|
كورونا والإبداع
سفيان ميمون
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 6563 - 2020 / 5 / 13 - 16:53
المحور:
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات
خلف وباء كورونا خرابا كبيرا بحصده لأرواح عدد كبير من البشر ، إنها كارثة إنسانية كل المقاييس ، ورغم كونها كذلك فإن هذا الوباء سلمنا لكثير من الأمور الإيجابية خاصة ما تعلق منها بصور التضامن المختلفة على المستوى الطبي أو الاقتصادي ، فقد هبت دول لمساعدة دول أخرى ووضعت بعض الدول خبرتها في يد دول أخرى ، رغم بعض صور الجشع والأنانية التي صدرت عن بعض الدول الغربية بقرصنتها لشحنات للمواد الطبية في عرض البحر، ذلك ما نجد له تفسيرا في الضغط الكبير الذي أحاط بهذه الدول جراء الوباء المتسارع كالنار في الهشيم ، بما خلق نوعا من الأنانية لدى هذه الدول جعلها تبحث عن الخلاص بأية طريقة ، ناهيك عن الأنانية المترسبة أساسا لدى الدول الغربية ومجتمعاتها كنتيجة للنظام العالمي السائد ، نظام العولمة الذي جسد الشيئية والمصلحة الذاتية لدى الفرد الغربي ودولته بشكل يدعو للقلق على إنسانية الإنسان ، ولعل هذا الوباء ذاته هو تجسيد صريح لتلك المادية القاتلة التي أجهزت على الإنسان وجعلت الأفراد في يد تجار الدواء ومهندسي الإستراتيجيات الاقتصادية للدول المتقدمة . لقد كانت صور التضامن أيضا واضحة في المجتمع الجزائري كغيره من المجتمعات الأخرى ، وقد لاحظنا ذلك في تلك المساعدات الطبية والغذائية التي حشدت في قوافل نحو مدينة البليدة التي وضعت تحت الحجر الكلي ، وفي المساكن والفنادق التي تم إخلاؤها لتوضع تحت تصرف الطواقم الطبية التي لها اتصال بمرضى كورونا لتجنب نقل العدوى لأهاليهم، وفي إعداد وجبات ساخنة لهؤلاء وهلم جرا.. غير أن الذي يدعوا للتأمل أكثر هو تلك الإبداعات والابتكارات التي أنجزها شباب متعلم وتكفلت بها كفاءات لم نكن نسمع لها صوتا من ذي قبل ، كفاءات من حقول شتى تضافرت جهودها فأثمرت إبداعا كان محل كفر من أفراد المجتمع ومن مؤسسات الدولة كليهما، وإلا كيف نفسر التهميش الذي يلاقيه الشباب المتعلم يوميا وفقدان الثقة في النفس والضجر والتذمر الذي أصبح يحيط بهؤلاء الشباب ، صور عديدة للاغتراب أصبح عليها هذا الشباب ، غير أن أزمة كورونا ساهمت في الكشف عن قدرا ت هؤلاء الشباب وبيان بعض معالم أزمة الإبداع والابتكار ، لقد بينت أزمة كورونا بوضوح أن اغتراب الشباب المتعلم عن حقه في الإبداع إنما هو راجع في الأصل إلى ما يحيط بهم من ظروف ساهمت بشكل أو بآخر في تشكيل شخصيات بائسة لا يمثل الإبداع لديها مقصدا مقدسا ، ببساطة لأن روح الإبداع خنقت فيه ، يفتقد شبابنا للتشجيع ولتثمين ما يمكن أن يقوموا به من جهد ولو كان ذلك بشكل معنوي يحس من خلاله الشاب المبدع بذاته المبدعة ، يحس بمكانته وبتميزه الذي دأب على بنائه منذ الصغر، هذا التميز الذي لم تكتمل معالمه للأسف لدى كثير من الشباب الذي أصبح يرى ذاته متميزا فعلا ولكن من خلال ما طاله من تهميش وإقصاء . بينت أزمة كورونا أن الشباب المتعلم الذي كان في الهامش أصبح لاعبا محوريا ، وأصبحنا نرى كفاءات لم نكن نراها من قبل ، في مجال الطب خاصة حيث الخطب هو خطب صحي بالدرجة الأولى من خلال أجهزة للتنفس الصناعي وأجهزة للوقاية وهلم جرا ، وفي مجالات العلوم التقنية المختلفة وبخاصة في مجال الإعلام الآلي من خلال بعض الأجهزة التي تسهل تداول المعلومات الخاصة بالوباء ، بل وفي مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية من خلال بعض التحليلات المكتوبة والمسموعة والمصورة التي تحاول رصد الآثار النفسية والاجتماعية للمرض . رغم الضرر الجسيم الذي خلفه وباء كورونا إلا أنه جاء حاملا رسالة مفتوحة للمجتمع والدولة معا ، رسالة كتبت حروفها بخط غليظ أن يا أيها المسؤولون ويا أيها الناس ثقوا في شبابكم المتعلم ، ثقوا في كفاءاتكم ، وامنحوهم الثقة أيضا ، فهم ومن غير ثقة كمن يملك أداة الرماية غير أنه يفتقد للتدريب الذي يسمح له بالرمي ، هذا الذي يحتاجه هؤلاء الشباب المتعلمون بعد أن تنجلي الجائحة ، هذه الجائحة التي كشفت عن جائحة أكبر وأخطر على المستوى الاجتماعي ، فلعل الجائحة الجسدية إيذان بانقضاء الجائحة الاجتماعية التي رمت بالكفاءات بعيدا وقربت من لا يعدو إبداعه مجرد صراخ وتمايل ، من خلاء إنزال هذه الكفاءات منزلتها الحقة ودعمها بوسائل وإمكانيات العمل وتشجيعها لكي تبدع وتكون في الوقت نفسه قدوة لمبدعين آخرين قادمين . نسوق هذا الكلام لأن الواقع يدلنا على ذهنيات ترسبت في المجتمع ، بل وتكلست فأصبح من الصعب زحزحتها ، فليس من الصعب أن تعثر على معلم في الصف مثلا يوصي طلبته بأن لا يكونوا مثله معلمين أو أساتذة ، أو أن تتلمس في خطاب رجل مثقف -حتى لا نتحدث عن عامة الناس- إعلاءه لصاحب صنعة أو رجل أعمال ، وبالمقابل لا ينال الذي يشتغل في مجال العلم الشيء الكثير من تقدريه ، في واقعنا أيضا ينال الفنان ولاعب الكرة الشأن الأكبر في تقدير أفراد المجتمع لكن المتعلم الذي يمكن له أن يبتكر لا شأن له ، والابتكار طبعا ليس ابتكارا ماديا فحسب ، لا يمكن الحديث فقط عن الابتكار الملموس ، بل أيضا عن ابتكار وإنشاء المعاني والأفكار ، على أن الفصل بين المادي والفكري غير وارد بالمرة على اعتبار أن أي اختراع مادي مسبوق دون شك بفكرة ، هذا أمر بديهي لكن ليس هذا هو القصد ، بل القصد أن الابتكار أيضا يكون في المجالات التي تتخذ من المعاني والأفكار عملة التداول الأساسية ، مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والدراسات الثقافية والفلسفية والأدبية وغير ذلك . الاهتمام بالطاقات البشرية على المستويين اليدوي والفكري وبخاصة على المستوى الفكري هو رهان أساسي في سبيل التنمية دلنا عليه وباء كورونا ، وأرشدتنا إليه الحاجة للدفاع عن أجسادنا التي يهددها الفيروس ، هذه الطاقات التي خرج الكثير منها من الجحر الذي ضمها لسنين ، آن لنا اليوم أن نثق في هذه الطاقات وننزلها المنزلة التي تستحقها ، آن لنا أن نكف عن احتقار ذاتنا وتهميش بعضنا بعضا وأن نأخذ العبرة من هؤلاء المبدعين الذين خرجوا من تحت الأرض حيث حجر على عقولهم وهممهم لعقود طويلة بدوافع لا يمكن حصرها في بضعة سطور، فقد تداخل فيها السياسي بالاجتماعي وتحالف فيها الاقتصادي مع النفسي ، لقد آن لنا اليوم أن نشخص ذاتنا الإنسانية في القيم التي نتداولها وفي الأفكار التي نطرحها وفي التصورات التي نرى من خلالها ذاتنا والآخرين ..، لنمضي بعد ذلك في سبيل التغيير ، هذا التغيير الذي لا يجب أن تكون بدايته إلا من الذات فقد اتخذ هذا قاعدة في فلسفة التغيير لدى كثير من المفكرين ، ذلك ما نجده عند مالك بن نبي الذي يجعل من الأية الكريمة " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " منطلقا هاما للتغيير ، والذي يجعل من الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان متصلة بالأفكار والقيم والمعايير والسلوك وغير ذلك مناط كل تغيير ، آن لنا أيضا أن نخرج من دائرة الاتهام المتبادل بالتخلف وضعف المستوى والتهكم الذي يكيله بعضنا لبعض والذي أصاب ذاتنا بالكبر وتسفيه كل فكرة أو رأي ، بل علينا على أن نرجع إلى ذاتنا فنحدد مستوانا بكيفية موضوعية ونرصد مالنا من إمكانات بشرية ومادية لنرسم بعدها الخطط اللازمة للإقلاع ، فكل نهضة قائمة لا محالة من الذات لا من غيرها ، وهنا نستحضر رأي الجابري في مسألة النهضة حيث يرى أنه يستوجب علينا إذا أردنا أن ننهض الرجوع إلى ذاتنا وتحديد مكاننا من التقدم والتخلف لننطلق منه في النهضة والتطور ، أي أن العمل يكون على مستوى الذات لا خارجها ، هذا يدعونا للعودة إلى الطاقات المختلفة التي أثبتت جدارتها خلال أزمة كورونا وإعادة تفعليها بالاهتمام والثقة والتشجيع.....
#سفيان_ميمون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السوسيولوجي والطقس الديني
-
التعدد الثقافي والديمقراطية
-
العلوم الاجتماعية بين الميثودولوجيا والأيديولوجيا
-
الجزائر وأنثروبولوجيا الاستعمار
-
أهمية العلوم الاجتماعية في التنمية – علم الإنسان نموذجا –
-
عقدة المثقف
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
الآثار القانونية الناتجة عن تلقي اللقاحات التجريبية المضادة
...
/ محمد أوبالاك
-
جائحة الرأسمالية، فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية
/ اريك توسان
-
الرواسب الثقافية وأساليب التعامل مع المرض في صعيد مصر فيروس
...
/ الفنجري أحمد محمد محمد
-
التعاون الدولي في زمن -كوفيد-19-
/ محمد أوبالاك
المزيد.....
|