكية المسماة "العلمية" بتحويل ملكية وسائل الانتاج من خاصة الى ملكية عامة، اي عمليا للدولة ، فهي اثبتت انها غير علمية من نتائج تطبيقها عمليا وهي بترجمتها للواقع اجراءات سياسية للسيطرة على الاقتصاد من السلطة الحاكمة تؤدي في النهاية للديكتاتورية وتقوية جهاز الدولة التسلطية اضافة للفشل الاقتصادي) . وهنا تسقط ايضا جذور ودوافع نشأتها تحت يافطة اقامة العدالة الاجتماعية ومنع الاستغلال وازالة الفوارق الطبقية ، فهي ليست حلا لبلوغها كما اثبت الواقع ، بل كوارث ديكتاتورية ( وتراها اليوم في متاحف التاريخ الطبيعي والواقعي ايضا كما في كوريا الشمالية ). وهناك حلولا علمية ومطبقة اليوم دون اقامة نظم ديكتاتورية واستطاعت تحسين الاوضاع الاجتماعية والازدهار المعاشي للسكان واقامة برامج للعدالة الاجتماعية دون قرقعات ثورية ادت للديكتاتورية والقمع ومصادرة الحريات وتسلط السلطات. ان الوطنية الحقيقية تقوم على الاخذ بنماذج ناجحة لتطوير ونمو الاقتصاد والتنمية التي تؤدي لازدهار المجتمعات اقتصاديا وليس الاخذ بمقولات ايديولوجية لادارة الاقتصاد وهذه قضية تمثل تناقضا بين متطلبات الوطنية بالازدهار الاقتصادي وعقائد نظرية من القرن 19 شكلت جوهر حركات سياسية كالماركسية اثبت الواقع فشلها ومنها فهي تقف عائقا امام متطلبات الوطنية ، وهو امرا يمثل واحدا من التناقضات التي عاشها الحزب الشيوعي العراقي كما هو واضحا من تجربة التأميمات عام 1964 والتي منها ولحد اليوم لم يتعافى الاقتصاد العراقي ولا المصري وكل المؤسسات التي تم تأميمها هي اليوم فاشلة ومفلشة وتشكل عبئا على ميزانية الدولة ، عدا عن فشل تحقيق نمو اقتصادي وطني يتناسب مع زيادة عدد السكان اضعافا امام عجز الدولة عن تطوير الاقتصاد خارج الموارد الريعية.

4. تجربة الجمهورية القومية الثانية ( الحكم البعثي في العراق)
عاد البعث عام 1968 للسلطة بانقلاب عسكري واذيع البيان الاول وبنفس اصوات ووجوه المتآمرين والقتلة ولكن هذه المرة رفعوا بشعارات اشتراكية والوقوف مع المعسكر الاشتراكي في معاداة الاستعمار والامبريالية واسرائيل والصهيونية . وقام البعث بعد سنتين بتأميم استخراج النفط من الشركات الغربية وتسويقه من الدولة ، والاعتراف بالمانيا الديمقراطية، كلاهما كأعلان لوقوف النظام والتضامن مع المعسكر الاشتراكي ، ورحب السوفيت بهم ودعا لدعم التوجهات التحررية الاشتراكية لنظام البعث في العراق، وهو ماحصل صبغ وتتويج نظام قمعي ديكتاتوري انه تقدمي تحرري ذو توجهات وطنية واشتراكية ووقع معاهدة صداقة وتعاون مع السوفيت وجميعها هي قمة مطالب الحزب الشيوعي قد تحققت حسب السوفيت ومنه تم عام 1973 اعلان تحالف ثنائي الجبهة الوطنية التقدمية واعطاء وزارتين للحزب الشيوعي واذن باصدار جريدته طريق الشعب ومنشوراته الفكرية الثقافية . هكذا تم اختصار شعار " الديمقراطية للعراق " بهذه الاجراءات ، ولم يطالب الحزب مثلا بحل مجلس قيادة الثورة واحلال برلمان منتخب واقرار دستور ديمقراطي للبلاد تتحاور عليه الاحزاب السياسية لارساء اسس الديمقراطية في العراق ، كما طالب به قائد قومي ، سمي وقتها انفصالي واقطاعي ورجعي، الملا الوطني مصطفى البرزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني ، والتي وضعها ضمن شروطه للانضمام للجبهة البعثية التقدمية، بينما انصاع الحزب الشيوعي لتعليمات السوفيت واخذ بتنظيرهم بامكانية التحول للاشتراكية دون المرور بالرأسمالية ( وطبعا طز بالديمقراطية والحريات والخ من القضايا الوطنية)، فالمهم التضامن مع السوفيت والمعسكر الاشتراكي لدى كلا الطرفين السوفيت والحزب الشيوعي وقد التقطها البعث جيدا ليحيد ويقلص دور الحزب الشيوعي بعدما ارتبط مع السوفيت مباشرة .ولم يطل الامر اكثر من خمسة سنوات ليبدأ بتصفية واسعة للحزب الشيوعي اغتيالات وابادة وتشريد وتسقيط تجري على نار هادئة ووساطات سوفياتية بالرفق مع رفاق الطريق في التحول للاشتراكية دون الحاجة لخزعبلات الرأسمالية وادعاءات بالديمقراطية والحريات.
ومن جديد نجد الحزب الشيوعي العراقي يناقض في الممارسة ترجمة شعاره الاساسي " الديمقراطية للعراق" و‏كأن الديمقراطية برقعا يكبره ويصغره ويرتديه او يخلعه متى ماشاء وكيفما يشاء السوفيت . والواقع ان فهم الديمقراطية كان دوما محل التباس في فهم الحزب الشيوعي لها، فهو كحزب وطني يعي ويعمل على اقامة الديمقراطية من اجل اطلاق الحريات للعمل للاحزاب الوطنية ،فهو ربما يفهمها بانها السماح للحزب لنشر افكاره ومبادئه ووقف القمع السياسي في العراق، واذا توفر ذلك ولو بنطاق محدود، كما حصل زمن الجبهة مع البعث، يكون قد اكتفى ، اما الالتباس الثاني فاساسه عقائدي ويرجع الى الطرح اللينيني الستاليني في نقد ديمقراطية الغرب وتسميتها انها زائفة لخداع الجماهير والديمقراطية الحقيقية لن تقوم الا بالقضاء على الرأسمالية كنظام اقتصادي وتحويل وسائل الانتاج الى ملكية عامة والديمقراطية الصحيحة الوحيدة هي تلك التي تقوم في نظام اشتراكي لا طبقي حيث تنتخب الجماهير ممثليها للسلطة دون البرجوازية. ان هذا الطرح وحده يتنافى مع الشعار العام " الديمقراطية للعراق" وترجمته توجب ان تكون مثلا " الاشتراكية طريقنا للديمقراطية " لتتوافق مع اصل العقيدة اللينينية التي تسير عليها الاحزاب الشيوعية. انه من جديد التناقض بين الهدف الوطني العام وبين الطروحات العقائدية " اللينينية التنظير الستالينية التطبيق " التي يعتنقها الحزب وهي تعيق الحزب الوطني من تحقيق شعاراته واهدافه التي لايشك احد باخلاصه لها ولكنه محاط بفكر جامد وسوفيت يعيق ترجمة شعاراته واهدافه الوطنية وتحالفه مع البعث وقبوله بحكمه الديكتاتوري وتخليه عن شعاره " الديمقراطية للعراق" كما اعلاه خير مثال على ذلك.
وبعد تنكيل البعث نهاية السبعينات انتفضت القاعدة الوطنية للحزب وفرضت خوض الكفاح المسلح لاسقاط النظام الديكتاتوري وهو موقفا وطنيا شجاعا وحازما لمواجهة الديكتاتورية الصدامية واجهزتها الامنية والمخابراتية القمعية بينما اختفى وتوارى عن الانزار منظروا امكانية الانتقال للاشتراكية دون المرور بالرأسمالية ودعم انظمة التحرر الوطني الديكتاتورية في التحولات التقدمية وغيرها من الخزعبلات السوفياتية لصبغ الديكتاتوريات التي تقف معه في الدول العربية والعالم الثالث. ان الوطنية والديمقراطية متلازمتان ،بل ان الوطنية هي في اقامة نظم ديمقراطية ، وترجمها الحزب الشيوعي ان الوطنية هي الوقوف مع المعسكر السوفيتي ضد الغرب حتى ولو كان من نظم ديكتاتورية كنظم ناصر في مصر والبعث في سوريا والعراق، وهو موقف عقائدي لاعلاقة له بالوطنية ،وكما رأينا حتى يضر بها ، ومنه فهي عقبة افقدت الحزب الشيوعي الوطني اساسا قدرته على تحقيق شعاره الاساس كما واوقعته في هفوات اضعفت دوره الوطني والسياسي لكثرتها وتناقضاتها المتكررة، واغلبها كما وجدنا يمكن ارجاعه للقيد العقائدي الجامد الذي يكبل هذا الحزب الوطني والجماهيري وهي المسؤولة عن تقليص دوره الاجتماعي والسياسي وبتنازل على مدى العقود. ولو توفرت للحزب التحرر من هذا القيد ، وهي احد امرين ، اما بقيادة مفكرين مبدعين وليس بتأثير وقيادة حزبية ببغائية للسوفيت ، او بتبنيه وفهمه للماركسية والديمقراطية وفق ظروف العراق بعيدا عن طروحات اللينينة والستالينية، وافضلها ربما هو فهم وترجمة الوطنية بمقوماتها واسسها كونه حزب وطني عراقي يساري في جوهر توجهاته .

5. تجربة الحزب الشيوعي بعد عام 2003
ينتقد غلاة الشيوعيين ( اسرى العقائد والمقولات اللينينية والبلشفية الثورية) الحزب الشيوعي انه شارك في مجلس الحكم الذي اقامه الاميركان بقرار من بريمر، وينتقدوه انه يشارك في الانتخابات ( التي تزورها طبعا الاحزاب الاسلامية السلطوية) او يتحالف مع الصدر وغيرها من امور وكأنهم يدعوه ليصبح كما قرؤا في الكتب حزبا بلشفيا او ماويا ليحرض الجماهير على التمرد والثورة والاستيلاء على السلطة . عكسه كانت قراءة الحزب الشيوعي للاوضاع صحيحة من ناحية التقييم وفق معايير الوطنية، ومنها توجهه الواضح لتقوية وارساء الديمقراطية الناشئة في العراق ، والدفاع عن الحريات المدنية، وتركيزه على تقوية الهوية والانتماء الوطني العراقي ومواجهة التحريض الطائفي والمحاصصة الطائفية لاقتسام غنائم السلطة . ان منتقدي الحزب الشيوعي ينسون ان المجتمع العراقي الذي انكفأ على نفسه وسيطر الفكر الديني والسلفي عليه هو غير المجتمع المتمدن المتطلع للمستقبل كما كان بالامس في الخمسينات والستينات بل مجتمعا حولته الديكتاتورية نتيجة للقمع والحرمان الى لقمة سائغة للسلفية الدينية ، وصار الفرد العراقي يعمل والقبر امامه ليفوز بالاخرة الموعودة بدل التطلع للعيش للمستقبل المزدهر، ومن هذا التوجه العام صعدت مافيات الاحزاب والحركات الدينية والجهوية لتسيطر على السلطة والدولة وتكون ميليشيات وتتقاسم السلطة كمغانم .
ليس الحزب الشيوعي مسؤولا عما حدث بعد عام 2003 من فوضى وتسيب وفساد سياسي ،فالاميركان وفوضاهم السخيفة بانعدام رؤيا وخطة لادارة العراق بحكومة وطنية تأخذ زمام الامور ( كما فعل الانكليز مثلا عام 1920 بتتويجهم فيصل ملكا وطنيا على العراق ) وليست بمجالس طوائف وملل ونحل كما فعلوا في مجلس الحكم واستفادت منها الاحزاب الدينية والطائفية والجهوية وفيما بعد مافياتها وميليشياتها ، فتركة النظام السابق والاميركان هما المسؤولان عن هذه الفوضى التي لايزال يعيشها العراق حتى اليوم . ويكفي الحزب الشيوعي العراقي فخرا انه الوحيد لم تتلوث يده بمال وفساد وميليشيات ، وهذا دليل اخر على وطنية الحزب وامانته الوطنية على مصالح الشعب العراقي.
واذا وجه نقدا للحزب الشيوعي فهو يتوجه لادائه الضعيف في التأثير على الحياة السياسية ومجرى الامور في العراق بعد 2003 ، وتحليل هذا الامر بصورة موضوعية سيرجعنا من جديد الى تشخيص نفس الطوق العقائدي والايديولوجي الذي يحيط به ويمنعه من السير بطروحات وبرامج تتطلب منه الخروج من هذا الطوق والانطلاق الى فضاء اوسع يمكنه من طرح برامج جريئة تناغي جمهورا واسعا وجذبهم اليه ( بدل ضغط 500 مؤدلج بلشفي يمكنه كسب 50 الف مواطن مساند له ) ، والفضاء الذي اقصده هو فضاء الوطنية الغير مقيدة بالايديولوجية بخطابها وطروحاتها الجامدة ومناهج العمل والنشاط ومخاطبة الناس وفق الطرق البلشفية القديمة المتبالية ، والانفتاح على تجارب ناجحة في العالم الذي لازال مؤدلجوا الحزب يدعونه الرأسمالي في حين ان العالم اليوم تغير كليا حتى عن قبل خمسين عاما فما بالك بطروحات قبل مئة عام واخرى تصور عن العالم تعود لزمن ماركس قبل 150 عاما . في عالم اليوم مساهمة الفرد في الدخل القومي في سنغافورة مثلا اعلى من اميركا وبريطانيا ، ومنه ضرورة الانفتاح على فهم العالم وطرق تطوير اقتصاده اليوم تختلف كليا عما تطرحه الايدييولوجيا . فالخروج من طوق الطروحات الايديولوجية البالية واحدة من اهم المهام والتوجه كليا لفضاء الوطنية باسسها واعمدتها ، وهل يوجد حزب اكثر جدارة اليوم من الحزب الشيوعي بتاريخه وتضحياته من تزعم الوطنية العراقية وهو حتى جديرا بتحويل اسمه الى الحزب الوطني العراقي فيما لو قرر التوجه الى هذا الفضاء، فهو متناسقا حتى مع تاريخه وتاريخ مؤسسيه ( كان فهد مثلا مراسلا لصحيفة الاهالي للحزب الوطني الديمقراطي) ومجمل مثقفيه واعضاءه وشهدائه هم وطنيي العراق بحق حملوا الوطنية عنوانا لتضحياتهم وهم ليسوا من غلاة الدعوة الماركسية ـاللينينة السوفياتية، فهم في تضخياتهم عنوا التضحية للوطنية العراقية وليس كالسلفية التضحية لافكار الاديولوجيا الدينية. ان جوهر المشكلة التي واجهتتهم والحزب الشيوعي كان طوق وطروحات الايديولوجيا التي وقفت دوما عائقا ومانعا امام ترجمة اهدافهم وبرامجهم وتطلعاتهم الوطنية العراقية.
وفي سياق النقد الموضوعي وما يدعم الدعوة للتوجه للفضاء الوطني والتخلص من ذلك الطوق الايديولوجي الجامد هو ذلك الفشل الانتخابي الذي يعانيه الحزب الشيوعي ،والذي لوطنيته المفروض ان يحصد حصة الاسد فيها، ولكن عدم اهتمام الحزب بها والتحضير الواسع لخوضها ، ومعرفة كيفية خوضها باعتبارها اهم مهام اي حزب في العالم ، كان احد اسبابها ، هو راجع بجزء كبيرمنه الى تعود الحزب على الحياة السرية البلشفية ، فهو في الحياة السرية يمكنه ب500 عضو التأثير بالشارع بخطاب سياسي تحريضى مثلا ( على طريقة البلاشفة )، ولكن في خوض الانتخابات لاقيمة للخطاب السياسي بل الاهمية الاولى هي للخطاب الاقتصادي الذي يجذب 500 الف ناخب يبحثون عن فرص للعمل ، فلايهمهم نقد الرأسمالية والامبريالية العالمية والنيوليبرالية وغيرها مما قرأناه في بيانات وخطاب الحزب الشيوعي ولجنته المركزية في انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة مثلا، الناس تبحث عن حلول وبرامج لتحسين ظروف عيشها ، توضح لها البرامج والاليات كيف سيوفر فرص العمل وكيف يحسن مستوى المعيشة وكيف سينمي الاقتصاد والازدهار، وهو امرا يهمله الحزب ويركز على الخطاب السياسي ، وعقائده تمنعه عن طرح برامج لجذب الاستثمارات لتنمية الاقتصاد مثلا ( باعتبارها رأسمالية ) ،ولم يبادر بطرح مشاريع واسعة للبنى التحتية تستوعب تشغيل مئات الالاف ويفصلها للناخبين مستفيدا من تجارب دول عديدة في العالم للقضاء على البطالة . انه الانفتاح على تجارب العالم والتوجه للفضاء الوطني الصرف والتخلص من عقد الايديولوجيا واطواقها " وزناجيلها المقيدة " هو من يقف امام الحزب لتحقيق نتائج انتخابية جيدة .
الخلاصة والنتيجة المكثفة
ان سبب الاخفاقات لحزب وطني عراقي عريق كالحزب الشيوعي العراقي في اجتهاداته العملية بتحقيق وترجمة اهدافه وشعاراته وتطلعاته الوطنية تعود في تحليلها، وكما تم في هذا البحث المقتضب بتقديم امثلة عديدة على فترات متنوعة من حكم العراق، الى ذلك الطوق الايديولوجي الذي احاط بحرية الحزب نفسه لطرح قراءاته الوطنية بدل الترديد لمقولاتها الجامدة او السير بالطروحات السوفياتية .ان ترجمة هذه الاهداف الى الواقع قد فشل بسبب غلبة المقولة العقائدية التي وضعت نفسها قيدا مقيداوكانت لها الغلبة . واليوم ، واكثر من اي وقت مضى ، يطرح الامر نفسه بنفسه، ان ينطلق الحزب الشيوعي العراقي بدون قيود الايديولوجيا الى فضاء الوطنية ،التي اثبتت قيود طروحاتها انها لم تعد تتماشى وظروف العصر الحالي دعك عن ظروف العراق. والدعوة هنا هل يتمكن الحزب من قلب الاية وترويض العقيدة لتكون الوطنية هي القائدة والعقيدة تابعة ، وهل سيقلل من شأن الحزب الشيوعي العراقي لو اعلن نفسه مثلا تغيير اسمه الى " الحزب الوطني العراقي " وهو اسم ولقب ذهبي يستحقه بكل جدارة ، ويتماشى مع تاريخه وتضحياته وشهداءه ومثقفيه الوطنيين وشعبيته وانصاره، ولم لا تكون هذه هي نقطة الانطلاق الى الاعلان عن تبنيه للفضاء الوطني الواسع وقيادة الاصلاح الوطني العام للوضع الردي في العراق ، انها نقلة جيدة لبداية استرجاع المد الجماهيري والدعم الواسع من جميع العراقيين الذين يرونه حزبا وطنيا مسمى باسمه كونه كان دوما نزيها ومتفانيا لخدمة القضايا الوطنية للشعب العراقي رغم هفواته المتأتية من قيود الايديولوجيا كما تم طرحه ومناقشته اعلاه. طبعا القرار للحزب واعضاءه اولا كما ويمكن فتح حوار عراقي صريح لمساعدة الوطنية العراقية على النهوض في هذا الزمن الردي.
د. لبيب سلطان
22/03/2024



#لبيب_سلطان (هاشتاغ)       Labib_Sultan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نافالني رمزا لادانة الاستبداد والدولة البوليسية
- الاسس الخمسة لبناء الدول القوية والمجتمعات الناجحة
- مطالعة اضافية في سبل اصلاح اليسارالعربي
- أليسار الاجتماعي واليسار الماركسي عالميا وعربيا
- مناقشة لمقترح السيسي في حل الدولتين
- ‏ نقد الخطاب السياسي العربي
- حول علاقة الفلسفة بالعلم واللاهوت والايديولوجيا
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
- حماس وحزب الله لايمثلون قضية الشعب الفلسطيني بل قضية اية الل ...
- العولمة السياسية وتحديات القرن 21
- قراءة (1) في تحديات القرن الحادي والعشرين
- في نقد الماركسية العربية
- حلول العلم والايديولوجيا للتخلف العربي 2
- المنهج العلمي والايديولوجي لحلول التخلف العربي
- فهم نظرية تعدد الاقطاب وانعكاسها على العالم العربي
- معركة اليمين واليسار في الهجرة الى الشمال
- فهم اليمين واليسار في عالمنا المعاصر
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
- فهم تجربة الصين وأهميتها للعالم العربي (فهم العالم المعاصر ـ ...
- فهم الرأسمالية وعلاقتها بالليبرالية ( فهم العالم المعاصر 2)


المزيد.....




- عباس: أمريكا هي الدولة الوحيدة القادرة على منع إسرائيل من ال ...
- هل غيرت الضربات الصاروخية الإيرانية الإسرائيلية الشرق الأوسط ...
- كيف وصل مصريون قُصّر غير مصحوبين بذويهم إلى اليونان؟
- جهود دولية حثيثة من أجل هدنة في غزة - هل تصمت المدافع قريبا؟ ...
- وسائل إعلام غربية تكشف لكييف تقارير سيئة
- الرئيس السوري يستعرض مع وزير خارجية البحرين التحضيرات للقمة ...
- -ما تم بذله يفوق الخيال-.. السيسي يوجه رسالة للمصريين بخصوص ...
- روبوتات -الساعي- المقاتلة الروسية تقتحم مواقع العدو وتحيّد 1 ...
- روسيا.. قانون جديد يمنح -روس كوسموس- حق بيع بيانات استشعار ا ...
- اكتشاف صلة بين فيتامين الشمس والاستجابة المناعية للسرطان


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - لبيب سلطان - جدل ألوطنية والشيوعية في العراق