أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سعد سامي نادر - تذكارات عائلية بين أخي سهيل وأبي سامي نادر مصطفى 2















المزيد.....

تذكارات عائلية بين أخي سهيل وأبي سامي نادر مصطفى 2


سعد سامي نادر

الحوار المتمدن-العدد: 6651 - 2020 / 8 / 19 - 10:21
المحور: سيرة ذاتية
    


تصحيج في عنوان الرواية
ما كشفته سابقا لكم، ليس سراً خطيراً كون "الريفيرا العربي" عنوان رواية وليس اسمَ شاطئ سياحي عربي. رواية عراقية كان قد كتب فصولا منها أخي سهيل، وتركها دون تكملة، حتى أنه لم يشِر إليها في كتاباته.
سهيل مثقف وجودي مهموم ، مشغول بالتأمل والفلسفة والموسيقى وأدبيات الفكر الانساني، وبقدر ما هو معروف باحتراساته، ومثاليته في تقديم كتابة مقنعة، امتلك أسباباً في عدم تكملة ونشر روايته ، أسباب، كما أرى، تتعدى كثرة نسيانه وسهوه ولامبالاته. الرواية بقدر ماهي فن أدبي سردي، هي جهد ذهني جبار ومضني، يستغرق كل ما يحتاجه من الزمن، ومن تفرغ تام لإتمامها، هذا إضافة لما يملكه الكاتب من سعة معرفة وموهبة وأدوات وألاعيب لغة مطاوعة و خيال خصب. لكن يبقى نجاح بناء ومضمون الرواية يعتمد على ما تطرحه من فكرة جديدة لم تُطرق، أو مجموعة أفكار ملهمة. فكيف الحال مع سهيل؟ لنقرأ ما كتب:
(... بيد أن الأفكار دائماً حزينة ، ناقصة ، غير تامة ، تحتاج الى زمن ، في حين يفسدها الزمن ويبددها. تجعلك الأفكار تعتقد أن عملا ناقصا ما زال ينتظر أن تنهيه ، لكن في اللحظة التالية تصدم نفسك بحقيقة أن لا شيء يُعمل)
ماذا! زمن يفسد الأفكار يا سهيل؟
لقد جاء ما خشيناه. حلّ علينا ذلك الزمن الأغبر الذي أفسد كل شيء: الأفكار، الدين، الثقافة، المجتمع، الدولة، الانسان والحياة.
جاء "محررنا" الأحمق، وحلت مكان رواية سهيل، مستجدات تكفي لكتابة الف ريفيرا أخرى، أكثر قسوة وتعقيداً منها. رواية جديدة راحت تتحدث لنا عن الحرية، حرية بقدر ما كنا نخاف على ضياعها، صرنا نموت خوفا منها. حرية تقع على حافة وتخوم الموت هي ما وعدونا بها. حرية راحت تميتنا بالجملة والمجان في كل لحظة. صار موتنا سلعة، تشرف عليه دولة المقابر. وصارت الحياة تجارة مقايضة حرة، تديرها "سلطة غاشمة تدعونا الى الطاعة والصمت"
(.... في بلدي لا يموت الناس فيه بسبب العنف وحده ، بل بسبب تحول الأفكار الى حجارة ، وتحول الدين الى سوط ، وتحول الطائفة الى ملاذ. إنه ليس الموت وحده بل الموات. هذا الذي يجعل الحي ميتاً في العقل والروح)
كانت حماقة احتلال بلدنا في نيسان 2003هي الصلافة الأقبح في تاريخ البشرية المعاصر.
حينذاك، ومع أول محاولة لاختطافه، صار من السُخف والبلادة مني ، سؤال أخي سهيل عن أسباب عدم تكملة مشروع روايته. لكن بقي سرّ الريفيرا الأغرب وسيبقي، يتعلق بي وحدي، فأنا بالرغم من أنني من القلائل الذين يعرفون سرّها، كنت قبل كتابة هذه السطور بأيام متوهماً بعنوانها الحقيقي. لقد حفظته على النحو الآتي :"الريفيرا العربيـ..ـة" بتاء مربوطة زائدة، وهو ما صححه لي سهيل مؤخراً، قائلاً إن "الريفيرا" اسم فندق في عَمّان نزل به عدة أيام، ووجد فيه عددا من الهاربين العرب ، فمنحه صفة العربي.
كعادة فارس موهوم مثلي، أوهمت نفسي ولمدة عقدين، أن عنوانها بتاء مربوطة باعتباره عنوان رواية استفزازي صادم قد يثير دهشة القراء. عنوان كان يلائم مزاجي تماما، ويعبر بشكل جلي عما يجري في سجن اغترابنا الواسع الكبير، وعن مكان حجرنا الصحي والعقلي الشاسع الممتد من عُمان شرقاً ، حتى تطوان غرباً.

في تلك الأيام دخلت على أخي وهو في محراب صلاته، هناك حيث مهبط تأملاته الساحرة، وكتاباته المثيرة للدهشة. كان ذلك في زمن الحصار وزمن الكتابة بالقلم، قبل دخول الحاسبات. كان سهيل بيده سيجارة وغارقاً في تأملاته ورائحة الدخان تملأ غرفته. كانت آلام ظهره المزمنة، قد فرضت عليه جلسة غريبة عند الكتابة، فقد كان يجلس على ركبتيه واضعاً مخدة تحتها، ومتكئا بيديه على القنفة، ليكتب على باحتها، ناشراً أمامه أوراقاً وقصاصات يحتاجها للمراجعة. كان حوله ثلاثة أكواب شاي فارغة، واحد منها امتلأ ببقايا أعقاب السجائر، مع وجود منفضة بقربه مملوءة هي الأخرى بأعقاب ورماد سجائره، فضلاً عن وجود صحن فيه بقيا خبز خفيف ومقرمش، اعتاد سهيل على علس كسرات منه مع الشاي، فمن عاداته أن ينسى وجبات أكله، حينما يكون مستغرقاً كل وقته في الكتابة. كانت تلك واحدة من طقوس الكتابة والقراءة لديه. كان يحيطه وهو جالس هكذا على الأرض، أكثر من خمس علب كبريت ونحو عشرة فلاتر سجائر بلاستك شفافة مستعملة فيها أثر نيكوتين أسود، كنت قد كسرت بعضا منها برجلي عند دخولي الغرفة. منظر كهذا كان مألوفا عندي، فهو واحد من طقوس صلاة سهيل "حسب وصف كافكا :الكتابة صلاة.!"، كان المشهد غنياً وضاجاً بالحركة والالوان، واظن أن هذا الضجيج الصامت كان يغري تأملاته بالنزول، ليثري بها سهله الممتنع ويثرينا بالجديد الممتع.
لم ادهش ولم أرَ أيّ تغيير جديد في طقوسه، هو ذات المشهد ونفس طقوس النسيان تلك، لم تتبدل لديه منذ أربعة عقود مضت وانا مع طقوس كتاباته!

يومها، راح سهيل يقرأ لي بعضا من نصوص ريفيراه تلك، ورحت سارحا معه في سهول سرده المشوق، اطوف معه في شوارع وسينمات مدن روايته، اسير مع شخوصها، وبرغم تبدل أسماءهم، لكني كنت أعرفهم وكأنهم لم يغادروا بالي بعد. رحت أدور معهم في أماكن كانت هي الأخرى مثل أطياف كنت قد سمعت بها ولم أرها من قبل. مشاهد كأني عرفت تفاصيل نواعمها من دون المرور بها، حتى أن أسماءها ليست غريبة عني. كانت تجرني بشغف اليها، ما كان قد رسخه في بالي ومضات مضيئة مما كان ترويه لي عن احداث وصور وذكريات كانت تجمعنا معا. ذكريات تتعلق بطفولتنا وصبانا، ومع ما رافق شبابنا من احداث ومن مشتركات حياة كنا قد عشناها سوياً، ملتصقين كتوأم.
توأم..؟ ليست مبالغة، فقد كان سهيل يكبرني بعامين فقط ، وكنت اطول منه بقليل ، لكنه كان امامي عملاقاً، بفارق معرفي شاسع بيننا ، ربما يفوقني فيه سهيل بمئة عام. فارق معرفي بدأ منذ الصغر. قد تبسطه بصورة أوضح ذاكرة أعياد طفولتنا معا، ففي حين كانت عيديات اخي سهيل ومنذ الابتدائية، يشتري بها مجلات او كتيب صغير، في حين كنت انا اصرفها على العنبة والصمون ومراجيح الهوه.!

مع رائحة السجائر ودخانها، راح سهيل يقرأ لي فصلا من ريفيراه، بينما رحت انا سارحا معه اثبت في بالي صور خياله، متنقلا معه ما بين البصرة والسماوة وبغداد، ألملم من مفردات سرده، ومضات خاطفة ونتف من قصص مشتركات طفولتنا. واعترف ـ ان من ضمن مشتركات طفولتي معه، بل الكثير منها، كان من اسقاطات خيال ذاكرتي، ومن خزين قصص شفاهية كنت سمعتها، ومن بعض ما كنت قد تلقفته من قراءات شبابي، أو مما سقط في مسامعي من حكايات أمي وجدتي وأخوتي، عن البصرة والسيبة والخور والمناوي وابي الخصيب وأم الدجاج وعن سينما السماوة الصيفي التي رسخت في بالي. قصص مدن طفولتي الاولى التي لم يبق في ذاكرتي منها سوى أسماء وأطياف بلا شواهد وأمكنة، ورغم ذلك، فقد راحت هي الأخرى، تمارس سطوة خيالها الخصب معي وتشكل وعي طفولتي الملتبس هذا. سطوة ذاكرة يقظة منحتني ايحاءً ملهماً، وشعوراً مهيمناً، رسَّخا في ذهني يقين لا ريب فيه، اقنعت به قلبي وعقلي بمسلمات ثابتة، من أن اخي سهيل كان يروي لي في ريفيراه، سيرة ذاتية عن حياته القريبة جدا مني، وعن سيرة عائلتنا، عن هجرات شقاءها، عن رحلات تشردها "الغجرية" المكوكية التي لا تحصى.

حينذاك وبينما كان اخي يقرأ لي فصلا من روايته، راحت تلتمع في رأسي وعيني جدحات مصورة راحت تضئ لي ذاكرتي وتعيد لها صور امكنة ووجوه بملامح كنت فد حفظتها، ولم تخطر علي بالي منذ نصف قرن تقريبا.. ومضات من "”Flash Back خاطفة راحت تملأ مخيلتي، كما يحدث في أفلام السينما بالضبط، رحت بها استرجع صور وأحداث ووجوه أحبة خالدين لا يُنسون. من يومها، تملكني هوس جنوني، وشعور جارف بتبني أمر رواية الريفيرا.
حينذاك ، صارت رواية اخي وكأنها خاصة بي وحدي . هوس داخلي كان يعكس بشكل فاضح ويعيد ليذكرني بلا مناسبة بعاهتي، وعما أعانيه من مشكلة عمى عيني..
كان هوسي هذا بالرواية يعبر عن آمال شيخوختي التي ضاعت، ولتكملة مشوار شغفهها في قراءة وكتابة ما أحب، لإطفاء يقظة هلوسات ذاكرتي واسئلتي المؤرقة.

تحولت هلوساتي تلك، ووميض صورها الى حلم يقظة نشط، متعب، راح ينتقل معي و لا يبارح خاطري وامنياتي في ان يكمل سهيل رواية الريفيرا العربية وبالتاء المربوطة.!

فلاش باك:1
أوقفتني ومضة خاطفة من ريفيرا سهيل، كان قد تحدث فيها عن حب والدتنا للسينما، وعن حبها للمثل تيرن باور وشعره المتهدل السرح. في تلك اللحظة، اخذتني تلك الومضة وسحبتني الى لوج عائلي في سينما الاعظمية:
كان الفيلم "ڤيڤا زاباتا،" ـ اخراج إيليا كازان وبطولة مارلون براندو ـ. يتحدث الفيلم عن ثائر مكسيكي يحب الفقراء. كان زاباتا أميّا لا يعرف القراءة والكتابة، طلب من احد مساعديه من مثقفي ثورته، ان يكتب له رسالة غرامية لحبيبته. مثقف الثورة هذا ، بعد ان كتب له نصا جميلا، رسم له على الورقة صورة حمامة سلام.!. زباتا البطل، استهجن صورة الحمامة وغضب وثار وطلب من الرفيق رفع رسم الحمامة ورسم بدلا عنها صورة نسر، رمزاً للقوة.!!
من يومها ما زلت اسمع ضحكات أمي وهي تتصاعد ومن دون أي حذر.
بقدر ما التصقت ضحكات أمي في ذاكرتي، التصق مشهد رسالة الغرام تلك، في ذاكرتها هي، وصارت أمي تردده وتحكيه مع كل مشهد ساخر يشابهه مرّ في حياتها.
اليوم وحين أسترجع فيه ضحكات أمي بعد ثلاثين عاماً من رحيلها، أسترجع معها بؤس وشقاء حبها لأبي سامي العليل، ثائر آخر الزمان، لا يختلف عن زاباتا سوى بثقافته. لعل ضحكاتها تلك ذكرتها بشيء ما، بضيم أو بحادث مشابه لرسالة حب زاباتا. أليست هي من حاولت الانتحار في ذكرى وفاة أبي حبيب شقائها المرير!.
ضحكات امي تلك كانت لها ومضة وحكاية أخرى، ربما هي أشد منها لذعة وحزن ، سأحكيها بعد أيام.
يتبع



#سعد_سامي_نادر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تذكارات عائلية بين أخي سهيل وأبي سامي نادر مصطفى
- “ لحظة قَسَم لدخول جنّة تدعى هولندا “2
- “ لحظة قَسَم لدخول جنّة تدعى هولندا “ 1
- ماذا وراء اجتماع -هيئة أركان الطوائف- العراقية !؟
- حمير ومتوحشة ايضاً !
- ومكروا -الأخوان - ومكر الله، والله خير الماكرين.!
- - غلين بيك- بين أخلاقيات وسفالات المأزق السوري !
- -العود- من زرياب غرناطة الى سفاهات السلفيين!!
- قراءة في حوار د. خضر سليم البصون:هل كنا مكون يهودي أم جالية ...
- قراءة في حوار د. خضر سليم البصون -هل كنا مكون يهودي أم جالية ...
- قراءة في حوار د. خضر سليم البصون مع أبيه -2 –
- قراءة في حوارات دكتور خضر مع أبيه سليم البصون.. -1
- الحرية للمفكر-الجاسوس- أحمد القبانجي !؟
- هل تستحق الاعتقال، تساؤلات السيد أحمد القبانجي..!؟
- تظاهرات السلطة، نهج طائفي!!
- حزب الدعوة .. تحولات فكرية لقيادة المرحلة!!
- الدكتور العيساوي،، وتطييف السياسة
- بدل كتم أفواه المفسدين، كُتم صوت -البغدادية- !!
- - شرف الله - بين النزاهة والتكليف الشرعي!
- تسقيطات سياسية، أم تحسين سمعة!؟


المزيد.....




- بايدن يعترف باستخدام كلمة -خاطئة- بشأن ترامب
- الجيش الاسرائيلي: رشقات صاروخية من لبنان اجتازت الحدود نحو ...
- ليبيا.. اكتشاف مقبرة جماعية جديدة في سرت (صور)
- صحيفة هنغارية: التقارير المتداولة حول محاولة اغتيال أوربان م ...
- نتنياهو متحدثا عن محاولة اغتيال ترامب: أخشى أن يحدث مثله في ...
- بايدن وترامب.. من القصف المتبادل للوحدة
- الجيش الروسي يدمر المدفعية البريطانية ذاتية الدفع -إيه أس 90 ...
- -اختراق شارع فيصل-.. بداية حراك شعبي في مصر أم حالة غضب فردي ...
- بعد إطلاق النار على ترامب.. بايدن يوضح ما قصده في -بؤرة الهد ...
- ترامب يختار السيناتور جي دي فانس لمنصب نائب الرئيس


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سعد سامي نادر - تذكارات عائلية بين أخي سهيل وأبي سامي نادر مصطفى 2